شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

انضمّ/ ي إلى ناسك!
كيف هزمتُ خوفي وشاركتُ في مليونيّة ما بعد فضِّ الاعتصام في الخرطوم؟

كيف هزمتُ خوفي وشاركتُ في مليونيّة ما بعد فضِّ الاعتصام في الخرطوم؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 2 يوليو 201901:30 م

ما هو الخوف؟ وكيف يُنتزع من الفؤاد؟ كنت أفكّر في إجابة هذه الاسئلة في الليالي السابقة لموعد المليونيّة التي حدّدها الثوّار في نهاية شهر يونيو. فبعد مجزرةٍ استُهلّ بها الشهر، استجمع الناجون من فضِّ الاعتصام قوّتهم، ودقّوا طبول الثورة لتعود لعنفوانها وحماسة مواكبها. بينما حاصرني القلق ومنعني الخوف عن المشاركة في البروفات الصغيرة من تظاهرات الأحياء ليلاً.

لعلّ الخوف يختبئ في لحظة يندفع فيها الأدرينالين في العروق، ثم يعود إلى مكانه في الليل، فأنا لا أنام بشكلٍ جيّد منذ فضِّ الاعتصام. أجزم أن التخلّص من الخوف يحدث بالمواجهة المتكرّرة لما يرعبك، وهذا ما فعلته ثورةٌ تمتدّ منذ نصف عام حتى الآن في تركيبة الثوّار النفسيّة، أعني ثوّار المواكب منذ ديسمبر والمعتصمين لشهرين أمام الجيش ومدرّعاته. أولئك اللذين اختبروا المعتقل والضرب، وشاهدوا الدماء تلطخ الرصيف، وتشبّعت ملابسهم وصدورهم بالغاز المسيل للدموع. الثوّار تعلّموا بالتجربة أن الألم الجسدي والمعنوي يمرُّ وتبقى الروح بخير، فهي تسير في الطريق الصحيح، طريق الحرية.

الدعوة تصل رغم كلّ شيء

في 30 يونيو من العام 1989، نفّذ عمر البشير انقلاباً عسكريّاً وسمّوه "ثورة الإنقاذ". وفي الثلاثين من يونيو لهذا اليوم، هو تاريخ انتهاء المهلة التي حدّدها الإتحاد الأفريقي كي يسلّم المجلسُ العسكري السلطةَ، للمدنيين وهو مطلب الثورة الأساسي. لهذين السببين اختار الثوّار الأحد 30 يونيو 2019 لتفعيل المظاهرات المليونيّة من جديد.

قادة الثورة تبنّوا خيار الشعب، وعندها أصبح الثوّار ينتظرون بلهفةٍ خطتهم عن المسارات والوجهة. تمنّى الثوّار أن تمضي الملايين باتجاه القصر الجمهوري، وهذا سيكون نصراً ذا رمزيّة، حيث تعذّر الوصول له طوال فترة المواكب التي سبقت 6 أبريل الماضي.

لسنا بدعاً بين البشر، لطالما قاومت الشعوب البطش والقهر ولطالما طغى حكام يعميهم الغرور عن رؤية الحقيقة.

رغم انقطاع الإنترنت نجح الإعلان للمليونيّة، لربما قد وصلك الخبر عبر رسالةٍ نصيّةٍ في هاتفك المحمول، أو وجدت الدعوة على جدران المنازل، كان بإمكانك أن تسمع عنها من صديق، أو في حديثٍ عابر بين غرباء في المواصلات العامّة، أو أن تجد منشوراً على سيارتك، أو في مدخل العمارة التي تسكن فيها، أو في السوبرماركت والصيدليّات. اختلفت الوسيلة باختلاف المتلقّي وتبدّلت لتناسب أسلوب حياته، اجتهد الثوّار بحيث لا يمكن أن تكون في السودان دون أن تسمع بالخبر، بل لا يمكن أن تكون سوداني ولا تعرف أن 30 يونيو كان موعدنا. النتيجة أنها حملة دعائيّة تساوي حملة إعلان 6 أبريل، وهذا في حدّ ذاته هزيمة لمن قطع الإنترنت ليمنع التواصل والتنسيق.

بالتزامن مع المليونيّة التي قُرِّرت داخل البلاد في عدّة مدن بالإضافة للخرطوم، نسّق سودانيو المهجر وقفاتٍ في عواصم أوروبيّة، لتسليط الضوء على مليونيّة السودان. الغرض أن يكون الاهتمام العالمي وقايةً من الخطر.

الخوف ورسائل الوداع

في ليلة التاسع والعشرين من يونيو، عرفت المسار في محليّة الخرطوم من صديقة لديها إنترنت، وتحدّثنا عن رغبتها في الخروج وحاولت أن أثنيها، الخوف الذي حسبت أنه هجرني حين خرجت في مليونية 6 أبريل يحتلّني بالكامل، وأودّ لو كلّ أحبتي يبقون في نطاق الأمان، بعيداً عن خطر الشوارع المدججة بالرصاص.

على صفحات التواصل الاجتماعي، رسائل الوداع ممن عقدوا العزم على المجازفة، حسناً، أنا لا أبالغ، عليكم أن تتذكّروا أن آخر تجمهر كبير انتهى بمقتل 600 شخص (العدد الذي تعترف به سلطة العسكر مئة) واغتُصب العشرات، وهنالك عدد غير محدّد من المفقودين. مازالت المقاطع المسجّلة من ليلة فضِّ الاعتصام تتوارد لتتبدّى همجيّة قوّات الدعم السريع، الجنجويد.

رسائلهم الوداعيّة تتلخّص بجملٍ تشجيعيّة ودعاء وعبارات في حب الوطن ومحبة بعضهم البعض. يكتبونها بواسطة إنترنت أرضي ثابت ينقطع بخروجه من المكان، ثم ينطلق أحدهم في طريقة حاملاً هاتفه وكمّامة طبية وأغصان شجر النيم، أو قارورة بها خلّ لأبطال مفعول الغاز المسيل للدموع.

على الطرف الآخر، كتب الناشطون أسماء المستشفيات الجاهزة لاستقبال المصابين، وتمركز المصوّرون في أماكن تساعدهم على التقاط المشهد كما يجب.

عن الخوف ومشاعر أخرى

التغلّب على الخوف هو أن تعلم إنك قد تُقتل، أو تُغتصب، أو تُعتقل، ثم تجهّز نفسك ويجهّز الطبيب سريرك في مشفاه وتخرج. أنها مقامرة، تلقي بروحك وعافيتك في مقابل ساعات من الحرية، إلا أن الثائر أيضاً يقايض كلّ شيء بالمستقبل الذي قد لا يعيش هو شخصيّاً فيه.

ربما الغضب أقوى من الخوف، ربما الأمل في حياة كريمة يجمع الخلايا المرتجفة ويصنع القوّة المعنويّة. ربما هي الكثرة والجموع تخلق الشجاعة. اخترْ أيّ تفسير، وتكون النتيجة أن الحالة الثوريّة التي تنتفض بعد المجزرة، جديرة بالدراسة والاحترام.

لسنا بدعاً بين البشر، لطالما قاومت الشعوب البطش والقهر ولطالما طغى حكام يعميهم الغرور عن رؤية الحقيقة. ارفض التباهي الثوري السوداني، فما نعيشه منذ ديسمبر الماضي لا ينافس السوري واليمني، ولو قيس بدافور أو فلسطين فهو نذر يسير. لكن الفخر محفّز، وفخر طلب الحرية يعلو بالهمم ويهزم الخوف. عليه، فليكن الفخر مبالغاً به، وليسمي ثوّار بلادي أنفسهم ما يشاؤون، المهم أن نستمرَّ باندفاع نحو الحرية.

السبب الذي دفعني للمشاركة

أتي الأحد المشهود، وقد عزمت ألا أخرج وأخذت أسباباً لتريّح ضميري، تعذّرت بأنني في الثلاثينيات وآخر ما ينقصني هو صدمة نفسيّة من ضرب صبي مراهق يرتدي ملابس عسكريّة لي. لن أتحمّل الذل، أنا أعرف نفسي. تحجّجت بضعف لياقتي البدنيّة بحيث سيُلقى القبض عليّ إن اضطررت للركض. وقلت لنفسي اكتفي بالكتابة، أنه دور لا بأس به. شيء واحد دفعني في نهاية حيرتي للذهاب وهو حبّي لصديقتي، لابد ان أكون معها كما كنا منذ 6 أبريل وفي ليالي الاعتصام.

عند الثانية عشر ظهراً، كان الطقس أفضل بكثير من أبريل، لقد بدأ الخريف. الطريق بالسيارة حتى نقطة التجمّع كان هادئاً، فالناس وعلى عكس ازدحام الأحد لزموا منازلهم. منهم من يتجنّب التورّط فيما سيحدث ومنهم من يوفّر الطاقة حتى موعد الموكب في الساعة الواحدة ظهراً.

وصلنا باكراً، وبعد قليل، رأينا النواة الأولى للموكب، تركنا السيارة وسرنا مع الناس كباراً وصغاراً. بعد ساعتين ونصف وجدنا أنفسنا وسط حشودٍ لا نرى أوّلها ولا آخرها، عقلي يفكّر في سناريوهات الكارثة، يقول لي العساكر يستدرجوننا، ما معنى هذا؟ أين الرصاص والهجمات الوحشيّة بالعصي والسياط؟ بينما الهتافات تعلو من حولي، ويغمر الناس شعور لطيف بالارتياح. ها نحن نعود ونحضن خيبة أملنا وجراحنا ودماء شهداءنا ونقول بصوت واحد: "حرية سلام وعدالة.. مدنية خيار الشعب".

على صفحات التواصل الاجتماعي، رسائل الوداع ممن عقدوا العزم على المشاركة بالمليونية... أنا لا أبالغ، عليكم أن تتذكّروا أن آخر تجمهر كبير انتهى بمقتل 600 شخص واغتُصب العشرات، وهنالك عدد غير محدّد من المفقودين

التغلّب على الخوف هو أن تعلم إنك قد تُقتل، أو تُغتصب، أو تُعتقل، ثم تجهّز نفسك ويجهّز الطبيب سريرك في مشفاه وتخرج. أنها مقامرة، تلقي بروحك وعافيتك في مقابل ساعات من الحرية، إلا أن الثائر أيضاً يقايض كلّ شيء بالمستقبل الذي قد لا يعيش هو شخصيّاً فيه

التغلّب على الخوف

نقاط النهاية في كلِّ محليّة هي منازل شهداء الثورة، مثلاً، المكان الذي توجهنا ورفاقي نحوه هو منزل الشهيد محجوب، شهيد الحركة الطلابيّة.

عند هذه النقاط قابلت الجماهير ممثلي قوى إعلان الحرية والتغيير وخاطبوهم. بعد ذلك بساعةٍ أو أقلّ، صدر بيان من التجمّع يستجيب لرغبة الثوّار الأصليّة ويدعو فيها للتوجّه للقصر. تحركّت المواكب لكنها أوقفت بغلق الجسور التي تربط امدرمان وبحري بالخرطوم، حيث يوجد القصر الجمهوري.

انتهى اليوم، لم نصل للقصر، لكننا وصلنا لغايات مهمّة، والغاية الأبرز بالنسبة لي هي التأكيد على أن الثورة مستمرّة وأن الثوّار لا يخافون. حتى أنا انتصرت جزئيّاً على رعبي وخرجت للمشاركة في المظاهرة، لا أجزم أنني شفيت من الخوف لكنها خطوة في الطريق الصحيح.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image