وسط ثغاء الأغنام وصوت الأهازيج الشعبيّة والقصائد الشعريّة للرّجال تتعالى زغاريد النسوة إعلاناً عن بداية الاستعداد للجزّ؛ هنا في صحراء الجنوب التونسي يأتي الأهالي ككلّ ربيعٍ لجزِّ أغنامهم وسط أجواء احتفالية رائعة.
يبدأ الكرنفال الشعبيّ بتوزيع الأدوار؛ فالجميع هنا مطالَبٌ بمدّ يد المساعدة، ولو بزغرودة أو قصيدة شعرية، فيشرع الرجال بمساعدة بعض النسوة في نصب الخيام العربية أو "بيوت الشَّعر" كما تسمّى هنا وتنتشر البنات هنا وهناك ليجمعن الحطبَ الذي ستتطوَّق به الخيامُ خشية زحف التربة وحطباً آخر للطبخ.
ليس بعيداً عنهنّ يلعب الصِّبْية على كثبان الرمال مع صغار الخرفان؛ تتعالى ضحكاتهم فتزيد المكان بهجة ومرحا أما الرجال فبعضهم يشرعون في جلب المياه من البئر البعيدة على ظهور الأحمرة والبعض الأخر يتولّى ذبح خرفان الوليمة وسلخها وقص اللحم ومن ثمة يأخذه إلى النسوة في الخيمة الأخرى اللاتي تحضرن لوازم الوليمة فتغسل إحداهن المواعين وتجمع أخرى الحطب في الموقد بينما تتولّى أخرى اقتطاع الخضار واللّحم.
للتحضيرات هنا تسرع النساء على قدم وساق من أجل إعداد الغداء كما جرت العادة؛ قِدْر كبير من الكسكسيّ بالخضار واللّحم يجب أن يجهز عند منتصف النهار. أما الرجال فأدوارهم مقسّمة بشكلٍ متناسق كمجموعة تتولّى عملية حدّ أشفار “الأجلام” أي المقصات، و مجموعة ثانية تسمى “الكتّافة”، وهي التي تتولّى عملية شدّ وثاق الشاة حسب تقنيات خاصّة في التعامل مع الحبل، ولفّه على أرجل الحيوان.
للراعي هنا دورٌ كبير في معرفة صحّة كلّ رأس من الشّياه، إن كان بها كسور أو جروح أو دمامل من شأنها أن تعطّل عملية الجزّ، أو تؤذي الشاة، فتجده يجوب المكان ويتفقد كلّ واحةد منها على حدة.
الكبشُ هو آخر من يُجزّ من القطيع، لأنّ طقوس جزِّه خاصة، فهو مقدس عن بقية الأغنام، وقصّ صوفه مختلف عنها، و يُؤتى بأصغر من في الحضور، ليركب فوق الكبش، وهي عادةٌ يدأب عليها الجميع لبثّ الشجاعة في قلوب الصِّبية.
الخالة عائشة، كبيرة العشيرة، تتنقل ببطء بين القطعان هنا وهناك؛ تجول ببصرِها، وتتفقّد كلَّ كبيرة وصغيرة، فهي لا تعوّل على القيام بالعادات والتقاليد من قبل هذا الجيل حسب قولها، فنسيان طقوس الجز بالنسبة لها فال سيء على الرزق.
سعاد، ابنتها البشوشة المحبوبة بين الجميع تكسر الصمت بقرعات على الطبلة التي سخنتها أنفاً على الموقد من أجل تليين جلدِها، وتدعو الصبايا للالتفاف حولها والغناء، فيسرعن دون تردّد، وتتعالى أصواتهنّ بأغانٍ حفظنها عن أمّهاتهن، ولا تغنى إلا في الأعراس أو في موسم الجز.
بينما في الجهة الأخرى من المرعى يتربّع الرجال، كلّ واحد منهم أمام شاة، ويشرعون في عملية الجز. ويساعدهم في ذلك الأطفالُ في شدّ جلد الشاة قبل قصّ الصوف أو الشعر، خشية جَرحها بالمقصّ الكبير الحادّ.
تأتي الخالة عائشة لتوزّع أكلة "البسيسة" على الرجال. تلك الأكلة الشعبية التي تتكوّن من الفواكه والبقول الجافة والتمر تزيدهم صبراً وتحملاً على التعب. تقول عائشةُ بلغة الخبيرة الواثقة: لا يستطيعون مقاومة الجز إن لم يملأوا بطونهم بالبسيسة.
تقول عائشةُ بلغة الخبيرة الواثقة: لا يستطيعون مقاومة الجز إن لم يملأوا بطونهم بالبسيسة.
ليست البسيسة وحدها التي تحفز الرجال على العمل أكثر، بل القصائد الشعبية والأهازيج التي تتعالى بين الحين والآخر، هي الأخرى عاملُ تحفيزٍ ليس بالهيّن، وإذا ما سكن الجوُّ قليلاً، تأتي إحدى النسوة بكانون تملأه بخوراً تجوب به على كامل المرعى قصدَ طرد العين والحسد.
فتستأنف الأغاني من جديد يتخلّلها صوت المقصّات المتتالي، وكأنهم يتسابقون على قدرتهم على جزّ أكبر عدد ممكن من الشاة في وقت قصير؛ فتتباهى النسوة بأزواجهن إذا أكملوا جزّ شاة قبل آخرين فيأتين بالماء والصابون، ويساعدنهم في غسل الشاة قبل إطلاق سراحِها.
بعد الانتهاء من الجز تطلى جميع الشياه بالدواء خوفاً من داء الجرب أو لالتئام جروحها، ويطلق سراحها، فتذهب مسرعة بحثاً عن صغارها، ليأتي دور جزّ الكبش أو كما يسمى هنا "الفحل", وهو آخر من يُجزّ من القطيع، لأنّ طقوس جزّه خاصة حيث لا يطرح أرضاً، فهو مقدس عن بقية الأغنام، وقصّ صوفه مختلف عنها، بل حتى "البسيسة" مخصصة له، وتسمى "بسيسة الكبش"، حيث تجهّز النساء بسيسةً خاصّة به تُخلط بالتّمر، و يُنشد له، و يُؤتى بأصغر من في الحضور، ييركب فوق الكبش وهي عادةٌ يدأب عليها الجميع لبثّ الشجاعة في قلوب الصبية.
ونحن هناك فاحت رائحةُ الكسكسي في الأرجاء، فبعثت جوعاً في البطون جعل الجميع يلتفّ حول الخيمة التي يُطهى فيها الكسكسي. فأمر كبيرُ العشيرة بوضعِ الأكل وتوزيعه على الحاضرين. أسرعت السيّداتُ في فرش الأبسطة وجلب الماء وتحضير السلطة وقصاع الكسكسي، فالصحون الصغيرة لا تسدّ الرمق، والأكل الفرديّ غير دارج هنا.
أما الخالة عائشة فترفض الأكلَ قبل إعداد الشاي للجميع؛ تضع الإبريق الكبير على الموقد وتخلط الشاي بما لديها في مؤونتها من أعشاب تزيده لذة وطعماً فريداً تتباهى به عند مدحِ أحدِهم بعد احتساء كأسٍ منه.
يلتفّ الحاضرون حول القصاع؛ النساء في جهة، والرّجال في الجهة الأخرى من الخيمة، ويشرعون في الأكل مع الثناء على النساء اللاتي أشرفن على المأدبة.
أما الخالة عائشة فترفض الأكلَ قبل إعداد الشاي للجميع؛ تضع الإبريق الكبير على الموقد وتخلط الشاي بما لديها في مؤونتها من أعشاب تزيده لذة وطعماً فريداً تتباهى به عند مدحِ أحدِهم بعد احتساء كأسٍ منه.
بعد أجواء الاحتفال والمآدبِ يجهّز الحاضرون أنفسهم استعداداً للعودة إلى ديارهم وملامحِهم توحي برغبة في البقاء وسط هذا الكرنفال الشعبيّ المبهج للنفس في انتظار الموسم القادم على أحرَّ من الجمر.
إعادة إحياء هذا الموروث كلّ سنة بالجنوب التونسي هو خيرُ تعبير عن التجذر والأصالة والانتماء العربي. والاعتزاز بهذا الانتماء يعبّر عن الوفاء للأجداد، ويرسم ذكريات لا تمحى من مخيلة الأحفاد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...