"إذا ما انتابتني حالة تستدعي التفكير، وتفرض سلطانها عليّ بقوة، فإنني أحاول قدر المستطاع التخلص منها بسرعة بترداد النشيد الوطني، أو بعض الأغاني الحماسية الثورية في تمجيد الزعيم الجنرال المفدى حتى أنجو من تأثيرها. وبما أنني مواطن نموذجي، فأنا لا أتكلم كثيراً، ولا أرفع رأسي عالياً، ولا أحكّ جبيني وأقطّب حاجبي، كي لا يشك أحد في أنني أفكر. وأحلامي صغيرة، متواضعة جداً".

"ما إن أخطو في الغرفة الثانية وأعبر بابها حتى تحدث حولي حالة عجيبة من التحولات في المكان والزمان، تطال جسدي أيضاً. وكأنني أجتاز في ثوانٍ معدودة بوابة مشعة بأنوار باهرة تعمي الأبصار، يرافقها ضجيج وأزيز يصمّ الآذان، فأصبح أنا لا أنا، أنا آخر. ثم تختلط الأمور، فأجد نفسي شاباً في العشرينات يقطن غرفة طينية واسعة قديمة".
الطغاة في عصرنا الحالي يظنون أنهم خالدون، يمتلكون الأرض ومن عليها، لذا تشبههم رواية مازن عرفة بـأشباه الآلهة "الغرانيق"
"الغرانيق" (2018) رواية تحتفي بالغرائبية لتقدّم من خلالها الواقع المأساوي الذي نعيشه، بخيالٍ متفلتإضافة إلى الشخصية الرئيسة، ثمة شخصيات جانبية تظهر في الرواية لتكمل رسم الصورة البانورامية عن المكان الذي تجري فيه الأحداث، وعن الفساد المستشري فيه، وعن المواقف المختلفة للمواطنين تجاه ما يحدث في البلاد بعد الثورة. ومن هذه الشخصيات تبرز شخصية معتقل سياسي سابق، مواطن عادي تم الاستيلاء على أرضه من قبل ميليشيات الجنرال، موظف في دائرة عقارية رفض تسجيل عقود بيع وهمية فقتل من قبل رجال المخابرات، عامل في مكتب دفن الموتى يكون شاهداً على دفن جثث كثيرة بعد مجازر كبيرة... قصص هؤلاء الناس تختلط مع غيرها من قصص وتلتحم بالحكاية الأساسية، لتغدو الرواية سجلاً فانتازياً وتاريخاً عجائبياً للقمع ومظاهره في البلاد العربية. وإن كان المقصود في الرواية هو بلدٌ بعينه، يمكن أن نستدل عليه في كثير من المواضع دون أن يذكره الكاتب بشكل مباشر. ولعل أكثر ما يدلنا عليه هو التقرير الأمني في الفصل ما قبل الأخير الذي يعيد ترتيب كل أحداث الرواية التي سبق أن قرأناها، لكن بصورة مختلفة تماماً، إذ إن السلطة هنا هي من تعيد خلق الحقيقة وفق روايتها لما حدث. "الغرانيق" رواية تحتفي بالغرائبية لتقدّم من خلالها الواقع المأساوي الذي نعيشه، بخيالٍ متفلت، يمتد على صفحات وصفحات وينتهي بأذكى نهاية يمكن لرواية مثلها أن تنتهي بها.
"أنا صداكما أيها الاثنان الأغبياء. بل أنا صداكما أيها الاثنان المهووسان بالعنف. بل أنا صداكما أيها الاثنان المجنونان بالسلطة (...) تمسك يدي المسدس الفضي نفسه، أوجهه إلى صدغي، وإصبعي على الزناد، يحكّني عندئذ ظهري بجنون في المنطقة التي لا تطالها يدي، ويتصاعد الشواش في رأسي إلى أعلى درجاته وكثافته في تلك اللحظة، فيضغط الإصبع بثقة ودون تردد على الزناد، لتخرج الطلقة... لا أموت أنا، تموت البلاد".
مازن عرفة: كاتب وباحث سوري من مواليد عام 1955. حائز دكتوراه في العلوم الإنسانية، قسم المكتبات من جامعة ماري كوري في بولندا. له مجموعة من المؤلفات منها كتاب "سحر الكتاب وفتنة الصورة"، "تراجيديا الثقافة العربية"، وروايتين: "وصايا الغبار"، و"الغرانيق". الناشر: دار نوفل - دمغة الناشر هاشيت أنطوان/ بيروت عدد الصفحات: 356 الطبعة الأولى: 2018رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 16 ساعةاول مرة اعرف ان المحل اغلق كنت اعمل به فترة الدراسة في الاجازات الصيفية اعوام 2000 و 2003 و كانت...
Apple User -
منذ يومينl
Frances Putter -
منذ يومينyou insist on portraying Nasrallah as a shia leader for a shia community. He is well beyond this....
Batoul Zalzale -
منذ 4 أيامأسلوب الكتابة جميل جدا ❤️ تابعي!
أحمد ناظر -
منذ 4 أيامتماما هذا ما نريده من متحف لفيروز .. نريد متحفا يخبرنا عن لبنان من منظور ٱخر .. مقال جميل ❤️?
الواثق طه -
منذ 4 أيامغالبية ما ذكرت لا يستحق تسميته اصطلاحا بالحوار. هي محردة من هذه الصفة، وأقرب إلى التلقين الحزبي،...