يطول انتظار كمال (33 عاماً)، موظف في شركة اتصالات بأغادير جنوب غربي المغرب، لإيجاد سكنٍ مناسب لدخله، ولائق، والأهم وجود خصوصية تسمح له بأن يمارس حياته الخاصة دون وصاية من الجيران، ولأنه عازب، ومتوسط الحال، فالأمر ليس باليسير.
"صاحب الشقة يستفسر عن وظيفتي، وأهم شيء بالنسبة إليه هو حالتي الاجتماعية، فعندما أجيبه بأني عازب، يتحفّظ ويبدي اعتراضاً كاملاً"، يتحدّث كمال لرصيف22.
يجد كمال نفسه أحياناً مضطراً للكذب، أو يصطنع شخصية تواكب الأخلاقيات السائدة، ويدّعي بأنه شخص "محافظ جداً"، على النمط المرغوب فيه في مجتمعه المصغّر.
"هادو وْسْخُوا السمعة دْيَالْنَا" (هؤلاء لطخوا سمعتنا) يعلّق محمد، موظف عازب (27 عاماً)، على السلوكيات المتحررة لبعض العزّاب ويصفها بـ"المنحلّة" وبـ"الفساد" الأخلاقي.
يلوم محمد هذه الفئة من العزّاب، ويوجّه لها أصابع الاتهام لأنها تسبَّبت في عدم حصوله على مسكن مناسب، لذلك يضطر إلى استنكار هذه الممارسات أمام صاحب العقار.
تظل نظرة معظم ملاكي الشقق حيال العزاب الذكور ضيقةً ومحصورة بما هو جنسي، إذ ينظرون إليهم متشككين، فهؤلاء في نظرهم مجرد كائنات خُلقت لتبحث عن فضاء آمن لإشباع غريزتها الجنسية.
يرفض كمال هذه التصورات، ويرى بأنها "جاهزة"، وفيها "تحامل" على فئته، قائلاً: "نحن لسنا منحلين أو منحرفين كما يظن الناس، أنا وسواي ممن لا يرغب في الزواج، يبحث عن الخصوصية التي تميز قناعاته، كل واحد حر مادام لا يتجاوز الآخر، والعكس بالعكس. أعتقد بأن هذا حق إنساني، وهو لا يناقش"
"إمكانيات الحصول على سكن مستقل بالنسبة للشباب العزّاب تظل ضئيلة"، يقول السوسيولوجي المغربي، عبد الصمد الديالمي، شارحاً المشاكل التي يرزح تحت وطأتها العزّاب في المجتمعات العربية، كما أوردها في كتابه "المدينة الاسلامية والأصولية: مقاربة جنسية"، ويضيف الديالمي: "فحتى لو تبنى الشاب الاختيار الجنسي غير الشرعي، يطرح له سؤال "أين"؟ أين يمكن للشاب أن يشبع رغبته الجنسية؟ سؤال يُبرز تناقض "المدينية الرأسمالية" في العالم العربي، أي عدم وظيفيتها: تأجيج الرغبة الجنسية من جهة، والعجز عن توفير المكان المناسب نظراً لاعتبارات "سوقية"، قبل الاعتبارات الدينية والقانونية.
"العزوبية لا تثير الشفقة"
لن يكون حال العازبات أفضل من العزّاب الذكور، إذ ما زلن يُخْتزلن في صور نمطية، ونظرة الناس تختلف من بيئة اجتماعية وثقافية لأخرى.
"هاديك مسكينة" (تلك مسكينة) تعترض نوال، اسم مستعار (36 عاماً)، تعمل بالتدريس، على نعت الناس لها بهذا الوصف، وتراه بأنه محمل بالكثير من مشاعر الشفقة أو التعاطف أو حتى الإحسان.
تقول نوال لـ رصيف22: "لست مسكينة، والعزوبية ليست خطوة تثير الشفقة أو مدعاة للانتقاص من شخصي، هناك تصورات خاطئة عنا للأسف".
تحكي الشابة الثلاثينية عن تجربتها الأولى قبل سنوات في العمل بمنطقة قروية نائية، وبعيدة عن أسرتها: "عندما تم تعييني أول مرة في منطقة قروية تبعد عن مدينة زاكورة حوالي 100 كيلومتر، لم يستسغ السكّان أن تقطن معهم عازبة مثلي، وهي في سن يرونها حرجة (26 عاماً)، ولم تُقدم بعد على الزواج".
تجربة نوال لا تخلو من وصاية اجتماعية وأخلاقية للسكان المحليين، إذ يبررون ذلك تحت ذريعة الخوف عليها من أي تحرش أو سوء قد يمسها، وهو ما لا تعتبره تضييقاً عليها ما دامت خطوتهم مغلّفة بقيم إنسانية.
تقول: "الناس هنا في هذه المنطقة الصحراوية يعتبرونني أمانة في أعناقهم، ويريدون أن أظل تحت كنفهم وكأنني ابنتهم".
تختلف نظرة المجتمع الصحراوي المتسم بالندرة والتقشف الذي ينزع نحو تعزيز قيم الجماعة، عما عاشته نوال في وسط شبه مديني بضواحي مدينة "تارودانت" جنوب المغرب، إذ وجدت في البداية صعوبة بأن تستأجر سكناً في أحياء شعبية، السكان هنا يبررون كلامهم بـ"هاديك بوحدها، لا ندخل على أولادنا فتاة عزباء".
في السنوات الأولى، لم تمر أيام نوال بسلام، عاشت أياماً عصيبة من التضييق والتحرّش اللفظي والبدني، الذي وصل حدّ التهديد بسلامتها الجسدية من اللصوص وذوي السوابق الإجرامية، إذ هدّدوها بسكب الماء "القاطع"، مادة حارقة للجلد، على وجهها في حال إخبارها للشرطة بما حدث.
نميمة الجيران، واعتداء اللصوص
تغير الوضع قليلاً، وصار أقل حدة بعد أن سكنت في مجمَّع سكني من الطبقة المتوسطة، حيث يقطن الأساتذة والموظفون، لكن لم يكن أحسن حالاً بعد أن انتقلت لمدينة المحمدية، القريبة من الدار البيضاء، هناك تفاجأت الشابة الثلاثينية بأن تصوراتها المسبقة عن المدينة بكونها متحضرة وتقبل الاختلاف ومدينية من حيث الممارسات، لم تكن في مستوى التطلعات، خصوصاً في العمارة التي تقطن فيها. "هنا يراقبونني في الطالعة والنازلة في كل شيء" تعلّق نوال على تصرفات جيرانها.
تشعل المدينة الرغبة الجنسية للشباب العربي الأعزب، وتعجز عن توفير المكان المناسب، فأين يمكن أن يشبعوا رغبتهم؟
"هاديك ساكنة بوحدها، إذن يجب أن نضعها دايماً تحت المجهر" تعلق نوال، وتضيف: "أما هم فلديهم الحق في فعل ما يحلو لهم من الاستماع للموسيقى بشكل صاخب، أو الرقص والاحتفال مثلاً".
وجود نوال في هذا المسكن صار مادة دسمة للحديث اليومي لبعض الجيران، إذ أن كلماتهم لا تخلو من تلميحات ونميمة تستهدف أسلوب حياتها وملابسها واختياراتها الشخصية، أما عزلتها عنهم تظل عنصراً مستفزاً بالنسبة إليهم.
لا تعيش نوال عزلة كاملة عن دائرتها الضيقة، فرغم نظرة الناس "الازدرائية"، على حد وصفها، من قبل بعض الجيران، إلا أنها استطاعت أن تخلق علاقات إنسانية مع أشخاص يكنّون لها الاحترام، ولا ينظرون إليها نظرة "ناقصة".
تحاول الشابة الثلاثينية ما أمكن، أن تتعايش وتتأقلم بشكل مرن مع الشروط المفروضة عليها دون تقديم تنازلات كاملة، فيما يتعلق بلباسها، وطريقة تفكيرها، ونمط الحياة الذي ترغب في عيشه، حتى ولو غيرت منزلها.
في النهاية، لا ترى نوال بأن العزوبية اختيار دائم، إذ لديها رغبة واستعداد لدخول مؤسسة الزواج، ليس في إطاره التقليدي، بل وفق ظروف تحافظ على حقها في العيش باستقلالية دون وصاية.
"أنا أرى الزواج عيشاً مشتركاً، وصداقة بين طرفين تجمعهما مشاعر صادقة، لو منحني الزواج استقلالية في العيش، وتفاهماً مع الطرف الثاني دون وصاية منه، سأتزوج، غير ذلك سأظل عازبة ولا مشكلة لدي، وأنا راضية بعزوبيتي" تختم نوال حديثها.
تسامُح حسب "الوضع" والمكانة
سجّل المجتمع المغربي في السنوات الأخيرة تحولات سوسيولوجية على مستوى صعود ظاهرة العزوبية كنمط ليس بالضرورة اختيارياً، وإنما فرضته الشروط الاقتصادية والاجتماعية، فالعازبة لم تنل قبولاً كافياً لدى عموم الناس، إذ ما زالوا يختزلونها في أوصاف مثل "العانسة"، وقوالب جاهزة مرتبطة بـ"الشرف" والحفاظ على الجسد، وفقاً لأخلاقيات وأنماط المجتمع السائد.
بيد أن المجتمع يتساهل، وإن على مضض، مع عزوبية الأنثى بناءً على مكانتها الاجتماعية والاقتصادية وقدرتها على الاستقلال مادياً، وهذا ما أكدته السوسيولوجية المغربية سمية نعمان جسوس، إذ قالت في تقرير لـ"هافنجتون بوست" النسخة الفرنسية بأن "درجة التسامح تجاه امرأة تعيش بمفردها تعتمد بشكل أساسي على خلفيتها الاجتماعية وحالتها المهنية".
بدوره يرى السوسيولوجي المغربي عبد الصمد الديالمي، أن العوامل الاجتماعية والاقتصادية تلعب دوراً محورياً في تقبل عزوبية الأنثى أو عدمها، وأيضاً استصدار حكم أو نظرة وفقاً لهذا المعطى.
"لو منحني الزواج استقلالية في العيش، وتفاهماً مع الطرف الثاني دون وصاية منه، سأتزوج، غير ذلك سأظل عازبة ولا مشكلة لدي، وراضية بعزوبيتي"
يشرح الديالمي قائلاً: "إذا عرف أهل العازبة أن لديها دخلاً محترماً، وليس لديها خيار آخر سوى العيش بمفردها لأن أسرتها تعيش بعيداً عن مكان عملها، فسيتم قبول ذلك، أما إذا كانت عائلتها تعيش في نفس المدينة، أو إذا لم يكن لديها دخل كافٍ، فسيكون ذلك مستهجناً، وسينظر إليها بنظرة يشوبها الشك وبالتالي سيعتبرونها مجرد عاهرة".
العزوبية: "عزلة سعيدة"
على مدار عقود طويلة، صارت رقعة العزّاب تتسع أكثر فأكثر على حساب المتزوجين، لا ينكر السوسيولوجي الكندي إلياكيم كيسليف هذا الواقع، إذ يؤكد في كتابه "العزلة السعيدة: تصاعد القبول والاحتفال بحياة العزلة" أن ظاهرة العزوبية باتت تفرض نفسها أكثر من أي وقت مضى، بسبب عوامل متشعبة، مرتبطة بالتعليم و التمدد العمراني المديني، و أيضاً تغير الأنماط الثقافية والاجتماعية الناتجة بفعل حضور الفكر الليبرالي الاستهلاكي في حياة الناس، علاوة على تأثير الحركة النسوية التي، بشكل أو بآخر، لها دور في تعزيز فكرة الاستقلالية لدى الإناث.
"يمكن أن يعيش العزاب حياة كاملة وغنية، على عكس نظرة المجتمع لهم"
ويشير كيسليف إلى وجود 'الكثير من المفاهيم الخاطئة عن هذه الفئة"، منتشرة في أنحاء العالم، إذ "يُنظر إليهم على أنهم أشخاص غير ناضجين وعدائيين للمجتمع، وبائسين مع أنه يمكن أن يعيشوا سعداء بهذه الفردية وحياة كاملة وغنية".
في هذه النقطة، يتفق كمال ونوال مع هذا الطرح، ويعتقدان بأن العزوبية ليست مصدر تعاسة أو وحدة أو ضرباً من ضروب الضياع كما ينظر إليهما مجتمعهم.
هذا الكلام يشاطره أيضاً مستجوبون لدراسة منشورة في كتاب "اختيار العزوبية: الزيادة الاستثنائية والنداء المفاجئ باختيار العزوبية"، أجراها السوسيولوجي الأمريكي إريك كليننبرغ، إذ عددوا فوائد العيش على وقع العزوبية، مثل الاستمتاع بالحرية الكاملة، و متابعة الجدول الزمني للأعمال و المشاريع الشخصية، و الحفاظ على العادات التي تهم التركيز على تحقيق الإنجازات الشخصية و تطويرها و تنميتها، و في هذا الوضع لا توجد تنازلات، و لا تضحيات، أو حتى التزامات، و هي امتيازات يعتقد المستجوبون بأنها أفضل من تكريس كل الوقت للعناية بشخص ما (زوج/زوجة).
وتفنّد دراسة كليننبرغ تصوّرَ أن العزّاب منطوون أو منعزلون عن نسقهم الاجتماعي والثقافي، بل بالعكس هم أكثر حيوية وانخراطاً من نظرائهم المتزوجين في نسج علاقات اجتماعية والحفاظ عليها مع أقاربهم.
لكن، حتى لو كان العازب سعيداً أو راضياً بفرديته (كما هو الحال مع نوال وكمال) فيُنظر إليه بشكل أكثر سلبية من الأشخاص العُزّاب الذين يريدون الزواج (وفق ما توصل إليه البحث المنجز من طرف كيسليف)
يوجز كيسليف نظرة المجتمعات العنصرية للعزاب في تصريح لـ"فايس" النسخة الإنجليزية: "نحن بحاجة إلى أن يكون الناس مثلنا ويشاركونا نفس قيمنا، إذا أبلغنا أحدهم أنه يريد الزواج، فإننا نعتقد أنه جيد فهو ينتمي إلى معسكرنا، لذا فلا بأس بذلك، ولكن إذا قالوا إننا لا نريد الزواج، فنحن نعتقد فجأة أنهم منحرفون، لا يشاركوننا قيمنا، وليسوا جزءاً من معسكرنا أو قبيلتنا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...