شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
في ذكرى ميلاد

في ذكرى ميلاد "جمعة الشوّان"… كيف استُخدم الجاسوس إعلامياً حتى أيامه الأخيرة؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 6 أغسطس 201901:58 م

لكل لعبةٍ نهاية يختارها لاعبها إلا لعبة الجواسيس… فلا سبيل للخلاص من وشمها أبداً.. ولا يمكن للجواسيس إعلان الاعتزال إلّا ظاهرياً. لا سن تقاعد في هذه الوظيفة، بل يتحوّل الجاسوس إلى مادةٍ أخرى للاستفادة إذا تطلّب أمر الجهات المعنية التي تحركه، ونادراً ما تلجأ أجهزة الاستخبارات إلى تصفية العميل، إلا إذا عصرته عصراً كاملاً لحصد آخر نقطةٍ في لحمه ودمه... فربما بعثت به لأداء مهمة أبعد ما تكون عن مخيلة الجمهور، كأن يكون مثلاً ضيفاً على مائدة "التوك شو" لدسِّ إجابات وتحليلات يمثّل أنها نابعة منه، إلّا أنها رسائل من الجهة الغيبية التي لها هدف من وراء ترويج أو نفي معلومة ما، أو نشر مزيد من الغموض حول حادثة ما.

هذه قصّة الجاسوس المصري أحمد الهوّان، الشهر بـ "جمعة الشوّان"، الذي استعملته المخابرات المصرية لضرب جهاز المخابرات الإسرائيلي في فترة ما بعد حرب يونيو 1967، حين بدأ "الموساد" باصطياده في اليونان، لكنه عاد إلى القاهرة وأبلغ عنهم وصار عميلاً مزدوجاً لصالح مصر.

لم تنته مهمة أحمد محمد عبد الرحمن الهوّان، ابن مدينة السويس المصرية، باعتزاله المهمة الموكلة إليه بالتعاون مع جهاز المخابرات على مدى 11 عاماً، بدأت عقب نكسة يونيو في مكتب جمال عبد الناصر، بل استُخدم الرجل أكثر من مرة بأشكالٍ مختلفة بعد اعتزاله، وكلها عبر ظهوره بقنواتٍ تليفزيونية لبثِّ روح الوطنية والانتماء، وتمجيد دور الجهاز السري الذي كان في وقتٍ ما يدير مصر عبر رجله القوي عمر سليمان، كمحاولة منه لأسطرة بطولاته، وأحياناً كان ظهوره بهدف توجيه رسائل يحملها الرسول المتقاعد، ولا أحد يعلم على وجه الدقة ما وراء هذا الظهور لرجلٍ يبدو أنه لم يعد مفيداً في شيء.

لكل لعبةٍ نهاية يختارها لاعبها إلا لعبة الجواسيس… فلا سبيل للخلاص من وشمها أبداً.. ولا يمكن للجواسيس إعلان الاعتزال إلّا ظاهرياً

أصيب "الهوّان" بعد تقاعده المخابراتي في إحدى ساقيه، وكان ذلك مؤثراً على حركته، لكن عقله لم يفقد كثيراً من بريقه وإن ظهر كشخص عادي، وربما أقل من العادي أحياناً، فترى الضعف يعتري سماته حين يُطلب منه مثلاً الحديث عن زميله في عالم الجاسوسية، رفعت الجمّال، الشهير بـ"رأفت الهجّان"، والذي ذاع صيته أكثر، فكان يقول إنه أهم من "الجمّال"، ويضيف إلى ذلك بحمق الأطفال: "أنا جبت أجهزة إرسال من إسرائيل.. هو ماجابش حاجة؟"، لكن الأجهزة الأمنية التي استثمرت في "جُمعة" طوال سنوات ما بعد اعتزاله، رأت فيه وجهاً لا يزال يصلح لحمل الرسائل لجمهورٍ يريد الجري وراء الشائعات لفك ألغاز كثيرة امتلكتها الأجهزة ولم تفصح عنها أبداً.

"من قتل سعاد حسني؟"

كان على رأس الموضوعات المهمّة التي شغلت بال المصريين، وتشغل بالهم كل فترة، أسئلة من نوعية: "من قتل سعاد حسني؟"، الممثلة المصرية التي لمعت في أواخر خمسينيات القرن العشرين، والتي قيل إنها كانت مجندة لحساب المخابرات العامّة المصرية ولها رتبة بها في ستينيات القرن الماضي، كما انشغل الناس في مصر بـ"من قتل أشرف مروان"، رجل الأعمال المصري وزوج ابنة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، والمستشار السياسي والأمني للرئيس الراحل أنور السادات، والذي أعلنت المخابرات الإسرائيلية أنه كان عميلاً لها تحت اسم مستعار يُدعى "بابل"، والغريب أن نهاية كل من "سعاد" و"مروان" كانت في عاصمة الضباب لندن، وبنفس الطريقة، الرمي من النافذة للسقوط على الرأس، ليفسر الأمر باعتباره "انتحاراً".

هذه الطريقة في تصفية العملاء ربما تكشف عن شخصية الجهاز الذي يتبنّاها، لكن الفاعل يبقى في مثل هذه الجرائم "مجهولاً"، فتموت القضايا على المستوى القانوني، لكن تبقى أذهان العوام تتذكرها في كل مرة تأتي فيها سيرة الضحايا.

استمرار الحضور الإعلامي

قبيل وفاته بأشهر قليلة عام 2011، حلّ "الهوّان" ضيفاً على الإعلامي اللبناني طوني خليفة في برنامج "الشعب يريد"، وفي معرض إجابته عن سؤال "هل انتحرت سعاد حسني؟" قال إنه لا يعلم، لكنه أخذ الجمهور إلى منطقةٍ أخرى، بتسريب معلومةٍ لا أحد يعرف مدى صدقها، وهي أنه تزوّج الممثلة الراحلة عُرفياً لمدة 8 أشهر، ورمى بجملةٍ أخرى: "يمكن كان فيه شغل بيننا"، وحين أراد محاوره أن يقف على أسباب وفاتها الحقيقية لم يُجبه "الهوّان" ولا حتى بتوقّع أو تغليب احتمال على احتمال، بل ظلّ يمارس معه كل أساليب الهرب والجهالة، بوجهٍ يناقض تماماً ذلك الذي أعلن به زواجه من "سعاد"، ما يدفعنا لتأويل المعلومة المطروحة بأنها كانت مجرد "طُعم" يجر الخيال وراء كل ما يريد الرجل أن يوصله للناس، في قضيةٍ أخرى تمّت استضافته خصيصاً في البرنامج من أجل ترجيحها، وإبعاد الشبهة فيها عن الفاعل، فبعد ثوانٍ سأله المحاور عن مقتل أشرف مروان، فأحال "الهوّان"، الذي لم يقابل "مروان" أصلاً، بطريقته الكلاسيكية، مقتل رجل الأعمال وصاحب المنصب الحساس والمختلف على نهايته ودوره المريب بين الجانبين المصري والإسرائيلي، إلى أنه كان يتعامل في تجارة السلاح، وأوضح بيقينٍ جديرٍ بالدهشة، أن مجال تجارة السلاح قد يكون سبباً لتداخل عمله مع المافيا بشكلٍ أو بآخر، موحياً بأن المافيا هي التي قامت بتصفيته.

قبيل وفاته، حلّ "الشوّان" ضيفاً في برنامج طوني خليفة، وفي إجابته عن سؤال "هل انتحرت سعاد حسني؟" قال إنه لا يعلم، لكنه أخذ الجمهور إلى منطقةٍ أخرى، بتسريب معلومةٍ لا أحد يعرف مدى صدقها، وهي أنه تزوّج الممثلة الراحلة عُرفياً، وقال: "يمكن كان فيه شغل بيننا"

الجاسوس العتيد للمخابرات المصرية، والذي أرهق ضباطاً كُثراً للموساد، من بينهم شيمون بيريز، رئيس إسرائيل السابق، والذي كان الضابط المسؤول عنه في المخابرات الإسرائيلية، لم يكن أمامه خيار آخر في نهاية حياته إلا أن يبقى أداة في يد من يحركه

أداة في يد من يحرّكه

الجاسوس العتيد للمخابرات المصرية، والذي أرهق ضباطاً كُثراً للموساد، من بينهم شيمون بيريز، رئيس إسرائيل السابق، والذي كان الضابط المسؤول عنه في المخابرات الإسرائيلية، لم يكن أمامه خيار آخر في نهاية حياته إلا أن يبقى أداة في يد من يحركه، فلم يعد لديه إلّا إكمال اللعبة التي بدأها – بدافع الاضطرار والوطنية معاً - منذ أواخر ستينيات القرن العشرين، على الأقل ليضمن له علاجاً في مستشفى المخابرات التي مات فيها، ويضمن لنفسه نهايةً مشرّفة في جنازة برّاقة يحضرها رئيس جهاز المعلومات الأهم في مصر، ولينعم بمجدٍ لم يحظ به في حياته بعد اعتزال الجاسوسية، كما تمنى وبدا على وجهه وتعبيراته في كثير من اللقاءات، إذ أعرب عن تذمّره وغضبه شاكياً ومستغلاً ثورة يناير 2011 ليقول: "اشتكيت في العهد البائد"، يقصد "عصر مبارك"، وأكمل "والسؤال لغير الله مذلة"، فتم الإنعام عليه بمعاش أقل من أن يقبله رجل مثله، حمل حياته على كفه من أجل وطن بخل عليه بنهاية كريمة، فكان رد فعله أن رفض هذا المعاش وتبرع بقيمته - متهكماً - للجيش المصري.

ربما من سوء حظ "الشوّان" أنه عاش طويلاً بعد اكتشاف حقيقته، ومن حسن حظ "الجمّال" أنه مات وهو لا يزال لغزاً لتكتمل بذلك أسطورته في مخيلة الناس... فالذين يموتون مبكراً يبقى بريقهم، أما من يموتون قطعةً قطعةً فلا ثمن لهم في سوق الوطن.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image