عُرف رفعت الجمال، الجاسوس المصري الأشهر في إسرائيل، في الحقيقة وفي الدراما التلفزيونية بعدد كبير من الأسماء، من بينها رأفت الهجان وجاك بيتون وديفيد شارل سمحون، وحيكت عنه الكثير من القصص والروايات المتضاربة بين الجانبين المصري والإسرائيلي.
بعض تلك القصص أكدت على ولائه المطلق لمصر، بينما أظهرت الروايات الإسرائيلية إمكانية كونه عميلاً مزدوجاً، عمل لحساب الموساد بعد كشفه.الرواية المصرية: جاسوس مصري حتى النهاية
في عام 1987، وبعد وفاته بخمس سنوات، تم الكشف عن قصة رفعت الجمال وتاريخه ودوره في العمل لحساب المخابرات المصرية داخل إسرائيل، وتم ذلك من خلال رواية ومسلسل درامي باسم رأفت الهجان، قام بدور البطولة فيه الفنان الراحل محمود عبد العزيز، وقد عرض ذلك المسلسل في ثلاثة أجزاء واستطاع أن يحقق نجاحاً جماهيرياً كبيراً. قصة المسلسل وتفاصيله بُنيت على كتاب بعنوان "كنت جاسوساً في إسرائيل" للروائي المصري صالح مرسي الذي عرف وقتها بأدب الجاسوسية.المصدر الرئيسي والوحيد الذي مدّ مرسي بالمعلومات حول رفعت الجمال، كان المخابرات العامة المصرية، فقد سلمه أحد الضباط وثيقة من 70 صفحة عن حياة رفعت الجمال، وهي التي بنى عليها مرسي بعد ذلك الخطوط الأساسية في قصته، فيما اعتمد على موهبته القصصية في نسج خيوط القصة الدرامية. الجمال، بحسب ما جاء في كتاب صالح مرسي، هو رفعت علي سليمان الجمال المولود في الأول من يوليو عام 1927، والذي عمل في أكثر من مهنة في فترة شبابه، وتعرض للعديد من الصعاب والمشكلات. التقي به عدد من ضباط المخابرات المصرية بعد ثورة يوليو 1952، فعرضوا عليه أن يتم محو تاريخه القديم بالكامل، وأن يبدأ مرحلة جديدة من حياته، يكون فيها يهودياً ويعمل لصالح المخابرات المصرية.
بعد موافقة الجمال على العرض، تم تدريبه وإعداده، فدرس تاريخ اليهود وديانتهم وعاداتهم، كما دُرب على أعمال الجاسوسية مثل التصوير وفك الشفرات والكتابة بالحبر السري وطرق تشغيل موجات الراديو.
وبعد كل ذلك، تم تغيير اسمه ليصبح جاك بيتون المولود عام 1919 من أب فرنسي وأم ايطالية، وأضحت ديانته هي اليهودية، ثم تم العمل لزرعه في المجتمع اليهودي في مصر، فانتقل للعيش في مدينة الاسكندرية، وحصل على وظيفة في إحدى شركات التأمين وانخرط في العيش وسط اليهود حتى أصبح واحداً منهم. وفي عام 1956 اتجه جاك بيتون إلى نابولي ومنها أبحر إلى إسرائيل، بعدما تسلم من المخابرات المصرية مبلغ 3000 دولار، افتتح بها شركة سياحة واستطاع أن يجد لنفسه مكاناً في المجتمع الإسرائيلي.
عُرف بيتون بصداقته لكبار الشخصيات السياسية في إسرائيل، إذ ارتبط بعلاقات وثيقة بكل من ديفيد بن غوريون وغولدا مائير اللذين شغلا منصب رئاسة الوزراء، ووزير الدفاع موشى ديان، وعيزر فايتسمان الذي شغل منصب رئيس الدولة في وقت لاحق.
كل ذلك أتاح له أن يعرف الكثير من المعلومات العسكرية السرية، والتي كان من أهمها توقيت العدوان الثلاثي ومواعيد الهجوم الإسرائيلي في 1967 وبعض التفصيلات التي أفادت المصريين في حرب 1973.
وقد بقي بيتون في إسرائيل لفترة طويلة، حتى رحل بعد ذلك إلى ألمانيا، وظل مقيماً بها مع زوجته وابنه حتى وفاته في عام 1982.
قصة الجاسوس المصري الذي ارتبط بعلاقات وثيقة بكل من ديفيد بن غوريون وغولدا مائير وموشى ديان.. رأفت الهجان
رأفت الهجان جاسوس مصري حتى النهاية، أم عميل مزدوج عمل للموساد بعد كشفه؟
الرواية الإسرائيلية: عميل مزدوج
لم يتم تناول قصة رفعت الجمال أو جاك بيتون من الجانب الإسرائيلي، قبل بدء عرض مسلسل رأفت الهجان على شاشات التلفزيون المصري في نهايات الثمانينيات في القرن الماضي. ولكن بعد عرض المسلسل، والضجة الذي أثارها في الشارع المصري خصوصاً والعربي عموماً، بدأت ردود أفعال الجانب الإسرائيلي في الظهور تباعاً. ابتدأت تلك الردود بالتشكيك، إذ نفى آنذاك مسؤولون إسرائيليون القصة برمتها، وعدوها محاولة مصرية لرفع المعنويات، وقصة خيالية.وفي أغسطس عام 1993، أفرج جهاز المخابرات الإسرائيلي "الموساد" عن معلومات تفيد عكس الذي قدمه المسلسل، وتم نشرها بواسطة صحيفة "معاريف" الإسرائيلية في صفحة كاملة. أكدت تلك المعلومات أن الجمال كان عميلاً مزدوجاً، وأنه عمل لحساب الموساد بعد أن انكشف أمر تجسسه لحساب المصريين.
وفي عام 2015، نُشر كتاب الجواسيس: عشرون قضية تجسس على إسرائيل لمؤلفيه الإسرائيليين يوسي ميلمان وإيتان هابر، وقد احتوى الكتاب على تفاصيل جديدة ومهمة حول وجهة النظر الاسرائيلية لرفعت الجمال.
أكد المؤلفان أن جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) كانت به وحدة عمل مختصة بمراجعة أوراق جميع المهاجرين الجدد القادمين من أوروبا الشرقية ومصر على وجه الخصوص في فترة منتصف خمسينيات القرن العشرين.
وشكت تلك الوحدة في أمر جاك بيتون، منذ اللحظة الأولى التي وضع فيها قدمه في إسرائيل، وكان السبب الأول الذي أثار الشكوك الإسرائيلية تجاه بيتون، هو أن بعض الركاب المرافقين له في السفينة القادمة من إيطاليا، اندهشوا من طريقة تعامله الغريبة التي لا تتفق مع كونه يهودي الديانة. تم استدعاؤه لمكتب الوحدة الخاصة لشعبة الاستخبارات العسكرية، حيث التقى به رئيسها موسى إبراموفيتش الذي كان يجيد العربية، ودار حوار بين الرجلين، وانتهى الأمر بزيادة الشكوك في شخصية بيتون، وتم رفع تقرير بشأنه إلى قيادات الشاباك وبموجبه تم وضعه تحت المراقبة الدقيقة. ويذكر الكتاب أنه وبعد فترة قصيرة من تلك المقابلة، تمت مداهمة منزل بيتون وتفتيشه، ووجد فيه حبر سري وشيفرات لالتقاط موجات الراديو السرية، واعترف الجمال بأمر تجسسه لحساب المصريين بعد الضغط عليه في التحقيقات. وآخر التقارير الإسرائيلية التي نشرت معلومات جديدة عن رفعت الجمال، كان ذلك التقرير الذي نشرته صحيفة هارتس الإسرائيلية في مارس الماضي، وكتبه معلق الشؤون الاستخبارية في الصحيفة عوفر أدرات بمناسبة مقتل ضابط المخابرات الإسرائيلي مردخاي شارون. نقل التقرير عن بعض المصادر الأمنية الإسرائيلية، أن مردخاي شارون كان هو الضابط الذي تولى التحقيق مع الجمال بعد كشفه واعتقاله، وأنه هو الذي أتفق معه على إطلاق سراحه مقابل أن يعمل لصالح إسرائيل.
وبحسب التقرير فإن شارون كان يطلب من الجمال نقل معلومات مضللة عن إسرائيل ونياتها للجانب المصري، وأنه كان يستمع للحوار الذي كان يتم بين الجمال وضباط المخابرات المصرية.
وأكد التقرير أن الموساد عمل على إقناع المخابرات المصرية بضرورة الاعتماد على المعلومات التي كان يرسلها الجمال، وذلك من خلال إعطائه معلومات حقيقية حول موعد شن حرب 1956، قبل يوم واحد من وقوعها.
ولكن في الوقت نفسه، عمل الإسرائيليون على خداع الجانب المصري، إذ طُلب من الجمال قبيل حرب 67 أن يؤكد للمصريين أن إسرائيل لا تنوي استهداف سلاح الجو المصري، في الوقت الذي بدأت فيه الحرب بضرب إسرائيل لجميع المطارات المصرية، ما مكنها من تحييد ما يقرب من 80% من قوة الطيران المصري، وهو الأمر الذي أثر كثيراً في سير العمليات الحربية لصالح الجانب الإسرائيلي.
فبركة صحافية أم حقيقة تاريخية؟
الادعاء الإسرائيلي المتكرر في السنوات السابقة بكون الجمال عميلاً مزدوجاً، أثار موجة من ردود الأفعال الغاضبة والرافضة على المستويين الإعلامي والسياسي في مصر. وشكك الكثير من الخبراء العسكريين في التصريحات والمعلومات الإسرائيلية، ووصفوها بالكذب والتلفيق، فعلى سبيل المثال، أكد اللواء محمد رشاد، وكيل المخابرات العامة الأسبق، والذي كان مسؤولاً عن الملف العسكري الإسرائيلي بالمخابرات العامة بين عامي 1967 و1973، في تصريحات صحافية سابقة له أن "ما يتم تداوله من تقارير تتهم رفعت الجمال بـ"العمالة المزدوجة" في وسائل الإعلام الإسرائيلية، ما هو إلا فبركة صحافية تهدف إلى التقليل من بطولات المخابرات العامة المصرية، التي كبدت الموساد الإسرائيلي خسائر فادحة". كما أن ضابط المخابرات المصري البارز محمد نسيم والشهير بنديم قلب الأسد، فند المزاعم الإسرائيلية، وتساءل: "لو كان الهجان عميلاً مزدوجاً كما يدعون، فلماذا ظل في إسرائيل؟ لماذا لم ينتقل للإقامة في مصر أو في إحدى الدول العربية؟ كيف يكون عميلاً للموساد وهو يعيش في إسرائيل؟".
وطبعاً، هذا النوع من التفنيد لا يحسب حساب أن الإسرائيليين، بحسب روايتهم، استفادوا من نقله معلومات بهدف تضليل المصريين وهذا يتطلب وجوده فيها لا في مصر.
ولكن من الغريب أن التصريحات الإسرائيلية حول الجمال توافقت مع بعض الآراء المصرية التي تناثرت في بعض الكتب أو الحوارات الصحافية التي لم تحظ بالكثير من الاهتمام.
على سبيل المثال، يذكر رئيس المخابرات العامة ووزير الدفاع الأسبق أمين هويدي، الجمال في كتابه الفرص الضائعة، بعبارات مقتضبة، فيقول: "ذهب البعض إلى تأكيد أن (رأفت الهجان) المندوب الذي نجحت المخابرات العامة بزرعه داخل إسرائيل قد أرسل أخباراً مؤكدة عن العدوان الإسرائيلي المرتقب. بل ذهب البعض إلى حد تأكيد أنه أرسل خطة العدوان بعد مغامرات تخيلوها وكتبوها وهذا غير صحيح بالمرة لأن الهجان لم تمتد كفاءته أو قدرته إلى حد القيام بذلك من جانب، علاوة على أن تقييم عمله كان متواضعاً يحيطه الشك من جانب آخر".
وكان للفريق رفعت جبريل الذي تولى رئاسة جهاز الأمن القومي سابقاً، والمعروف بثعلب المخابرات المصرية أيضاً رأي متشكك في مسألة رفعت الجمال.
ففي حوار مطول أجرته معه جريدة المصري اليوم في سبتمبر 2014، قال: "كرجل مخابرات... ومسؤول سابق عن مكافحة التجسس أؤكد أن العميل لا يستمر أكثر من 4 سنوات وبعدها يصبح عميلاً مزدوجاً للطرفين... أو يتم استبداله".
وعن وضع رفعت الجمال تحديداً، أجاب: "ساعده الإسرائيليون كثيراً... وكانت له شركات واستثمارات عديدة في أوروبا في ما بعد، والمسلسل قدمه ببريق مبالغ فيه للغاية". كل تلك المعلومات والشهادات المتضاربة حول الجاسوس المصري رفعت الجمال أو جاك بيتون، تفتح الباب أمام المزيد من التساؤلات حول طبيعة عمله وموقفه من المخابرات المصرية والموساد، ليبقى السؤال الرئيس حاضراً، وهو هل كان الجمال بطلاً قومياً أو عميلاً مزدوجاً؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...