"أمينة.. في صور مزعجة، الجثث اطلعوها من النيل... ما تشوفيها"، هكذا أوصاني أخي الأكبر، قُبيل عودتي للعمل بعد عطلة العيد ونهاية العصيان المدني الذي تمّ عقب مجزرة فضّ اعتصام. الصور تعود لليوم الكارثي، أي قبل عشرة أيام من حديث أخي أعلاه، لكن الإنترنت قُطع عن السودان بعد ساعات قليلة من جريمة الاعتصام، وعليه لم أر منها إلّا ما عُرض عبر التلفاز. في العمل يوجد إنترنت، قلت لنفسي: غداً أواجه الحقيقة التي يتحايل عقلي على حمايتي منها، غداً سأشاهد فيلم الرعب.
هذا بالضبط ما حدث للأهالي في المنازل والطلاب المنقطعين عن دراستهم لإغلاق الجامعات، ولعموم السودانيين في يوم 9 يوليو، عندما عاد الإنترنت أخيراً، أي بعد شهر من الانقطاع، على الأقل كنت مستعدّة، وتعرضت للإنترنت على جرعات. أمي مذهولة من تدفّق بشاعة الجرائم، ومنذ البارحة لا تكف عن رواية قصة الأسرة التي فقدت أبنائها الثلاثة في الاعتصام، اثنين ماتا فوراً، والثالث مصاب في الجمجمة، والأب يصارع ألم الصدمة ويرقد في المشفى أيضاً.
الحكايات بدون الإنترنت
نوافذ الإنترنت المتعددة أُغلقت بالتعاقب، أظن أن في لحظة القرار بإيقاف الخدمة، فكروا فقط في الهواتف الذكية، لذلك قُطعت خدمة الـ broadband وبعدها اللاسلكي الذي تبيعه شركات المحمول. هكذا خرج منزلنا من القرن الواحد والعشرين، وصارت أختي الوحيدة في الأسرة من لديها إنترنت عبر لاسلكي شركة كانت جزءاً من اتصالات الإمارات سابقاً، حيث سقطت تلك سهواً من حسابات العسكر.
موقفي من العنف يحرمني حسب النقاد من روائع المخرج تارانتينو، وهي أفلام خيال، وكذلك جراح المصابين نوع من المكياج ودماؤهم مزيفة، فكيف لي أن أتابع عنفاً واقعيّاً؟
كنت أتساءل يوم المجزرة عن سلامة من أعرفهم وذويهم عبر الرسائل القصيرة، هذا ردّ الفعل التلقائي في الكوارث، شي يشبه ما يوفّره الفيسبوك في بعض الأماكن بالعالم لوضع علامة mark yourself safe، أي أعلن أنك بخير، بعد أعاصير أمريكا مثلاً. الجميع يتفقّد الجميع، حتى صديقتي عبر القارات اتصلت للاطمئنان على سلامتي، رغم يقينها أنني لا أبيت في أرض الاعتصام، ولكنه القلق.
يقرأ أخي لي عبر الهاتف ما كتبه ثوار ما زال لديهم إنترنت سلكي منزلي. فكانت المعلومة تخرج من السودان لتصل المهاجرين والمغتربين ثم يعيدونها لأهلهم في السودان. بعد أيام قُطع الإنترنت عن أختي أيضاً، كانت الرسائل النصية هي بديلنا، ومن لديه إنترنت شعر بمسؤولية نشر المعلومات.
الحيلة الأخيرة التي لجأ إليها الثوار هي شرائح هاتف جوال عالمية معبئة بالإنترنت وتوفّر خدمة التجوال الدولي، بالطبع التكلفة عالية جداً - لكن في سبيل الثورة يرخص الغالي-، قبل أيام اكتشفت سلطة العسكر حيلتنا وقطعت التجوال، نافذة ضيقة ومكلفة وتتوفّر للخاصة، لكنها تخرق حالة التعتيم المطلوب.
الحكايات الشفويّة مفزعة. حكى لي أصدقاء ثقة وأقارب بشاعات تترسب في الأعماق. كقصة مراهق اضطر لإجراء عملية غسيل معدة بعد أن أُجبر على شرب مياه صرف صحّي، وشاب يقبع في منزله في حاله اكتئاب بعد أن تشبع قميصه بدماء صديقه الذي فارق الحياة وهو يسند رأسه على كتفه، شاب آخر ضُرب حتى فقد الوعي وظن أنه مات فتركه معذبه، بينما إحدى ضربات سياطهم قد عبرت عينه، فكادت تعميه. هؤلاء أنقذتهم أقدار من القتل، أدعوا أن يتحملوا ثقل الذاكرة.
فيديو الشاب الذي يركض وهو يصور ببثّ حي ومباشر لجمهور الفيسبوك ويقول: "يا جماعة ديل بقتلونا"، ثم يمر بجثة صبي نحيف منقلب على بطنه، ويبدو أنه متردد بين الاستمرار في الركض أو التوقف لرفعه، فما معنى تفقّد ميت وأنت مهدد باللحاق به؟
عودة الإنترنت ومشاهدة الفيديوهات الأولى
من الطبيعي أن يعود الإنترنت لخدمة تُقدّم بالساعة، لكن بالنسبة لي كانت مجانية، فطوال ساعات الدوام كنت أتمكن من الدخول لمواقع التواصل الاجتماعي. في أوّل يوم عودة للعمل، تبعت نصيحة أخي وتجنبت المفزع من الصور، على أي حال أنا أفعّل خاصية حجب المواد المصنفة "عنيفة" في تويتر.
لم أنجز أياً من المهام الوظيفية ذلك النهار، كنت أفتح صفحات معارف الفضاء الافتراضي وأحمد الله: فلان مازال حياً، لقد خرج في الوقت المناسب، الفتاة المبتسمة المفرحة كانت من الناجين، الحمد لله، هذا مصاب في ذراعه، كان من الممكن أن تصيب قلبه...وهكذا، ثم تابعت أسماء المفقودين وبحثت عن الطبيبة التي اختفت وسألتني عنها صديقتي في الخليج، إنها طبيبة ونحن نعلم أن بعضهن تعرض لاعتداء جنسي في عيادة الاعتصام الرئيسية.
في اليوم التالي، لا وقت لمشاهدة الفيديوهات، أثناء الدوام كان هنالك كثير مما يتعين عليّ فعله كموظفة، وكثير مما وثقه الناشطون وعليّ معرفته كمواطنة، قررت أن أزاول مهنتي في زمنها، وحمّلت مقاطع فيديو على جهازي لأشاهدها .offline لاحقاً
كنت مهتمة بالأخص بمقطع طويل يوثق ساعة كاملة من فض الاعتصام، ذكره لي أخي وقيل لي أن قناة الجزيرة بثته مباشراً ليلة الجريمة.
عندما عدت للبيت، تذكرت طلب صديقي حين أخبرته بأنني سأشاهد ما فاتني "أمينة قبل ما تشوفي أي حاجة ما تأكلي"، حسناً، هذا الفيديو ذو الستين دقيقة مصوّر من مبنى مقابل لموقع المجزرة، بعيد كفاية وأقل حدة من غيره. الجودة رديئة بالكاد تعرفت على المنطقة التي تحصرها زاوية التصوير، الأصوات تجعل قلبك يدق بعنف، يا الله، هنا يعمل الخيال لصنع المشهد الضبابي، فرقعة ذخيرة حية وصراخ ألم وصفارات. الصفارة توحي بالتنظيم، أنها عملية يخاطب فيها المجرمون بعضهم بعض بصفير صفارات دقيقة، هل يصحّ تشبيهم بقطيع حيوانات مفترسة في مهمة صيد، أم أن ذلك يسيء للحيوان؟ عذراً، من شارك في المجزرة انتفت منه صفات الآدمية النبيلة وتدنى لمرحلة المرتزقة، وهم الصنف البشري الذي ينفذ الإبادات ببرود.
يقرأ أخي لي عبر الهاتف ما كتبه ثوار ما زال لديهم إنترنت سلكي منزلي. فكانت المعلومة تخرج من السودان لتصل المهاجرين والمغتربين ثم يعيدونها لأهلهم في السودان
حكى لي أصدقاء ثقة بشاعات تترسب في الأعماق. كقصة مراهق اضطر لإجراء عملية غسيل معدة بعد أن أُجبر على شرب مياه صرف صحّي، وشاب يقبع في منزله في حاله اكتئاب بعد أن تشبع قميصه بدماء صديقه الذي فارق الحياة وهو يسند رأسه على كتفه
عدم القدرة على مشاهدة الفيديوهات
في الثالثة عصراً بالضبط من يوم الثلاثاء الماضي، كنت في المكتب، فصلت إنترنت اللاسلكي التابع للشركة عن هاتفي وجرّبت خط الإنترنت خاصتي. تأكّدت، لقد تم فك الحظر، في الثالثة ودقيقة كان هاشتاغ #توثيق_مجزرة_القيادة_العامة، يسري في الشبكة العنكبوتية ناقلاً فيديوهات لم تظهر من قبل.
هنا تكمن عظمة الثورات، ففرحة الإفراج عن الإنترنت تنحت جانباً متيحةً الفرصة لاستغلاله بالشكل الذي يخشاه العساكر. فعندما قُطع، كان الغرض واضحاً: حجب آثار الجريمة، ولعل العسكر ظنّ أن طول المدة سيخفف اللهفة ويقلل الحماس الثوري.
لغرض هذا المقال قمت بجولة على المواد التي نشرت بعد عودة الإنترنت، ففي العادة أكتفي بوصف الناس لمحتواها، أعني المواد التي يمكن تصنيفها R، أي أعلى تصنيف يُمنح لحساسية المعروض في السينما لو كانت في فيلم أمريكي.
موقفي من العنف يحرمني حسب النقاد من روائع المخرج تارانتينو، وهي أفلام خيال، وكذلك جراح المصابين نوع من المكياج ودماؤهم مزيفة، فكيف لي أن أتابع عنفاً واقعيّاً؟ لقد حاولت، وكان أقصى ما تمكنت فعله هو مشاهدة بدايات هنا وهناك، وعندما يشتد الموقف أغلق الملف وأغادر للتالي.
الخلاصة، النشر هدفه التوثيق ولفت الرأي العام العالمي، وإيقاظ السوداني المحايد المحبّ لسكون الجهل بالحقائق. لا أشجع على رؤية كل المواد التي وثقّت الجرائم ونُشرت، لكن لنكن صوت السودان الذي يريدون إخراسه، لنكن الشاهدين على عصرنا ولا ننسى ما يفعله المستبدّ كي يتمسك بالحكم، هذا درس علينا حمله للأجيال القادمة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...