ينشد العديد من المصريين خاصة "محدودي الدخل" حديقة الحيوانات التاريخية والشهيرة في الجيزة جنوب القاهرة للترويح عن أنفسهم، ولكنهم بدلا من أن يدخلوا الفرح إلى نفوسهم وأبنائهم، انقبضت قلوبهم بسبب ما رؤوه من هيئات العديد من الحيوانات هناك.
"الأسود دايماً مكتئبة".. هذا ما لاحظه عبد الرحمن عرفة، (29 سنة، محاسب قانوني)، الذي يزور حديقة الحيوانات مرّة كلّ شهر أو شهرين تقريباً مع زوجته وطفله، أول ما لفت نظره الأسود، تبدو حزينة وكأنها تعاني من الاكتئاب.
يحكي لرصيف22: عندما يزور عرفة "بيت الفيل" يجد في بعض الأحيان الفيلة الشهيرة باسم نعيمة "مكتئبة شوية".
حارس الحيوانات
الزرافات والدببة، من أبرز الحيوانات التي يعتقد أنها تعاني من الاكتئاب حسبما يلاحظ، يبرّر عرفة ذلك بأن طريقة تعامل كثير من زوّار الحديقة مع الحيوانات، أحد أبرز الأسباب التي تدفع الحيوانات للانطواء داخل أقفاصها والبعد عن الناس.
لكن اللواء محمد رجائي، رئيس الإدارة المركزيّة لحدائق الحيوان والأسماك، ومدير إدارة حديقة حيوان الجيزة، لم يُعلّق بوجود حيوانات مكتئبة بالحديقة، أو إهمال من جانب إدارة الحديقة تجاه الحيوانات، مؤكّداً في تصريح مقتضب لرصيف22، أنهم يتبعون برامج طبية على أعلى مستوى للحفاظ على حيوانات الحديقة.
عرفة الزائر الدائم للحديقة بسبب سكنه القريب من حديقة الحيوان، يعتقد أيضاً أن حالة الانطواء والهدوء التي تكون عليها الحيوانات، سببها كذلك بعض الحرّاس المكلّفين بحماية الحيوانات وإطعامها في وقت توافد الزائرين على الحديقة، حيث يقول: "فيه حارس بيبقى هو نفسه مكتئب أو مضغوط بسبب ظروف الحياة الصعبة في البلد، فممكن تلاقيه بيضرب الحيوان".
ويحكي عرفة أنه في أحد المرّات شاهد حارساً يضرب أحد الحيوانات بقسوة بعصا في يده.
في حديقة حيوانات الجيزة توجد الآن زرافة وحيدة تسمّى "سونسن" وذلك بعد نفوق الزرافة "روكا" التي تم استيرادها من جنوب أفريقيا، ونفوق ذكر الزرافة "ياسو"، ما دفع كثير من الناشطين في مجال حقوق الحيوان إلى الخوف عليها من النفوق مثل الفيلة المعروفة باسم "فلافيا"، والتي نفقت في إسبانيا، بعد أن عاشت وحيدة في حديقة حيوان "قرطبة"، نتيجة تدهور صحتها البدنية بسب معاناتها من الاكتئاب.
مرضى "كساح" وليس الاكتئاب
بجوار "بيت السباع"، كان إيهاب عبد الحميد، محامي (38 عاماً)، يتجوّل برفقة ابنته الصغيرة وزوجته باحثاً عن مكان الدببة، بعد أن ألقى نظرة سريعة على الأسود.
لم يعتد عبد الحميد زيارة حديقة الحيوانات، إلا أنه أتى هذه المرة لأنها "فسحة على قد الإيد" تناسب ظروفه المادية في ظل الغلاء الذي تعيشه مصر. أكثر ما لفت انتباهه حسبما يقول لرصيف22، أن الأسود كانت تبدو غير طبيعيّة.، "معرفش كانت مكتئبة ولا الجو حرّ عليها ولا إيه".
من يمرّ بجانب حديقة الحيوان بدلاً من أن يشعر بالمرح والسعادة، تنتابه حالة من الاكتئاب، خاصةً حينما يشاهد الحيوانات هزيلة بسبب سوء التغذية، وتمكث في أقفاص ضيقة وغير صالحة
لا يجوز احتجاز أسد في قفص في مساحة ضيقة للغاية، وفق منى خليل، الناشطة في مجال حقوق الحيوان، التي قالت في تصريحات صحفيّة سابقة إن الأطباء البيطريين بحدائق الحيوان في مصر "غير قادرين على التعامل نفسياً مع الحيوانات، كما أنهم لا يعون معنى الحياة البرية"، مشيرة إلى رصد حالات اكتئاب لدى كثير من الحيوانات.
عبد الحميد الذي يرى أن عدد الحيوانات في الحديقة "قليل وفيه أقفاص فاضية"، شكا في حديثه من انتشار روائح كريهة في أرجاء الحديقة، فضلاً عن وجود رائحة حيوانات نافقة بالقرب من "كافتيريا الرخام"، عند مدخل الحديقة المواجه لمركز البحوث الزراعيّة.
ويقول عبد الحميد إن أحد أنواع القرود كان يبصق على الناس الذين يشاهدونه، لكنه يعتقد أن القرد تعلّم هذا من الزوار.
حارس أحد الحيوانات البرية بالحديقة، فضّل عدم ذكر اسمه، شكا من تصرفات بعض الزوار مع حيوانات الحديقة، كإلقاء "الحجارة والطوب" عليها ومحاولة الدخول إلى القفص لأخذ بعض الصور معها.
وأشار الحارس إلى أن الحيوان الذي يرعاه يأكل التفاح والجزر، في حين يُلقي بعض الزوار له أطعمة غير مناسبة له كحيوان بري، كالشيبسي وقطع من "العيش الفينو"، ما يتسبّب في مرض الحيوان.
حارس آخر يحمي أحد الحيوانات الضخمة، شكا من سلوكيات بعض الزوار التي لم تختلف عما قال الحارس الأول، واعتبرها سبباً في اكتئاب الحيوانات، فضلاً عن الإساءة لهم أثناء قيامهم بوظيفتهم، حيث قال: "فيه زبون كويس، وزبون بحدف طوب على الحيوانات، وبيتخانق معانا لمّا نكلمه، وفيهم ناس كبيرة بتبقى عايزة تخش جوه القفص، ولما نمنعهم يشتمونا".
ويضيف: يريد الحارس أن يحمي الحيوان ويرعاه خلال فترة عمل الحديقة، ويريد أيضا أن يحمي الزائر ويمنع حدوث أي أذى له، مشيراً إلى أن الحيوان الذي يحرسه يعدّ من الحيوانات العدوانية، ومع ذلك يحاول بعض الناس تجاوز السور الفاصل والتقاط صور جواره.
"كلّ السباع في مصر عندهم كساح ومشاكل في العظم بسبب معيشتهم في مبايت غير لائقة" الناشطة في مجال حقوق الحيوان دينا ذو الفقار
وتعلق دينا ذو الفقار، ناشطة في مجال حقوق الحيوان وممثل المجتمع المدني في مجلس إدارة حديقة حيوان الجيزة، في تصريحات لرصيف22 أن ما يعتبره بعض الزوار اكتئاب لحيوانات الحديقة، وخاصة الأسود غير صحيح، موضحة أن الحيوانات المفترسة في الطبيعة لا تتحرّك كثيراً باستثناء وقت الصيد.
واعترفت ذو الفقار، أن جميع مبايت السباع في كلّ حدائق الحيوانات العامة والخاصة في مصر غير مناسبة للأسود، حيث الأرضية صلبة، ولا يجد الحيوان حقه في مكان يختبئ فيه، سواء تحت شجر السافانا أو غيرها، كما أن المساحات الموفّرة لها في الغالب غير كافية، ولهذا وفق ما تقول: "كلّ السباع في مصر عندهم كساح ومشاكل في العظم".
ومثل الأسود، لا يوجد مبايت جيدة للفيلة في مصر، إلا أن الناشطة في مجال حقوق الحيوان، أكّدت أن هناك مبايت جيدة في حديقة حيوان الجيزة للبجع، والكبش الأروي، تكفي احتياجات النوع.
"حيوانات هزيلة ومكان غير صالح"
انتقدت ذو الفقار عملية إكثار السباع التي تتبعها حدائق الحيوان في مصر، معتبرة أن هذا الأمر "ليس له معنى"، فالأسود ليست مهدّدة بالانقراض، مشدّدة على أن هذا الإجراء يأتي على حساب المكان، فضلاً عن أن السباع الموجودة في مصر ليست نقية الفصيلة.
وأشارت الناشطة إلى أن سلوك بعض زوار حدائق الحيوان في مصر المتمثّل في إطعام الحيوانات بعض الأطعمة الآدمية، من الممكن أن يتسبب في كارثة، حيث من الممكن أن يعاني الحيوان صحياً بسببها، وقد يموت، مؤكّدة أن هذه السلوكيات تدخل إدارة حديقة الحيوان في مأزق.
وشدّدت ذو الفقار على ضرورة ألا يقدم أي زائر طعاماً لحيوانات الحديقة، مؤكدة أن الشخص الوحيد المسموح له تقديم الطعام للحيوان هو الكلاف (الشخص المكلف برعاية الحيوان).
في إبريل من العام 2017، تقدّمت النائبة منى منير، عضو مجلس النواب، بطلب إحاطة للدكتور على عبد العال موجّه لوزير الزراعة بشأن ما وصفته بـ"إهمال حديقة الحيوان بالجيزة"، لافتة إلى أن من يمرّ بجانب حديقة الحيوان بدلاً من أن يشعر بالمرح والسعادة، تنتابه حالة من الاكتئاب، خاصةً حينما يشاهد الحيوانات هزيلة بسبب سوء التغذية، وتمكث في أقفاص ضيقة وغير صالحة.
حديقة الحيوان بالجيزة، وفق النائبة منى منير، خرجت من الاتحاد الدولي لحدائق الحيوان في عام 2003، بسبب مشكلة التعامل مع القمامة وغياب إعادة التدوير، وحالة دورات المياه، وعدم تطابق بعض بيوت الحيوانات مع المعايير المطلوبة لكلّ حيوان حسب نوعه، كل شيء معطل، منها المحرقة الرئيسيّة لمخلفات الحديقة، وهو ما يمثل كارثة بيئية بكلّ المقاييس، كذلك مضخّات المياه التي تضخّ الماء في البحيرات، وهو ما جعلها راكدة تنتشر فيها الفطريات وتبعث الروائح الكريهة.
الحيوانات تعاني من الزوَّار
حديقة حيوان الجيزة، هي أكبر حديقة للحيوانات في مصر والشرق الأوسط، وهي أيضا أوّل وأعرق حدائق الحيوانات في أفريقيا. كانت تسمّى "جوهرة التاج لحدائق الحيوان في أفريقيا"، وقد أمر بإنشائها الخديوي إسماعيل في العام 1871، وافتتحت في 25 يناير1891، في عهد الخديوي محمد توفيق ابن الخديوي إسماعيل حيث بدأت بعرض أزهار ونباتات مستوردة غير موجودة في الطبيعة المصرية.
وبحسب تقارير صحفية، احتوت الحديقة عند افتتاحها على قرابة 6 آلاف حيوان من نحو 175 نوعاً، بينها أنواع نادرة من التماسيح والأبقار الوحشية. وهي تحوي متحفاً تمّ بناؤه في العام 1906 يحوي مجموعات نادرة من الحيوانات والطيور والزواحف المحنطة.
لكن الحديقة التي يقدّر عدد زوارها بنحو مليوني زائر سنوياً، تعاني منذ أواخر القرن الماضي من الإهمال، ووُجِّهت لإداراتها المختلفة انتقادات شديدة بسبب عدم الاهتمام بها بالشكل المطلوب، والمعاملة السيئة التي تلقاها بعض الحيوانات في الحديقة ،كربط الأفيال بالسلاسل المعدنية، ما أدى إلى إعلان الاتحاد الدولي لحدائق الحيوان، خروج مصر من التصنيف العالمي في العام 2003، ثم استبعاد مصر في العام 2004 من عضوية الاتحاد الدولي لحدائق الحيوان العام «WAZ»
حدائق الحيوان الأخرى بالدول العربية الأخرى ليس أفضل حالاً مما هو عليه الوضع في مصر، ففي تونس شهدت حديقة حيوان "البلفدير" في العام 2017، واقعة مؤسفة، حيث تعرّض تمساح للرجم حتى الموت من قبل عدد من زوار الحديقة. وفي العام التالي أقدمت حديقة الحيوانات التي تقع في تونس العاصمة على قتل ثور برّي داخل سياجه بالسواطير.
وتفتقر حديقة بلفدير للإمكانيات، كما "لا تتصوّر ما يعانيه الحيوانات من الزوار" وفق ما يقول طبيب بيطري في حديقة الحيوانات، الذي قال للأسوشيتد برس إن "المواطنون يرمون القاذورات على الأرض... ويرمون الحجارة على الأسود وحيوانات فرس النهر".
وتفتقد كثير من حدائق الحيوان في عالمنا العربي سبل الحماية اللازمة للزوار، ففي حديقة حيوان الرباط بالمغرب، والتي افتتحت في العام 2012، شهدت في العام 2016، قيام فيل بإلقاء حجر على زائرين، ما أسفر عن مقتل فتاة تبلغ من العمر سبع سنوات.
وتضم حديقة حيوانات الجيزة الكثير من المناطق الفريدة، كجزيرة الشاي، والمغارة الملكية التي تعتبر واحدة من أجمل الأماكن بداخل الحديقة، وهي على شكل قلعة مغطاة بالشعاب المرجانية، ما جعلها منذ عقود عديدة مقصداً لصناع السينما في القرن الماضي، خاصة في فترة الخمسينيات التي شهدت إنتاج فيلم "إسماعيل يس في حديقة الحيوان" عام 1957.
كما صوّر في حديقة حيوانات الجيزة مشاهد من فيلم "امرأة هزّت عرش مصر" للفنانة نادية الجندي، ومشاهد من فيلم "غريب في بيتي" للراحل نور الشريف والسندريلا سعاد حسنى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...