شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
هل أصبحت رسائل فيسبوك بديلاً عن العلاقات

هل أصبحت رسائل فيسبوك بديلاً عن العلاقات "الحقيقية" بين الناس؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 19 يوليو 201904:37 م

رسائلُ فيسبوكية تختصر الجهد والتعب وتقرّب بين المشتركين في أي وسيلة تواصل اجتماعي، لكنها في الواقع تحوي شيئاً من اللامبالاة والاستهتار بالآخر، وتباعد بين المحبين أكثر. سابقاً كان الأهالي وعموم الناس يستغلون قدوم المناسبات الدينية والقومية والاجتماعية لزيارة بعضهم البعض وتبادل التهاني عبر اللقاء المباشر، لكن المعادلة اليوم اختلفت، وأصبحت رسائل الفيسبوك تعوّض التواصل الحي.

هذه السلوكيات الافتراضية ببساطة تعبّر عن مدى الاستهتار بالعلاقات بين البشر، وردود أفعال على نوعية العلاقات، بعد تغلغل الإنترنت بعيداً عن التواصل الآدمي المباشر، وتعكس الثقافة الجديدة المخترقة لنمطية العلاقات الاجتماعية السابقة، إذ كانت الأعياد، أو بداية شهر رمضان، أو الأزمات والمشاكل والمناسبات السعيدة، من أكثر اللحظات التي تجمع المغتربين أو البعيدين جغرافياً أو المنهمكين بأعمالهم، وتُشكّل فرصة للبحث حول أحوال بعضهم البعض.

هذه السلوكيات الافتراضية ببساطة تعبّر عن مدى الاستهتار بالعلاقات بين البشر

"تهانينا الحارّة على التخرّج"، "زواج سعيد بالرفاه والبنين"، "الله يرحمه"، "مبروك عودة المغتربين"، "تفضلوا صورة آخر طبخة"، "شوفي صورة اللانجريات الجديدة اللي اشتريتهن لا تفرجيها لحدا". في مجملها، ربما تتعلّق بحالات شخصية أصبحت تكبر دائرتها رويداً رويداً، ولها من الآثار التي تباعد بين القاطنين في دائرة سكنية أو مدينة واحدة أكثر بكثير من دورها الجيد في تبادل التهاني والتواصل، خاصة وأن المفردات والعبارات تتكرّر دوماً.

المشكلة تكمن في عدة أمور مركبة ومعقّدة بفعل التداخل ما بين التهنئة المباشرة التي تتحاور فيها كيمياء اللقاء، وما بين الجار الذي لا تتجاوز المسافة بضعة أمتار عن منزل جاره وتقتصر العلاقة معه على رسائل السوشيال ميديا، فتصبح المسافات المقرّبة والمتجاورة وكأنهم يبتعدون آلاف الأميال عن بعضهم البعض، وليس أدلّ على ذلك أن يهنئ أحدهم جاره في البناية نفسها عبر الفيس بوك بحلول يوم العيد، وهي إحدى مساوئ التواصل الحديث الذي يعتمد على انعدام الشعور والاختصار على شمول الجميع بالحالة نفسها، وما بين عدم الالتفاف نحو الفقراء والجائعين والسياسات الممنهجة للتجويع، وهي أجدى وأفضل وأكثر قيمة أخلاقية، أكثر من قضية أن أحدهم رأى آخر في المنام يطلب منا الإقدام على الفعل الفلاني.

"أرسلها إلى عشرة أشخاص وبعد عشر دقائق ستحصل على مبتغاك"، "لا تدعها تقف عندك فهي أمانة، رأيت أحد المشايخ في المنام يطلب مني أن أرسلها إلى 140 صديقاً، على أن يقوموا بإرسالها إلى أصدقائهم لتعمّ الفائدة والله يجزي المحسنين". رمضان كريم، جاء رمضان، شهر العفة، الكرم، الشعور بالمساكين.... إلخ " أستغلُّ فرصة عدم تحديد أول أيام العيد، وأرسل لك أول التهاني" والقافلة تطول. ثمة تسابق لمن يُرسل أولاً تهنئة رمضان أو العيد. ولكثرة استلام الأصدقاء المقربين لهذه الرسائل قبل بداية شهر رمضان بحوالي أسبوع، ساد شعورٌ جمعي بأنهم يرمزون لرافضي الصوم، حتى أن أحدهم قال: "يا رجل لكثرة لرسائل التي تتحدّث عن اقتراب شهر رمضان، ثم الرسائل التي تتحدث عن أول يوم رمضان، شعرت أنني أبو جهل".

فهي توحي بسذاجة المُرسل، خاصة إن كانت الرسالة عبارة عن صورة ملونة وبضع كلمات، ويتم استخدام تلك الصورة نفسها من قبل عدد كبير من المُرسلين إلى أصدقائهم، والشخص الواحد يستلم نفس مضمون الرسالة من مئات أو آلاف الأشخاص كدليل على عدم القراءة أو الاهتمام بالمادة المتلقية، فيتم استخدام تقنية إعادة الإرسال وتحديد الجميع عبر الواتس آب، أو اختيار عدد كبير من المشتركين في الماسنجر، وأيضاً بشاعة الأمر أن يتمّ إرسال التهنئة المتلقية إلى مُرسلها دون قصد في عملية الإرسال الجماعي. الأكثر سوءاً أن يفعلها الأصدقاء المقربون عوضاً عن التواصل المباشر واستدامة العلاقات الاجتماعية، والأكثر إرهاقاً ومضيعة للوقت أن يُعيد الشخص إرسال مضمون الدردشة ذاتها أكثر من مرة للشخص نفسه.

تكمن المشكلة في عدة أمور مركبة بفعل التداخل ما بين التهنئة المباشرة التي تتحاور فيها كيمياء اللقاء، وما بين الجار القريب من منزل جاره وتقتصر العلاقة معه على رسائل السوشيال ميديا... وكأنهم يبتعدون آلاف الأميال عن بعضهم البعض
المدمنون على تعويض صلة الرحم والتواصل البشري بالفيسبوكي، أصبحت هذه الرسائل بالنسبة لهم تجسّد العلاقات الاجتماعية والأسرية، والأشد خطورة ربما إنها تجلب للكثيرين شعوراً بالرضى أنهم أدوا واجبهم باقتدار

في إحدى المرات استلمت أكثر من 29 رسالة خلال ساعات قليلة مفادها تزامن "عيد الصداقة العالمي"، وبعد أيام أستلم أيضاً عشرات المسجات والصور التي ترمز إلى "يوم الإخاء العالمي"، وفي كلتا الحالتين كانت الرسالة تُذيّل بعبارة "أرسلها إلى أصدقائك المقرّبين حتى لو كُنت منهم" أو "دع الأخوة تنتشر وأرسلها لمن تعتبرهم أخوتك حتى لو كُنت أنا فأعد الإرسال"، فالتهاني مشروطة بإعادة الإرسال للمرسل نفسه، فيصبح المرسل متلقياً، ومتلقي التهاني مُرسلاً في الوقت عينه.

كما لجأ البعض في عيد الفطر السعيد إلى كتابة اسمه على صور التهنئة، فتلقى كاتب الأسطر الصورة الممهورة باسم أحد القياديين، من خمسة قياديين آخرين لأحزاب مُختلفة، لا أدري إن كانا يجهلون القراءة باللغة الكُردية، فالاسم كُتب باللغة العربية أيضاً، أم أن الاستهتار وقلة الاحترام وصل إلى ذروته.

فالسلوك التكيفي يكون عادة عبر الجهود المبذولة فردياً للمحافظة على العلاقات المنسجمة مع ذاته والبيئة المحيطة بعيداً عن الضغوط التي يواجهها، اجتماعية كانت أو انفعالية أو غيرها، عوضاً عن السلوك غير المتكيف نتيجة عدم القدرة على اختيار ما يناسب وضع الفرد في بيئته ومجتمعه فيسعى للجوء إلى أي عمل يمكنه من كسب أكبر قدر ممكن من التواصل.

يولد الكائن الحي مصحوباً بسلوك فطري غريزي، يقابله سلوك مكتسب ناجم عن التفاعل الجمعي والتنشئة الاجتماعية، وهو ما يفضح مدى التغلغل السلبي والاستعمال الخاطئ للإنترنت الذي أصبح جزءاً أساسياً من حياتنا العامة. لا شيء يعوّض الزيارات الجسدية/ الفيزيائية، والتواصل اللفظي المباشر مع لغة الجسد وحركات العينين وملافظهما، لكن المدمنين على تعويض صلة الرحم والتواصل والزيارات بالتواصل الفيسبوكي، ليس اللفظي حتى، أصبحت هذه الرسائل بالنسبة لهم تجسّد العلاقات الاجتماعية والأسرية، والأشد خطورة ربما إنها تجلب للكثيرين شعوراً بالرضى والسعادة أنهم أدوا واجبهم باقتدار، عوضاً عن عمق العلاقات في السابق، والتي كانت تُشعر مُستقبِل الضيوف بأهميته وقدره وقيمته، وتجعل من الزائر والضيف في مكانة اجتماعية وقيمية لدى الوسط.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image