شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
كَافِرُون ومُؤمِنُون، مُتحَرِّرون ومُحَافِظُون..ازدواجِيَّة الشَّباب

كَافِرُون ومُؤمِنُون، مُتحَرِّرون ومُحَافِظُون..ازدواجِيَّة الشَّباب "الليبرالي" في المغرب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأربعاء 27 مارس 201906:01 م

"معقّدون نفسياً"، "يعيشون في برج عاجي"، "غريبو الأطوار"، "منحلّون أخلاقيّاً"، "مُتَشَبِّهون بأخلاقيات أوروبيّة غريبة عن ثقافتنا"، هكذا ينظر معظم الناس في المغرب، إلى أبناء بلدهم الذين يحملون أفكاراً ليبيراليّة وأخلاقيات منفتحة، ما يدفعهم تحت وطأة نظرات الناس المُدِينَة والمُسْتَنْكِرة أن يعيشوا على وقع حياتين، إحداهما مع أنفسهم في غرفهم المغلقة، ومع أصدقائهم، وعلى السوشيال ميديا، حيث يتبنّون اختلافهم، وأخرى محافظة وتقليديّة، حيث هم، مع أهاليهم وزملائهم في العمل.

"أعيش على وقع حياتين" هكذا يوجز يوسف (اسم مستعار- 31 سنة) حياته، ويفسّر ذلك قائلاً: "أكاد لا أنسجم بين أفكاري وممارساتي"، ويصف ازدواجيّته بأنها باتت "طافحةً" في حياته وممارساته.

"أنا متناقض...أتبنّى أفكاراً متمرّدة في كتاباتي عن الأبويّة والتسلّط السّائد في مجتمعاتنا، ولكني أُكرّس عكسها في فصلي الدراسي كمدرّس"

"أنا متناقض بين أفعالي وسلوكياتي.. أتبنّى أفكاراً متمرّدة في كتاباتي عن الأبويّة والتسلّط السّائد في مجتمعاتنا، ولكني أُكرّس عكسها في فصلي الدراسي كمدرّس".

هكذا وجد يوسف نفسه أمام ما يُشبه الفصام، بين أفكاره ككاتبٍ حرٍّ وروائيٍّ ناشئ، وبين مهنته كمدرّس، هذه الأخيرة تفرض عليه -أحياناً- اتباع طرق شائعة بالتدريس في المغرب، ونظيراتها من الدول النامية، مثل السُّباب أو الضرب، السلوكيّات التي يصفها بلغته المُشبَعَة بأفكار الفلاسفة والمفكّرين بـ"أساليب تُكرّس أنماط التسلّط".

يحكي يوسف لـرصيف22 تفاصيل تلك "الفجوة الواسعة" التي يعيشها مُتألِّماً بشكل يومي، فعندما يكون في المدرسة يُمارس عنفاً مادياً، وأحياناً "رمزياً" تجاه تلامذته في الفصل، وبعد أن ينتهي من وظيفته ويعود إلى بيته، يكتب ويناقش في المقهى وعلى وسائل التواصل الاجتماعي، أفكارَ مفكّرين وفلاسفة مثل كارل ماركس، وهيغل، وأريك فروم، مروِّجاً لنفسه باعتباره شخصاً "متنوِّراً"، ويؤمن بـ"القيم الإنسانيّة"، ويناهض "الأنماط الأبويّة"، و"الديكتاتورية" بكلّ الأشكال الممكنة.

يقول يوسف إنّه لم يعد يشعر بكينونته كمدرّس بقدر شعوره بأنّه "إنسان متحقّق وموجود ككاتب"، وفي ذات الوقت يرى أنّ حياته الإبداعيّة ليست سوى واجهة استعراضيّة، لا تُعبّر عما يشعر به في داخله، "أحياناً أحسّ وكأنّني أعيش حياةً زائفةً".

وينهي يوسف حديثه قائلاً: "كلّ مرّة يُدقّ فيها جرس المدرسة، أستمع لصوت داخلي يسألني: هل أنا هو أنا..وأنا أزاول مهنتي؟".

"أعيش عَلى وَقعِ حياتين، وأَتَعَايَش"

"الله غير موجود بالنسبة لي، لكنه موجود في تفاصيل الناس الذين أعيش وأتعايش معهم بشكل يومي، لذلك أضطرّ لإخفاء هذا الأمر"، لا يجرؤ "أ.ب" (32 سنة-مدرّس) أن يعلن أمام عائلته وأصدقائه قناعاته الشخصيّة، خصوصاً إلحاده وموقفه المتمرّد على التقاليد وسط مجتمعه المُصغّر، لأنه قد يخسر الكثير من علاقاته وارتباطاته الشخصيّة.

"كيف أخبر والديَّ بأني ملحد؟ كيف سيتقبَّلان ذلك؟ وماذا عن الآخرين؟ من المُؤكَّد أني سأعيش عزلة ونَبْذاً من الكلّ، لا لسبب سوى أني حرّ في قناعاتي الشخصيّة"، يتساءل "أ.ب"، ويُضيف كأنّه يتحدّث إلى نفسه: "أجل..أتعايش، وأعيش على وقع حياتين".

يتذكّر بدايات إلحاده في شبابه، حيث لم يستسغ أن يعيش "نوعاً من الازدواجيّة"، كان يفكّر أنه يجب أن يمارس ما يؤمن به مع الناس، ولكن السبب في تراجعه ما يسميه بـ"سلطة المؤسّسات"، إذ يرى بأنها كانت أقوى، وفرضت عليه أن يمتثل لكلّ تلك العادات والتقاليد الأسريّة والعائليّة، لكنه يعود ويؤكّد لنفسه بأن "الازدواجيّة هي الحلّ المريح والأكثر واقعيّة".

عن هذا الواقع يحكي لرصيف22: "صعب عليّ أن أمارس قناعاتي بشكل تلقائي، أنا أقطن مع والديّ وأخوتي في نفس المسكن، في رمضان مثلاً، لا أستطيع أن أفطر في وضح النهار أمامهم، في بقيّة الأيام الأخرى أمارس حياتي كما أريد، لكن بعيداً عن أنظار عائلتي".

"لا أجادل، ولا أناقش كثيراً مع عامّة الناس آرائي حول الدين والمعتقد، أسايرهم أو أتحفّظ، وأحياناً قد أتبنّى "خرافاتهم" كنوع من السخرية بالتبنّي". يستطرد "أ.ب" في حديثه.

وبخلاف يوسف، لا يرى "أ.ب" أنه يعيش "اغتراباً طافحاً"، بقدر ما يحيا "ازدواجيّةً" يتعايش معها بشكل يومي، ويعترف في ذات بأنه يمارس نوعاً من التَّقِيَّة، "أجل أمارسها، طيب ما الحلّ؟ هل أعاند وأتمرّد على هذا السجن، أنا وغيري لسنا كثراً حتى نمارس ما يعبّر عن حالتنا الوجوديّة".

يَساريّة مغربية: "مُتحرّرة ولكن سَجِينة..."

أمل (28 سنة-خريجة جامعيّة)، قدّمت نفسها كامرأة "هواها" يساري اشتراكي، راكمت القراءات الفلسفيّة والفكريّة والابداعيّة، كتابات لأشخاص مثل سيمون دوبوفوار وجان بول سارتر أثّرت في تكوينها النفسي، ولكنها قرّرت أن تتزوج في ريعان شبابها، وهي المؤمنة بأن الزواج "مؤسسة برجوازيّة رثّة"، فكيف ذلك؟

"ليست المشكلة في الزواج بل في الأنساق التي تحاصرنا من كل جانب": تقول أمل.

تعي الشابة العشرينيّة أنها تعيش "اغتراباً اجتماعيّاً وثقافيّاً ونفسيّاً"، على حدّ وصفها، أكثر من فكرة ازدواجيّة ضيّقة، وتقول أنّها تؤمن بأفكارها الثوريّة المتمرّدة على المنظومة الاجتماعيّة والأنماط السائدة، للأفراد الذين تشاركهم الحياة، لكن من ناحية أخرى يتضاءل شعورها بشخصيتها لتصبح "قطعة من الجحيم"، خاصّة عندما لا يعترفون بها كفرد له كيانه المتفرّد، ويحاول التحرّر من الأخلاق الاجتماعيّة المفروضة عليها، أو على حدّ تعبيرها الذي تفضّل أن تستخدمه كثيراً لوصف حالتها: "سجن الأنساق".

تقول أمل: "لا يستسيغ البعض من أفراد عائلتي أو جيراني بأني إنسانة مستقلّة بأفكاري التقدميّة قبل أن أكون متزوجة، لكن للأسف دوماً يتدخّلون في اختياراتي الشخصيّة، وقد يسبّبون لي مشاكل أو أزمات".

 "مَسجُونة، ومُغتَرِبة، ومُحَاصَرة، وابنتي هي الأَمَل"

رغم أنها أسّست لنفسها نمطاً أُسريّاً تشاركيّاً مع زوجها، يتماشى مع ما تؤمن به من قناعات شخصيّة، إلا أنها ما زالت تحسّ بأنها مسجونة ومغتربة ومحاصرة وسط أسوار كثيرة، خصوصاً وأنها تربت في ظل أسرّة ممتدّة، تنزع نحو القيم الأبويّة الذكوريّة، وتحاول أن تفرض قيمها "المحافظة" التي تستوجب على الفرد أن يسمع ويطيع ويمتثل للجماعة.

"أحياناً، أقوم بأشياء تُفرض عليّ بشكل أو بآخر، كالأعمال المنزليّة المتعبة، وأعباء كثيرة، زيارة الأقارب لمنزلي هي كذلك تفرض عليّ أحياناً ألّا أُظهر آرائي الناقدة والمعترضة حول أنماط معينة، وإن حصل ذلك فأنا أُتهم بالإلحاد، وفي أفضل الأحوال يختزلونني كزنديقة منحلّة": تقول أمل في حديثها لرصيف22.

"الزواج سجن للفرد، وتكريس للرجعية، ولسلطة المجتمع" أمل زوجة وأم مغربية

بعد مرور سنوات على زواجها، تعترف أمل بأنّ هذه المؤسّسة بمثابة سجن للفرد، واعتبرتها "تكريساً للرجعيّة"، وأيضاً لـ"سلطة الأنساق الاجتماعيّة والثقافيّة"، هي تتطلّع للتحرّر من هذا الوضع، لكن بعد أن أنجبت بات أملها يتجدّد في ابنتها التي ترى فيها امتداداً للحرية، بَيْدَ أن التخوّفات تتزايد، فتنشئة طفلتها تختلف عن البقيّة، ولهذا تتخوّف أمل من أن تكرّر ابنتها "اغترابها"، وأن تعيش ما سَمَّته بـ"صدمة ثقافيّة" داخل مجتمعها، وبالتالي "المزيد من المتاعب" في مجتمع تراه بأنه "لا يحترم التعدّد والاختلاف".

"لكن على الأقل سأربّيها لتكون إنسانة مستقلّة لها فرديتها وشخصيتها، وربما لن تضطر للمساومة مع الأنساق مثلي"، تختم أمل حديثها.

باحثون وفلاسفة: ازدواجيّة، فاغتراب، فتكيّف، فانسجام

واقع "أمل" يُلخّصه أستاذ علم الاجتماع السوري حليم بركات في كتاباته بالقول: "إن محاولات سحق الذات وتذويبها في الجماعة، ترسّخ ميول التشديد على قيم الطاعة والتأكيد على العضويّة على حساب الفرديّة، والتقليد على حساب الاستقلاليّة والإبداع".

وعن الازدواجيّة التي يجد كثير من الشباب نفسه أمامها، يكتب بركات أن مثل تلك الحالات تعبّر عن "الرضوخ والاستسلام للأمر الواقع والتكيّف معه ظاهرياً"، على حدّ تعبيره، وهو ما يُعْتبر "خيار آخر كثيراً ما يلجأ إليه المغتربون بفعل اليأس والضعف، وقد تنتهي مسوّغات التكيّف مع الواقع، كالتملّق والمجاملة والتحبّب والتّقيّة والتسويغ والتناول والمساومة، إلى الانسجام مع الواقع".

كارل ماركس، الذي يعتبره "يوسف" الفيلسوف الأكثر تأثيراً فيه، تحدّث كثيراً عن حالة اغتراب العامل، وهي حالة عامّة تسجّلها المجتمعات الرأسماليّة التي حوّلت العامل إلى مجرّد كائن عاجز وسلعة، يقول ماركس: "يهبط العامل إلى مستوى السلعة ويصبح حقّاً، أكثر السلع تعاسة، يصبح سلعة رخيصة بقدر ما يُنتج من سلع، وبتزايد قيمة الأشياء تتدنّى قيمة الإنسان نفسه".

بالنسبة لعالم النفس "إريك فروم" فهو يُشدّد، بعبارات تحمل غموضاً صوفيّاً، على "الذات"، ويعني بها شخصيّة الإنسان نفسه كما يشعر بها، باعتبارها منبعاً للاغتراب والازدواجيّة، إذ يقول: "الذات الزائفة تظلّ هي المنفصلة عن وجودها الإنساني الأصيل"، ويُفسّر الأصالة بأنها: "الذات غير المغتربة التي حقّقت وجودها الإنساني الكامل".

"يكون الإنسان مغترباً عندما يتخلّى عن حقّ الاختيار ، ويهرب من ذاته والأزمات، ويعيش حالة من الزيف" الفيلسوف مارتن هايدغر

ولم تخل كتابات الفيلسوف "مارتن هايدغر" عن الاغتراب، يقول في كتابه "الكينونة والزمن": "يكون الإنسان مغترباً عندما يتخلّى عن حقّ الاختيار ، ويهرب من ذاته والأزمات، ويعيش حالة من الزيف، ويغرق في الحاضر وفي عالم الآخرين، فينفي وجوده ويصبح واحداً من الآخرين".

ويوضّح "هايدغر": إن الوجود الأصيل هو وجود يصنع ذاته ويحدّد اتجاهه من خلال القرارات والاختيارات التي تنتمي إليه حقاً، والتي يمارسها بحرية تامة ووعي كامل بالأحوال الجوهريّة الإنسانيّة "، أما الوجود الزائف فيتسم بغياب أي "شعور بالأصالة، وينزع عن الإنسان كل ما لديه من قدرة على الاستقلال بالرأي واتخاذ القرار".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard