شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
السودان: كلّنا نحبّ البلاد والاعتصام ليس مضيعة للوقت

السودان: كلّنا نحبّ البلاد والاعتصام ليس مضيعة للوقت

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 2 مايو 201904:21 م

الخرطوم، نهاية أبريل 2019، نحن الآن في مرحلةٍ تُعيدنا للتباين السابق لسقوط البشير، ها هم المحايدون يعودون لأعمالهم، بل ويتذمّرون من ازدحام الطرق المؤدية إلى شارع القيادة، حيث يعتصم الثوّار حتى الحصول على المُراد. اختلاف وجهات النظر بين حزب اللامبالين بالثورة وبين الثوّار، هو عنوان هذه المرحلة.

منطقة راحة المحايد

تتركّز الصورة الإعلاميّة على الاعتصام الضخم في الخرطوم، ولكن إذا ابتعدنا للخلف بحركة zoom out، تتسع مساحة المشهد ونستطيع التعرّف على حقيقة الوضع.

لنبدأ من منزلي، في حي يبعد عن مبنى القيادة العامة للقوّات المسلّحة السودانيّة "مركز الحدث"، مسافة عشرين دقيقة بالسيارة. المتاجر تعمل والباعة المتجوّلون، الموظفون يستيقظون باكراً، وتأتي باصات الشركات لتقلَّ العاملين فيها وتتحرّك السيارات الخاصة، الكلُّ يُدير عجلة الإنتاج.

هذا الاعتصام تحوّل إلى أسلوب حياة

في المساء، في حي الرياض المشهور بالمطاعم ومحلات التسوّق، تشاهد حركة الاستهلاك على أشدِّها، في النهار داخل الشركة التي أعمل بها، الموظفون يعملون كالمعتاد ويسألني بعضهم ماذا يحدث، لماذا يستمرّ الاعتصام؟ ماذا يريدون؟ قالت إحداهن: أرسلي لي صوراً، كما لو أنها تسكن في بلدٍ آخر، وكما لو كان الإنترنت خالياً من صور الاعتصام!

عاد المحايد لحياته لأن البشير قد اختفى، ليتنا استخدمنا صيغة الجمع كما فعلوا في الجزائر، كي يدرك المُتابع أن "تسقط بس" لا تخصّ البشير وحده، وهو تعبير "يتناحوا قاع"، أي فليتنحّوا كنظامٍ كاملٍ، بوتفليقة بمفرده غير مهمّ.

دولة الثوّار الصغرى

عندما تنتهي ساعات العمل يواجه زملائي الواقع، يخرجون من منطقة الراحة والاعتياد، ليجابهوا ازدحام الجسور التي تربط أجزاء العاصمة الثلاثة التي يقطعها نهر النيل. صفوفٌ من السيارات، خاصّة بين الرابعة والخامسة عصراً، تحتاج هليكوبتر للعبور دون رؤية المعتصمين/ات وهم يملؤون الطرقات نحو شارع الاعتصام، بسيّاراتهم أو سيراً على الأقدام، يحملون الأعلام ويهتفون أو يغنون.

المشاركون/ات في الاعتصام

هنالك عدّة مستويات من المشاركة في الاعتصام، أعلاها هو الشخص المرابط، الذي يسكن في المكان تاركاً حياته خلفه، هؤلاء هم من تعرّضوا للخطر خلال إطلاق الرصاص الذي تمّ صبيحة الحادي عشر من أبريل ومنهم كان أوّل الشهداء. أقلّ الثوّار تعباً، من يأتي في المساء وأوّل الليل بعد زوال الشمس الحارقة. الصبر الشديد يحتاجه ثوّار النهار والحرّ المثير للأعصاب، ونجدهم مبتسمين رغم الصيف.

يستمرّ الاعتصام، لأن سقوط البشير لا يعني تحقيق غايات الثورة.

ولن يكون الاعتصام ممكناً دون اللجان التنفيذيّة، من لجنة التفتيش في المداخل، والمراكز الصحية، والإذاعة الداخلية، ومسؤولي المسرح، ومديري شاشة العرض، ومن يعمل على النظافة، ومن يهتمّ بالطعام، وغيرهم.

يمكنك الدخول من جهتين: إمّا من ناحية جامعة الخرطوم وشارع الجمهوريّة، أي منتصف الخرطوم، بالقرب من النيل والوزارات وتمركز المواصلات العامة، وهو اختيار يناسب سكان محليّة بحري وأمدرمان، أو أن تأتي من جهة دوّار "صينيّة" حي بري، قادماً من جنوب الخرطوم.

أصف لك المداخل كي تتخيّل الجموع، حسناً، الرحلة من أي الخيارين تبدأ بحواجز الثوّار التي تشكّل حصن الاعتصام والذي بدونه نخسر المعركة. استعدْ للسير مسافاتٍ لم تعتدها في هذه المدينة المشمسة أغلب أيام السنة، أربعة آلاف خطوة هو متوسطي اليومي.

أعيش في فقاعة

هذا الاعتصام تحوّل إلى أسلوب حياة، الدهشة عنوانها، ليس فقط المبهج منها بالتأكيد. مثلاً قد تصادف بشراً متنوّعين، وأحياناً عليك أن تتذكّر طبيعة البشر قبل الذهاب إلى الاعتصام، هل هم الغرباء أم أنت المنعزل؟ أعترف بأنني أعيش في فقاعة ولا اختلط بجميع الفئات، ببساطة لأنني لا أستخدم المواصلات العامة ولا أذهب للمستشفيات الحكوميّة. أعرف كمعلومةٍ أن هنالك أمية وأسمع عن التحرّش لكنني لا أتعرّض له إلّا نادراً وفي ظروف مغايرة.

في يوتوبيا الاعتصام، تشكّلت لجان لمكافحة الظواهر السلبيّة، بعد تردّد شكاوى المندهشين، وفعلاً عُثر على الهواتف المسروقة وبدأت عملية استردادها، وقلّت حالات التحرّش وخُصِّصت أرقام لطلب المساعدة ورفع المظالم.

من أجمل ما يحدث هو اختلاط أطفال الشوارع مع بقية الناس، صار لهم مكان يعملون فيه وينامون بأمان ويأكلون وجباتهم كاملة، بل أُنشئت مبادرة باسم الشهيد "أستاذ أحمد خير" لتعليمهم.

ما يحدث أكبر من عدستي وحواسي

أحاول كل يوم أن التقط الكثير من الصور، أصوّر اللافتات حتى التي لا أستطيع قراءة ما كتب فيها، استغلّ تقريب الكاميرا لأشاهد ما لا تلتقطه عيني، ورغم ذلك لا تكتمل الرؤية، فما يحدث أكبر من عدستي وحواسي.

جداريّات وأعمال فنيّة، حفلات موسيقيّة، شعر وموسيقى وسينما أيضاً، فقد عُرض فيلم قصير أنتجه الثوار نهاية الأسبوع الماضي، وكأن حريّة التعبير المكبوتة داخلنا، قد انفجرت.

عاد المحايد لحياته لأن البشير قد اختفى، ليتنا استخدمنا صيغة الجمع كما فعلوا في الجزائر، فقالوا "يتناحوا قاع"، أي فليتنحّوا كنظامٍ كاملٍ، كي يدرك المُتابع أن "تسقط بس" لا تخصّ البشير وحده.

في يوتوبيا الاعتصام، تشكّلت لجان لمكافحة الظواهر السلبيّة، بعد تردّد شكاوى المندهشين، وفعلاً عُثر على الهواتف المسروقة وبدأت عملية استردادها، وقلّت حالات التحرّش وخُصِّصت أرقام لطلب المساعدة ورفع المظالم.

الهتافات المتنوّعة

في الوسط، أشاهد مسجداً صغيراً متنقّلاً، به مكبر صوت، أرفع رأسي فتطالعني صورة شهيدٍ معلّقة على عمود إضاءة. على يساري مركز عناية نفسيّة يعرض خدماته لمن تعرّض للاعتقال والتعذيب. على الرصيف فنانون يرسمون علم السودان على الوجوه، وفي الخلفية، شباب يهتفون بشكل يجمع بين الثوريّة والعبث، مزيجاً من هتافات المثقفين والناشطين السياسيين "حرية سلام وعدالة.. الثورة خيار الشعب" وهتافات أخرى تُسيء لزوجة البشير، أو تلك التي تبدو كسخافةٍ للبعض "حتسقط وحنعرّس.. حنعرّس كنداكة"، أنه مهرجان الجميع ولا سبيل لفرض وجهة نظرٍ واحدة.

خلال الاعتصام، شاهد المعتصمون مباراة برشلونة مباشرة، وأُقيمت حفلات موسيقيّة واستعراضات، وهذا ما يزعج من يريد أجواءً بعيدةً عن الاحتفال، احتراماً لقداسة الشهداء.

بين الثوار والمحايدين

يستمرّ الاعتصام، لأن سقوط البشير لا يعني تحقيق غايات الثورة، ولا يحمينا من تكرار تجربة القمع والفساد. وتستمرّ حياة المحايد بغلق أذنيه بشدّة كي يستمتع بالهدوء وينتظر النهاية بلهفة، لا جدوى من الجدل بين الطرفين، كلّنا نحب البلاد ولا يسعني أن أغضب من أحدٍ يرى الاعتصام مضيعة للزمن.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard