شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
انتظرت حريتي التي حرمني منها السجّان الإسرائيلي طوال 17 عاماً

انتظرت حريتي التي حرمني منها السجّان الإسرائيلي طوال 17 عاماً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الأربعاء 26 يونيو 201904:57 م

في 12 أكتوبر 2000، وبعد أيام قليلة من انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثانية، دخل جنديان إسرائيليان بسيارتهما وبلباسهما العسكري مدينة رام الله، عن طريق الخطأ. شاهدتهم مجموعة من الشباب الفلسطينيين الغاضبين، فقذفتهما بحجارة واقتربت منهما وانهالت عليهما بالضرب.

انتهى المطاف بالجنديين في مركز شرطة محافظة رام الله والبيرة، بعد تدخّل أفراد من الشرطة الفلسطينية وسحبهما من بين أيدي الشباب.

لكن لم ينتهِ الحدث هنا.

أعداد كبيرة من الشباب الغاضبين هاجموا واقتحموا مركز الشرطة ووصلوا إلى الجنديين وألقوا بهما من النافذة لينتهي الأمر بمقتلهما.

أنا حاتم المغاري، ولدت عام 1981، نشأت وترعرعت وسط أسرة بسيطة، في مدينة رفح، جنوب قطاع غزة، وأكملت تعليمي حتى مرحلة الثانوية العامة.

عام 1999، تقدّمت للحصول على دورة ضباط في الشرطة الفلسطينية برفقة أخي شادي. قُبلنا وانتقلنا إلى مركز التدريب في مدينة نابلس في الضفة الغربية عن طريق الممر الآمن بين القطاع والضفة.

هناك، أتممنا التدريب خلال ستة أشهر، ثم التحقت بالعمل كضابط شرطة في مركز محافظة رام الله والبيرة، وعملت فيه لعدة أشهر قبل انتقالي إلى قطاع غزة واعتقالي على حاجز بيت حانون (إيرز)، شمال قطاع غزة، بتاريخ 20 ديسمبر 2000.

يوم الاعتقال

وصلت إلى "إيرز" قرابة الساعة الثانية ظهراً من ذاك النهار. أبرزت هويتي للجنود الإسرائيليين على الحاجز، فطلبوا مني الانتظار أنا وباقي المتواجدين من زملاء وعمال وتجار، في قفص حديدي.

نادى الجنود على الأشخاص بأسمائهم، واحداً تلو الآخر، ولم ينادِ عليّ أحد. لا أعرف لغتهم العبرية. طلبت من أحد المتواجدين أن يسأل الجنود متى سيتم النداء على اسمي. وبالفعل قام بذلك، فأجابوه: "بعد قليل".

استمرت النداءات، حتى بقيت وحيداً في القفص. انتابني القلق. الوقت تأخر. الجو بارد، والمطر ينهمر بغزارة.

أكثر من أربع ساعات انتظار مرّت قبل أن يتقدّم مني جندي ويضع الأصفاد في يديّ. فهمت أنّي معتقل. لكن لماذا؟ لا أعلم.

أبقاني في القفص أنتظر. كانت الساعة قد قاربت السابعة ليلاً، والأجواء معتمة.

فجأة، دوّى صوت إطلاق رصاص كثيف واشتباكات. استنفر الجنود وسحبوني من داخل القفص إلى داخل البوابة. لا أعلم ماذا يجري، ولكنّي شاهدت الخوف في عيونهم وتحركاتهم.

أمسك بيدي جندي وسحبني. قلت له بلغتي: "إيش في؟".

نظر إليّ وصرخ: "عربيم عربيم". وصل "جيب" تابع لحرس الحدود. ترجّل منه ضابط يحمل بندقية M-16. تقدّم نحوي، وبلكنة عربية مكسرة قال لي: "أنت عربي؟"، فأجبته بنعم.

أوقفني مقابله، ظهري إلى الجدار. سحب أقسام سلاحه ووضع الفوهة على جبيني، وقال صارخاً: "أنت زلمة ولا مَرَة؟"، وأعادها مرّة أخرى، مشيراً بإبهامه إلى رقبته بحركة تعني: "سأذبحك".

فكرت للحظة، وأجبت "أنا زلمة" ونطقت الشهادتين. وقفنا لدقيقة على نفس الحال، شاهدت خلالها شريط حياتي كاملاً.

لم يقتلني، ولم يطلق رصاصته ويريحني، بل تقدّم نحوي وقيّد قدميّ أيضاً بأصفاد ووضع على عينيّ نظارة سوداء لا أرى عبرها أيّ بصيص ضوء. سحبني معه حتى أدخلني في مركبته.

في المركبة، ضغط أحدهم على رقبتي للأسفل بيده، حتى وصل رأسي إلى قدميّ، وتلقيت ضربة على ظهري.

مرّت 15 دقيقة تقريباً. توقفت المركبة. أنزلوني منها، وجرّوني حتى وجدت نفسي في غرفة تحقيق. قال المحقق باللغة العربية: "إنت قاتل الجنود، وإحنا بنستناك".

"أنا قاتل! أي جنود قتلت!"، جاوبته، فقال: "أنت قتلت الجنود في رام الله قبل شهرين".

74 يوم تحقيق

الآن، أنا أواجه تهمة قتل الجنود، رغم نفيي لها بشكلٍ قاطع. أعادوا النظارات السوداء إلى عينيّ بعد أن أنهوا التحقيق الأولي، واقتادوني إلى مكان آخر.

مشينا مسافة ليست بالطويلة. رفعوا النظارات وسط العتمة ورموني داخل مكان معتم. حاولت أن أستعيد بصري. تلمست المكان بيديّ: غرفة صغيرة لا نافذة فيها، جدرانها وأرضيتها خشنة، أجواؤها معتمة وباردة، فيها فرشة صغيرة قديمة مهترئة. إنها الزنزانة.

مكثت في الزنزانة أربعة أيام، لا أميّز اليوم من التالي سوى من وجبات الطعام الثلاث التي يحضرونها: رغيف خبز ناشف. كنت أفكّر "لماذا أنا هنا؟ ماذا أفعل؟ لماذا يتهمونني بالقتل؟ إلى متى سأبقى؟". لكن لا مجيب.

في تلك الفترة نقلوني بين زنازين مختلفة جميعها متشابهة.

مرّت سبعة أيام قبل أن يحضر جنود. وضعوا الأصفاد في يديّ وقدميّ والنظارات السوداء على وجهي. بين الممرات سحبوني حتى وصلنا إلى غرفة التحقيق.

ثلاثة محققين، أحدهم يجلس أمامي، الآخر بجواري، والثالث "فوق رأسي"، يسأل أحدهم الآخر ويجيبون. لا مجال لي للإجابة. أنا مشوش لقرابة أربع ساعات. هددوني بتقييدي على كرسي الشبح إنْ لم أعترف بقتل الجنود، ولم يبخلوا عليّ بشتائمهم لعرضي وشرفي.

تكرر الأمر لـ40 يوماً، ثم حضر جندي، فسألته إلى أين؟ فأجاب "انت مروح". أخيراً تنفست الصعداء، انتهى هذا الكابوس.

ذهبنا إلى غرفة الملابس. أعدت لهم ملابس السجن، وأخذت ملابسي. أعادوا الأصفاد، ونظارتهم السوداء اللعينة. صعدنا إلى مركبة، ومشينا مسافة طويلة. نزلنا ومشيت بتوجيهاتهم.

خلال المشي كنت أسمع صراخاً بلغتهم. أعتقد أنها شتائم بالعبرية. أحدهم ركلني بقدمه أيضاً.

وقفنا، رُفعت النظارات، لمحتُ خلفي مجموعة من الجنود يقفون في صفين متقابلين، وأمامي باب غرفة سجن. رموني بداخلها وسط اندهاشي.

"ماذا حدث؟! ألم يقل لي الجندي ‘انت مروح’؟!". صدمة ثانية لم أتوقعها. أنا الآن في غرفة سجن "مجدو" بين الأسرى، اهتموا بي جيداً، طرحوا الكثير من الأسئلة عن شخصي وسبب اعتقالي وماذا حدث معي قبل وصولي إلى هنا، فأجبتهم بما حدث معي، وتوجيه تهمة القتل التي أنكرتها. شعرت وكأنهم إخوتي.

طلبوا مني كتابة ما حدث معي بالتفصيل، لإرسال المعلومات في رسالة إلى رفاقهم في الخارج الذين يرغبون بالتأكد مما إذا كنت على علاقة بحادثة رام الله، وهل شاركت بالقتل، حتى يستطيعوا توكيل محامي دفاع عني.

14 يوماً كانت وكأنني في الجنة، أنام، أغتسل، أرى الشمس من نافذة السجن، أمور بسيطة حُرمت منها في الـ40 يوماً السابقة.

انتهت أيامي بينهم، لأجد نفسي بعدها في غرفة المحقق. أخرج من درج مكتبه الورقة التي كتبتها للأسرى بقلم رصاص وبخط يدي.

ضربت بيدي على رأسي من الصدمة وعلمت أنني كنت في غرفة العصافير (عناصر استخبارات يدّعون أنهم سجناء). وقلت للمحقق: "لم أقتل، واقرأ ما كتبت".

في ما بعد احتجزوني في غرفة السجن، تحضيراً لنقلي إلى سجن آخر برفقة أسرى آخرين.

سجن مؤبد

خلال فترة الاعتقال الأولى، عُرضت على المحكمة أكثر من مرة، كان يتم خلالها تأجيل الجلسات بناء على طلب النيابة. وبعدما وضعوني في غرفة الانتظار تحضيراً لنقلي، دخلت جلسة محكمة. كان محامي نادي الأسير الفلسطيني قد أخبرني قبلها بأنه لم يثبت شيء ضدّي، وسأخرج قريباً.

دخلنا قاعة المحكمة في اليوم المحدد. وجّه القاضي كلامه إليّ قائلاً: "أنت خطر على أمن دولة إسرائيل"!

كلما اقتربت من الحرية، يأتي مَن يسلبها منّي مجدداً. الأسئلة تتكرر: "ماذا يحدث؟"، ولا إجابة.

أعادوني إلى الزنزانة، ثم نقلوني إلى سجن "عسقلان".

لم يسألني أحد شيئاً. فقط قال لي أحد الأسرى: "أنت خارج من أجواء الزنازين والتحقيقات والعصافير، وبكل تأكيد ظروفك النفسية صعبة، لا نطلب منك شيئاً، فقط لا تثق بأحد".

لقرابة الشهر، لم أختلط بأحد، أقرأ القرآن وأفكر، وأقارن بين سلوك مَن حولي وسلوك العصافير من خلال مراقبتي للجميع.

خلال هذا الوقت، زارني والديّ لأول مرة.

دخلت غرفة مقسومة إلى نصفين بالحديد الفولاذي المغطى بالشبك، شاهدتهم وانطلقت لأقف أمامهم، وبيننا القضبان، لأول مرة في حياتي.

لا أذكر أننا تحدثنا كثيراً.

45 دقيقة من البكاء والنظرات المتبادلة، شاهدت الحسرة والحرقة في أعينهم، تمنيت لو أخرج من بين القضبان وأعانقهم.

استمرت الزيارات، كل أسبوعين مرة، طلبت خلالها من والدي توكيل محامٍ يترافع عني، وهو ما فعله.

اعتقلت في السجون، أخرج فقط كل أربعة أشهر مرة واحدة إلى جلسة المحكمة، حتى عام 2002.

قبل الجلسة، علمت من والدي خلال الزيارة بأنه لم يثبت شيء ضدي، والمحامي طمأنهم وأخبرهم بأن الجلسة التالية ستحكم ببراءتي.

شعرت بالطمأنينة والأمل.

في اليوم المحدد، وقفت في قفص الاتهام في قاعة المحكمة. تقدمت النيابة يومها بلائحة اتهام جديدة تؤكد مشاركتي في قتل الجنود. لم أتمالك نفسي، صرخت، أطلقت الشتائم على النيابة بدون وعي. أعصابي تنهار. تدخل المحامي ليسكتني.

علمت بعدها أن النيابة استندت في لائحتها على شهادة أسير فلسطيني تم اعتقاله في ذلك الوقت، وحدثهم عن مشاركتي في قتل الجنود.

استمرت جلسات المحاكمة والمداولة حتى عام 2004، حين حكم عليّ بالسجن، مدى الحياة.

ذهب المحامي إلى محكمة الاستئناف، وفي الجلسة بعد 35 يوماً على الحكم الأول، قال القاضي: "لأننا في دولة إسرائيل لا نحكم بالإعدام، ونظراً لأننا نقدر روح الإنسان وحياته سنتركك تعيش داخل أسوار السجن مدى الحياة".

كم تمنيت أن يطلق القاضي رصاصة على جبيني قبل أن ينطلق بما قاله يومها.

منع الزيارة والبوسطة

مرّ شهران على حياتي الجديدة في السجن، زارني والديّ خلالها مرتين.

وبينما أستمع إلى أخبار الانتفاضة الثانية على الراديو، سمعت نبأ استشهاد شقيقي شادي خلال اجتياح إسرائيلي لمنطقة سكننا في رفح.

لم أتمالك نفسي. بكيت وبكيت وبكيت، بكيت على فراقه الأبدي، تذكّرت حياتنا القصيرة ورفقتنا، وها نحن نفترق للمرة الثانية، ولكن إلى الأبد.

"أوقفني مقابله، ظهري إلى الجدار. سحب أقسام سلاحه ووضع الفوهة على جبيني، وقال صارخاً: ‘أنت زلمة ولا مَرَة؟’، مشيراً بإبهامه إلى رقبته بحركة تعني: ‘سأذبحك’"... شهادة للأسير الفلسطيني المحرر حاتم المغاري عن السجون الإسرائيلية
"حتى اليوم ما زلت أفضّل الجلوس وحدي، أراجع أيام السجن، وأتجنب الاختلاط بالناس، فما زالت تجربة العصافير تفقدني الثقة بالآخرين"... شهادة للأسير الفلسطيني المحرر حاتم المغاري عن السجون الإسرائيلية

لم تتوقف المصائب هنا.

مُنع والديّ من زيارتي بسبب استشهاد شقيقي، وفي ما بعد سُمح لهما بالزيارة. وتسمح سياسة السجان الإسرائيلي بالزيارة كل 45 يوماً فقط لمَن له شهيد من أقارب الدرجة الأولى، والبعض يُحرم منها نهائياً.

انهار والدي، وتراجعت صحته، أحد أبنائه قتل، والثاني محكوم بمؤبد. لم يستطع زيارتي بسبب المرض. أما والدتي فكانت تحاول الحضور كلما سُمح لها، لذلك كنت أكتب لهم الرسائل كلما استطعت.

مضت الأيام داخل الأسر، وبسبب النظارات اللعينة، في بداية اعتقالي، وتعرض عينيّ للشمس فجأة، إلى جانب فترات البكاء الشديد، شعرت بضعف في نظري، وبألم.

طلبت زيارة طبيب مخصص، فجاءت الموافقة عام 2006.

يومها، خرجت من القسم الساعة الـ10 صباحاً، إلى محطة التفتيش. وضع السجان يده على جميع أنحاء جسدي، بعدما أجبرني على إنزال بنطلوني حتى الركبة. ثم أعاد الكرّة بآلة إلكترونية حادة لتفتيش الجسد، وأنا مقيد اليدين والقدمين.

انتظرنا ساعتين في غرفة الانتظار. وصلت البوسطة، باص نقل الأسرى بين السجون، وهو عبارة عن زنازين داخل باص، مصنوعة من الفولاذ.

سحبنا وكأننا كلاب، كل أربعة أسرى في زنزانة داخل الباص، مجبرين على الوقوف طيلة الوقت، وانتظرنا ساعتين أيضاً.

انطلقنا قرابة الثانية ظهراً، تنقلنا بين عدة محطات بين السجون، وفي كل محطة كنا ننتظر ساعتين، لا نجلس، لا نستريح، لا نأكل، لا حمام، ولا ماء، فقط كلّ واحدٍ منا ينتظر الوصول إلى محطته.

وصلت إلى محطتي في سجن الرملة قرابة العاشرة ليلاً. هناك تم توزيعنا على الأقسام، بعضنا ينتظر عرضه على الطبيب، والبعض ينتظر جلسة محاكمته صباحاً.

حاولت أن أستريح قليلاً حتى السابعة صباحاً. أخذوني إلى سجن يطلقون عليه اسم المستشفى.

دخلت على أخصائي العيون، مُقيد القدمين فقط، استغرق الفحص أقل من خمس دقائق، سلّط خلالها ضوءاً على عيني، وقال: "إنت كويس ما فيك إشي". أخبرته بما أعاني منه لكن أعاد نفس الإجابة ولم يصرف لي أي دواء.

لم يقدم لي أي علاج، أعادوني إلى البوسطة، فتكررت رحلة اليوم السابق، وصولاً إلى غرفة السجن.

إعادة المحاكمة

خلال 11 عاماً من الأسر، تعلمت العبرية، وبمساعدة الأسرى، خاطبت مؤسسات حقوقية ومكتب القضاة الإسرائيلي، شارحاً ما تعرضت له من ظلم، لكن دون استجابة.

في عام 2011، توصلت إلى محامٍ عن طريق أحد الأسرى، وبعد التواصل بينه وبين والدي، ودراسته ملف قضيتي، وافق على ترافعه بعدما تيقّن من براءتي، وعندما التقيته قال لي: "أنا بدي أروحك يا حاتم".

عمل المحامي على جمع الأدلة والإثباتات، وتقدم بطلب استئناف القضية، وبعد رفضه أكثر من مرة، تمت الموافقة على تحديد جلسة في 26 فبراير 2016، أي بعد مرور خمس سنوات على توكيله.

تقدم المحامي بالأدلة في جلسة المحكمة، وسُمح لي بالدفاع عن نفسي في 60 دقيقة. وانتظرت حتى 24 يناير 2017 قرار المحكمة الذي جاء بـ"الموافقة على إعادة النظر في القضية".

عاد الأمل إليّ من جديد، بعد 17 عاماً في السجون. كنت أعدّ الدقائق حتى مجيء جلسة النطق بالحكم في 29 مارس 2017.

قبل الموعد المحدد، وبعدما أيقنت النيابة براءتي، عرضت صفقة على المحامي، مضمونها الاكتفاء بمدة محكومية 11 عاماً ونصف، ووقف تنفيذ خمس سنوات مع شرط عدم رفع قضية على النيابة للمطالبة بتعويض.

دون تفكير، وبمجرد أن أخبرني المحامي، وافقت.

لم أفكر سوى بالحرية.

في الموعد المحدد للجلسة، وبعد تأخير ساعتين عن موعدي، أثار قلقي، وقفت أمام القاضي والنيابة التي سردت تفاصيل الصفقة في 30 دقيقة متواصلة.

سألني القاضي: "موافق؟". أجبت: "نعم، موافق".

وقال: "الآن يخرج حاتم، فوراً، ولا يبقى ثانية إضافية داخل السجن".

خرجنا من هناك، في مركبة عسكرية. بقيت الأصفاد، ولكن لم توضع النظارات السوداء.

وصلنا سجن عسقلان، سلمتهم ملابس السجن، وانطلقنا. وصلنا إلى حاجز بيت حانون قرابة الثامنة مساءً.

الآن أقترب من الحرية.

وقت قصير مرّ حتى استلمت ورقة تفيد بأنني أسير محرر.

فُكت أصفادي، وقالوا لي: "يلا روح". تابع معي رجل مسلح بلباس مدني، حتى وصل رجل على تكتك عرّف عن نفسه بأنه ضابط في السلطة الفلسطينية. ركبت معه وانطلقنا.

أبقيت نظري إلى الخلف خوفاً من غدر الرجل المسلح.

الحرية

اقتربنا أكثر، وبتُ أشعر بالحرية. أحضان كثيرة تلقفتني، وكم تمنيت لو كان والدي وشادي ما زالا على قيد الحياة لأحتضنهم، وأقول لهم: "أنا الآن حر".

صعدنا إلى السيارات وانطلقنا. طريق طويلة من شارع صلاح الدين شمال القطاع حتى أقصى الجنوب. أتأمل السماء، الشجر، البنايات، الطرقات، وأفكر بأمي.

وصلنا، احتضنت أمي، قبّلتُ يديها، بكينا كثيراً من فرحة اللقاء بعد طول غياب.

بعد أيام من حريتي، جلست على باب منزلنا الساعة السادسة صباحاً، ألبس بلوزة صيفية، رغم الأجواء الباردة، والشارع فارغ. أنظر إلى السماء وأفكر: "معقول شايف السماء دون قضبان؟ معقول قاعد براحتي بهاد الوقت دون إزعاج السجان؟".

تذكرت وقتها الإضرابات عن الطعام التي خضتها داخل الأسر، والحياة اليومية المنظمة، فكرت في رفاق الأسر. كيف خرجت دون توديعهم؟

تذكرت الألم والمعاناة، وكيف اقتحم الجنود عام 2015 الساعة الثالثة فجراً غرفة السجن بأسلحتهم وكلابهم، بهدف تفتيش الغرفة وترهيبنا. تذكرت وتذكرت كأنني في حلم طويل.

مضت الأيام، وتزوجت بعد خروجي من السجن بأربعة أشهر، لكن حتى اليوم ما زلت أفضّل الجلوس وحدي، أراجع أيام السجن. أسعد كثيراً عندما أجلس برفقة أسرى محررين نتحاور ونتذكر أيام الأسر الذي جمعنا.

أمي، إخوتي، يسألون عني دائماً، حتى لا أغيب عن ناظرهم، أتجنب الاختلاط بالناس، فما زالت تجربة العصافير تفقدني الثقة بالآخرين.

زرت طبيب عيون مختص، أجرى لي عملية ليزر، ومنعني من التعرض لأشعة الشمس لعامين، الآن أنتظر بفارغ الصبر صيف 2019 حتى أتمكن من الذهاب إلى البحر.

هذه الشهادة كتبها سالم الريّس بناءً على مقابلة أجراها مع الأسير حاتم المغاري.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image