ليست نكسة يونيو 1967 سببًا في انتحاره، إنها نكسة الحب حين تصيب قلبًا استثنائيًا لأحد أهم شخصيات مصر الفنية في القرن العشرين، ومن أهم شخصيات المشروع الناصري.... "جبرتي الثورة"، كما سماه صديقه الموسيقي الفذ كمال الطويل، لم يكن سياسيًا لكنه كان مُنظّر الفكرة الناصرية في قوالبها الفنية.. كان صلاح جاهين واحدًا من موهوبي مصر بكل تأكيد، وكان في موته حتى مغايرًا لواقعه المبهج.
ليست نكسة يونيو 1967 سببًا في انتحاره، إنها نكسة الحب حين تصيب قلبًا استثنائيًا لأحد أهم شخصيات مصر الفنية في القرن العشرين
إني أجد أنه من غير المألوف، ومن غير المنطقي ربما، بصلاح جاهين، ابن الأرستقراطية، أن يكون مناضلًا مع ضباط يوليو الفقراء بقيادة عبد الناصر، لكنه رجل قادر على معرفة الزمن جيدًا ومواءمة مواهبه مع ما يعيشه، وقد تكون هذه المواءمة سرَّ مرضه، فالرجل صدّق اشتراكية "ناصر" وزعامته وكتب فيهما ما لم يكتبه مالك في الخمر، وكان ترجمانه الشعبي، عبد الحليم حافظ، طريقًا سهلًا للدخول إلى قلوب الناس، في وقت كان المصريون يبحثون فيه عن "مشروع العمر"، كانوا في حاجة إلى حلم ما، ولعل "جاهين" ترجم هذا الحلم فنيًا وأضاف عليه -لزوم الترويج- مسحة الطرافة، التي امتلكها ضمن مواهبه العديدة، ليتوافق أكثر وأكثر مع المصريين، "ولاد النكتة".
هو موهوب بلا شك. رسام كاريكاتير حداثي أكثر منه شاعر، بغض النظر عما قاله في نفسه من أن التاريخ سيذكره كشاعر.. هو كاتب أغنية بدرجة "مُجدّد لغوي": "بان عليا حُبه من أول ما بان".. هو صاحب معجم طريف رشيق: "الشوكلاطة ساحت.. راحت مطرح ما راحت".. و"ما تقولش أمين شرطة اسم الله ولا دبلوماسي..."
هو رجل تسلية وخيال مصاب بحب الواقع: "يا شِفِتك فص فراوله... وانا لا قوة ولا حولَه"..
هو الصحفي الناجح ورجل السينما الناجح وكاتب السيناريو وفاهم الموسيقى والشخصية المثيرة للتأمل والمتابعة. يؤْثر دائما أن يحول واقعه إلى خيال كلما استطاع إلى ذلك سبيلا، يميل إلى تحويل كل شيء يجيده إلى متعة وإلى منتج للذة الآخرين ربما ليهرب من عُقد نفسية كثيرة تطارد جوفه، تلك العُقد كلها منبعها "نقص الحب" الذي يتلقاه شخص طائر مثله، فأمثال صلاح جاهين يحتاجون إلى فيض غير منقطع من المحبة، وتحديدًا الأنثوية، لكن علاقاته العاطفية لم تكن على ما يُرام، فقد تزوج الأولى، الرسامة بمؤسسة الهلال، السيدة سوسن زكي، عام 1955، وأنجب منها، ثم صدمها باعترافه لها أنه أحب غيرها، السيدة منى قطان، فطلبت الأولى الطلاق منه فاستجاب وطلقها، لكنه أعادها لعصمته حين أحسّ بأنها لا تزال تحبّه، وأتم زواجه من الثانية "في عام النكسة"، وكان وقتها في سن الـ37.
تقول الأسطورة إن صلاح جاهين أصيب باكتئاب بعد نكسة يونيو 1967، وانهيار الفكرة التي صدّقها وصارت جزءًا من عقيدته، ومعها انهارت رومانسية القومية العربية.. ولم ينجُ هو من الاكتئاب فاتجه حينها إلى الهلس بمنطق "بمبي.. بمبي" حتى خارت قواه واختار أن يموت، ففي الموت شفاء لمثل هؤلاء الموجوعين بالوجود.
كان المصريّون في حاجة إلى حلم ما، ولعل "جاهين" ترجم هذا الحلم فنيًا وأضاف عليه -لزوم الترويج- مسحة الطرافة، التي امتلكها ضمن مواهبه العديدة، ليتوافق أكثر وأكثر مع المصريين "ولاد النكتة".
انتهى جاهين بنقص في الحب أو نكسة في العاطفة قبل أن نلوم "نكسة يونيو" التي لم تكن خطّتها بالتأكيد أن تقتل صلاح جاهين، فالرجل كان ميتًا بالفعل، وكانت هناك نكسات بالقلب قبل نكسة السياسة.
عفوًا أنا لا أصدق هذا الكلام.. بل أصدق أن "صلاح" بعد نكسة يونيو هو هو "صلاح" قبلها؛ رجل مصدوم متألم من الحزن في صمت وإن بدا عليه أنه ابن نكتة، رجل ينقصه الكثير من الاهتمام، وقد يكون تعدد مواهبه أو إنتاجه الغزير حجة لمحاولة ملء روحه بالحب، فاتجه إلى التهام الحياة والتفاعل معها بأكبر قدر ممكن، لكن الحياة لا تعطي مثلما تأخذ يا عم "صلاح".. تستنزفك حتى لا يبقى منك أمامها إلا صورة شبح، وتركتك تسأل نفسك أمام مرآتك: "فين صلاح جاهين يا ولاد؟".
كنتَ يا عم صلاح في حاجة إلى قليل من توزيع الجهد وعدم حرق كل هذه الطاقة مرة واحدة، فالإنتاج الغزير ليس علامة صحية، كما أن الإفراط في المحبة والبهجة بكل هذا القدر الانتحاري ليس إلا قرارًا مسبقًا بالموت.
إن صلاح جاهين واحدًا من موهوبي مصر، وكان في موته حتى مغايرًا لواقعه المبهج.
لم يتلق "جاهين" قدرًا من الحب يحميه من الاكتئاب. لم يتمكن المقربون من إشباعه. قطًعا "صلاح" لم يكن شخصًا طبيعيًا، وتعامل مع نقصه بما لا ينبغي، حيث صدّر عن نفسه دائما صورة الصاروخ المنطلق خفيف الظل صاحب القفشات وحلو الحديث.. إنتاج مليئ بالبهجة والخفة، لكن سرطان الثقل كان في قاع روحه يأكل منها على مهل.. كان عليه أن ينتبه ويتعامل مع الثقل باحترام أكثر لأنه لا يُبقى ولا يذر.. لكن حدث ما كان يجب أن يحدث.. انتهى جاهين بنقص في الحب أو نكسة في العاطفة قبل أن نلوم "نكسة يونيو" التي وضعت العرب في ناحية أخرى من الكون، ناحية هي غالبًا على "شمال الحياة"، ولم يكن في خطة النكسة بالتأكيد أن تقتل صلاح جاهين، فالرجل كان ميتًا بالفعل، وكانت هناك نكسات بالقلب قبل نكسة السياسة.
"جاهين انتحر".. بشهادة الكاتب سمير فريد فى عام 2009، فى أحد مقالاته، مؤكدًا أنه كان شاهد عيان على تناول "جاهين" لأقراص معينة قاصدًا قتل نفسه، وقال المنتج حسين القللا إنه حاول إحضار مضادات لهذه الأقراص، التى تناولها "جاهين"، من سويسرا، لكنها وصلته حين كان "صلاح" قد قرر الخلاص بالعالم الآخر، تاركًا وصيته إلى كل ابن من أبنائه، وهم كُثر:
"أوصيك يا ابني بالقمر والزهورْ
أوصيك بليل القاهرة المسحورْ
وإن جيت في بالك.. اشتري عُقد فل
لأي سَمرا.. وقبري إوعك تزورْ!".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...