تجذب الخرطوم سكّانها من كافة مدن وقرى السودان كمغناطيس لا يقاوَم، فالتنميّة تتركز هناك، أي في العاصمة، لكنها تفشل في خلق مجتمعٍ منفتحٍ. تفتح الخرطوم أبوابها للهاربين من المأساة السوريّة ليشاركوا الشعب في عذابته المستمرة عبر الزمن، يصلها أيضًا جيران من أفريقيا، خاصة شركاء النيل المتنازعين على تقسيمه من مواطني الانفجارين السكانين في مصر وأثيوبيا. ولعلنا لا نعلن أمرًا خطيرًا إن تحدثنا عن أشقائنا قبل الانقسام، العائدين من جنوب السودان بجواز سفر مختلف وبنفس الأوضاع القديمة. بالإضافة للبعثات الأجنبيّة والغربيّين العاملين في القطاع الخاص والصينين والفلبينين والفلسطينين، تقريبًا هذه هي تشكيلة الناس في مدينة التقاء النيليْن.
على الرغم مما يبدو من ثراء ثقافيّ وانسجام، إلّا أن الحقيقة تجعل من تلك المجموعات السكانيّة تشترك في الحيز الجغرافيّ والمناخ والأزمات فقط، إن الجميع يعاني من ظلام بعض الشوارع في الليل ومن الفيضان في الخريف وكل تبعات الفساد قد تفيد إحدى الفئات الاجتماعيّة من معدل التضخم وشروط السوق المفتوح. لكن دعني أخبرك بوضوح عزيزي الوافد إلى عاصمة السودان، هذه المدينة ستصيبك بالعُزلة، فأنت الضيف الغريب مهما طالت إقامتك، وبغض النظر عن فائدتك لها. مازالت الأثيوبيات يدخلنها بطرق غير شرعية ويقمن في المنازل كمساعدات و دون أن تتسرب من ثقافتهن شيئًا سوى القليل من المأكولات، وعلى المستوى العائليّ الاجتماعيّ، إنّ الزوجة الأثيوبّة هي بالتأكيد الزوجة الثانيّة.
على الرغم مما يبدو من ثراء ثقافيّ وانسجام، إلّا أن الحقيقة تجعل من تلك المجموعات السكانيّة تشترك في الحيز الجغرافيّ والمناخ والأزمات فقط
كثير ما نسمع الناس تكرر عبارات التذمر من ”الغريب الذي ينافس ابن البلاد و يضيق عليه“، علينا أن تتذكر أننا هنا نتحدث عن حرفيّين مصريّين يملكون ورشهم الخاصة وشوام يديرون ويعملون في مطاعم مولوها شخصيًا، فالأمر لا يتعلق بوظائف يتنافس فيها القادم جديدًا إلى المدينة مع المولود فيها.
لا تندهش عزيزي إن لمستَ عداءً وكراهيّة نحوك وأنت تحمل جواز سفر سودانيّ ليس بالميلاد، وليس لأن أحد الوالديْن سودانيّ الأصل، فما زال السودانيّون يرفضون "الغريب". وللأسف، حملات عدة نشاهدها في موقع التواصل الإلكترونيّ تنسب للسوريّ تخريب وغش تجاري وللأثيوبيّ السرقة وللصوماليّ حادثه اغتصاب!
من المتوقع أن نلمس كراهيّة مقابلة، كرد فعل، وهذا واقع لكنه ليس معلنًا. بإمكان الباحث عنها في الفيسبوك، أن نجد منشورًا لوافدين جديد يتحدثون عن البلاد ومواطينها بسوء. و في حالات كهذه، تعلو أصوات رافضي الجزء العربي في تكوين الهُويّة السودانيّة أيضًا. هؤلاء يناشدون ”بتطرفٍ“ تصل إلى درجة المطالبة بالانفصال عن جامعة الدول العربيّة.
لا تنتهِ القصّة هنا، هنالك أيضًا حالة استنفار ضد أبناء النيل في الشمال ولا يساعد في ذلك الإعلام المصري المتورّط في أكثر من حادثة إشعال وقود الفتنة بين الشعبيّن. من أبرز نماذج الانحياز ضد المصريّ هو تشجيع جماهير كرة القدم للجزائر في مباراة مصر والجزائر في الخرطوم عام2009. يحدث استثناءات، كأن يدعم السوادنيّون الشاعر المصريّ هشام الجح بعد مشاركته في برنامج ”أمير الشعراء“ التلفزيونيّ.
تجذب الخرطوم سكّانها من كافة مدن و قرى السودان كمغناطيس لا يقاوم، فالتنميّة تتركز هناك، أي في العاصمة، لكنها تفشل في خلق مجتمعٍ منفتحٍ.
لا تندهش عزيزي إن لمستَ عداءً و كراهيّة نحوك وأنت تحمل جواز سفر سوداني ليس بالميلاد، و ليس لأن أحد الوالدين سودانيّ الأصل، فما زال السودانيّون يرفضون "الغريب".
إن أحبّتك هذه المدينة، فسوف يُحتفى بك دومًا، ستُننح صكّ غفران يسرى مدى العمر، ستحاول أن تجد في سلالتك جدّا سودانيًا.
إن أحبّتك هذه المدينة، فسوف يُحتفى بك دومًا، ستُننح صكّ غفران يسرى مدى العمر، ستحاول أن تجد في سلالتك جدّا سودانيًا. أما إن كنت من الأغلبيّة التي لم تنل شرف محبة المدينة، ستعيش عزلتك الكئيبة، وستصنع لك مجتمعًا صغيرًا يشبهك.
هذه المدينة، يقول سكانها أنها صارت أجمل في الأعياد، حين يعود أبناء الأقاليم لمسقط رأسهم في تبجح، و ينسى مدعي أحقيّة الخرطوم أن هذا الخليط هو المكوّن الأكبر، وأن هؤلاء ليس لديهم خيارات أفضل، ولربما يتوقون لمغادرتها، واستثمار زمنهم ومجهودهم وأموالهم في مدنهم وقراهم، لكنهم لا يستطيعون، وأحيانًا مُنعوا من ذلك بسبب ظروف بلادهم.
الحديث عن هذه المدينة المعزولة يطول. لكن لا تحزن، فهي لا تعرف أن تكون أفضل بعد، إنها تعاني من العنصريّة وانعدام التنميّة ومشاكل تعجزها عن التعاطف و ممارسه الإنسانيّة.
في الخرطوم، عاصمتي المثلثة، ستجد الناس تسكن محليّة أمدرمان و محليّة بحري، لكنهم يعملون في محليّة الخرطوم والعكس صحيح. وستجدهم في الأمسيّات يقضون أوقات فراغهم في مقاهي ومطاعم الخرطوم، أو المسرح في أمدرمان أو في قاعة أفراح في بحري، يقسمها النيل لثلاث جهات، و لا يوزع الرزق بالتساوي ولا حتى فرص العمل، فستمضي وقتك تنتقل داخلها لأنك إن تمكنت من العمل في إحدى المحليّات، فلربما كنت من قاطني الأخرى.
تظن الخرطوم أنها وحدها في خريطة السودان، فلا تستغرب إن ردد سكانها عبارات إنكار لما يعانيه من يعيش في إقليم آخر. عزلتها ليست فقط في عدم التعرّف عليك كوافد، بل عدم التعرف على بقيّة سكان أرجاء البلاد. ما يحدث هنا، هو الأهم، و نسيبًا يمكن الاتفاق مع ذلك إن كنت تؤمن أن الأعداد تحدد الأهميّة، وكما قلت سابقًا، فهي تسبق كل المدن في الكثافة السكانيّة.
الحديث عن هذه المدينة المعزولة يطول. لكن لا تحزن، فهي لا تعرف أن تكون أفضل بعد، إنها تعاني من العنصريّة وانعدام التنميّة ومشاكل تعجزها عن التعاطف وممارسه الإنسانيّة. لا تُحبط رجاءً، رغم كلّ ذلك، مرحبا بك في الخرطوم… اصمد، لأنه بالتاكيد، في آخر النفق يوجد ضوءًا، علينا أن نراه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...