لم يكن يوم 26 تموز/يوليو الجاري كباقي أيام الأسبوع في الأردن الذي يهتز كلّما فقد أحد شبابه، خاصةً خارج حدوده. ففي هذا اليوم، تم تأكيد رحيل الشاب محمود ملحم (28 عاماً) غرقاً، بعد خوضه رحلة بحرية مع زوجته الشابة سجى الدحادحة في جزيرة بالي الاندونيسية لتمضية شهر العسل.
وكانت سجى قد أعلنت فقدان الاتصال بزوجها قبل يوم من حدوثه، طالبةً من الله في سلسلة تغريدات "أن يبشرها بالخير كما بشّر يعقوب بيوسف، ويبشرها بالفرح كما بشر زكريا بيحيى".
هذا كل ما نعرفه عن الحادثة، بالإضافة إلى أن مركز العمليات بوزارة الخارجية وشؤون المغتربين باشر إجراءات نقل الجثمان إلى الأردن بناء على طلب زوجته وذويه، وفقاً لصحيفة الغد الأردنية، لكن هناك من استغلها راوياً قصصاً قد لا تمت للواقع بصلة، ناسياً أو متناسياً تبعات منشوراته على كل من يعرف الفقيد.
المتاجرة بالمأساة
ما سر تلذذ هؤلاء الأشخاص في اقتحام الخصوصية في أشد الأوقات حساسية؟ وأين يكون حسّهم الإنساني حينما يتاجرون بأقلامهم الافتراضية بحثاً عن تفاعل افتراضي؟
اللافت هو نشر بعض الحسابات سيناريوهات قد يصعب على أي شخص موجود مع العروسين تسجيلها، وقد يصعب على العروس نفسها ربما تذكرها في الوقت الحرج كالذي تمرّ به، إذ قدّمت كاتبة وصحافية أردنية تدعى إيمان العكور "توضيحاً مثيراً" للحادثة، مرفقاً بتفاصيل دقيقة لما دار بين العروسين، لن يجدها القارئ إلا في ادعاءتها.
بدأت العكور منشورها بوصف درامي يصلح تركيبه لقصة أي عروسين، قائلةً: "شهر عسل مر. بعد حفلة عرسهما بأيام ودّع محمود ملحم الأهل مع عروسه سجى الدحادحة والدنيا لا تتسع لهما... حياة جديدة تنتطرهما... وأحلام رسماها معاً منذ التقت عيونهما قبل عمر. ودّعا الأهل على أمل لقائهما في البيت الصغير الذي جهزاه وزرعا في كل زاوية منه حكاية، وضحكة، وحتى خلافاً على اللون أو الديكور".
وفي محاولة لإشباع فضول البعض بشأن تفاصيل الحادثة، قالت: "كأي شاب ومن على شاطئ معروف في الجزيرة، حمل محمود لوح السباحة كي يستمتع بركوب الأمواج القريبة. لم يعلم أن إحداها كانت تستعد لابتلاعه". أما الأكثر إثارة للانتباه، فهو تأليف السيناريو والحوار التاليين:
"كانت آخر كلمات عروسه وهي تلتقط آخر صورة له
'انتبه حبيبي ما تبعد كثير'
لكنه ابتعد إلى مكان لا عودة منه
مر الوقت وهي جالسة على الشاطيء تنتظره. بدأت بالخوف والقلق خاصة أن الشاطئ بدأ يخلو من الناس. اعتقدت أنها واحدة من مزحاته (دعاباته) وهو صاحب المقالب المعروف، وفي داخلها قالت: بتشوف شو رح أعمل!
لكن الوقت يمر. ومحمد لم يعد بعد
وقتها جفلت (خافت) من الفكرة التي قفزت إلى عقلها، وأسرعت تبحث عن شرطي كي تبلغه بغياب محمود.
ثم تحول الموضوع إلى عملية بحث رسمية من قبل السلطات وصارت الساعات تمر معجونة بالخوف والجنون.
هستيريا مرعبة أصابت العروس. تصيح بلا وعي. وينك محمود، لا تتركني، أنت قلتلي رح نظل لآخر العمر سوا.
ما كانت تعرف أن آخر العمر كان قريباً كثيراً.
لم يقتصر الأمر على هذه الدقة في السرد، بل روت كذلك رد فعل العروس (الذي لا يعرفه أحداً سوى محيطها)، قائلةً بوصف ميلودرامي يعتمد على تكثيف المشاعر والمبالغة إن "بعد 24 ساعة من اختفائه، والبحث عنه، وجدت (سجى) جثة العريس الشاب، وكان عليها أن تتعرف عليه… فسقطت مغمى عليها".
أما بالنسبة إلى الشاب الراحل، فنقلت قوله للموجة التي 'هاجمته': "اتركيني أرجوك، عروسي تنتظرني".
وتابعت: "سجى ستعود إلى الأردن مع تابوت عريسها، بدلاً من صندوق ذكريات وصور لشهر العسل، سجى ستتلقى التعازي بزوجها بدلاً من التهاني بزواجهما، سجى ستغلق بيتها الذي لم تسكنه بعد، لأن رائحة محمود في كل زاوية ستقتلها مليون مرة".
أين يكون الحسّ الإنساني حينما يتاجر روّاد التواصل الاجتماعي بأقلامهم الافتراضية… آخرها رواية العريس الأردني الذي رحل في شهر عسله
"الشائعات في المقام الأول تجد أرضاً خصبة لأن البديل عادة هو مجهول"... دافع يراه الطب النفسي محركاً لإطلاق الشائعات من أجل تحقيق الانتشار
ورداً على تقديم مبرر لنشرها هذه التفاصيل، أوضحت العكور بعد مرور نحو 17 ساعة أنها "عاشت ذلك منذ ثلاث سنوات" حينما فقدت زوجها في كندا وعادت إلى الأردن دونه، معتذرةً "إن كان ما كتبته وتخيلته قد يؤلم الأهل المفجوعين"، ومؤكدة أنه "اجتهاد أدبي للحظات تعلم أنها مؤلمة".
ولكن لماذا ذكرت العكور اسمي محمود وسجى، بدلاً من حكاية قصتها الشخصية، وإن كان ذلك في إطار أدبي؟ أليس التشبيه سرد ما عاشته و"ترجيحها" بأن يكون هذا ما حصل مع سجى؟
المثير أيضاً طلب صديقات سجى أن تحذف العكور منشورها، إلا أنها رفضت بحجة أنها كتبت القصة بكل احترام وعدم إيذاء للمشاعر، مضيفة أن "عدد من ترحّم عليه (بسبب المنشور) هو هدية لروحه".
المشكلة تكمن في نقل مواقع إخبارية وعشرات الحسابات على مواقع التواصل الاجتماعي القصة وكأن هذا ما جرى بالتفصيل، دون إضافة "ملاحظة" العكور التي أضافتها إلى المنشور نفسه لاحقاً.
ما بالكم بقرابة الدم والزوجة؟
تقول صديقة العروس، التي طلبت من العكور حذف منشورها، رنا، لرصيف22 إن في هذه القصة المؤلفة تفاصيل قد تؤذي مشاعر أهل الشاب وزوجته وأهلهما، مضيفة: "حتى لو كانت هذه التفاصيل صحيحة، فهذا لا يعني أنه يحق لها مشاركة أوجاع الآخرين بهدف الشهرة. لا يوجد مراعاة لمشاعر أهل محمود ولا لزوجته سجى".
ووجهت رسالة مختصرة لكل من يتاجر بمأساة الآخرين قائلةً: "فكروا بإنسانية أرجوكم عند كتابة مواضيع تتعلق بحالات وفاة"، مشيرةً إلى أنها لا تحب الحديث باسم أي من العائلتين ولكن "إن كنا قد تأثرنا نحن الأصدقاء، فما بالكم بقرابة الدم والزوجة؟".
ماذا يقول الطب النفسي؟
في السياق ذاته، قال طبيب الأمراض النفسية وعلاج الإدمان، علي قرقر، لرصيف22 إن من يتطرق لقصة مأسوية أو يختلقها على مواقع التواصل يسعى لتقدير الذات (إحدى حاجات الإنسان بحسب هرم ماسلو) من خلال خلق تفاعل، مشيراً إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي سهّلت الوصول إلى تقدير الذات من خلال جمع الإعجابات (Likes) والانتشار على تلك المنصات.
وتابع: "في هذا الصدد، يقوم البعض بسرقة محتوى ونشره أو تزييف وقائع حول حياته أو سرد مواقف غريبة يمر بها في حياته بشكل متكرر (أي بمعدل غير منطقي لحدوث تلك المواقف لأي إنسان)".
وقال الطبيب إن صاحبة المنشور "كسرت حالة المجهولية"، ولذلك حقق (ما كتبته) انتشاراً واسعاً. وأضاف: "الشائعات في المقام الأول تجد أرضاً خصبة لأن البديل عادة هو مجهول، والبشر منذ فجر التاريخ دأبوا على سد فراغات كل ما هو مجهول بأي شيء وإن كان خرافة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...