شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
هل الشيطان فقط من يكمن في التفاصيل؟

هل الشيطان فقط من يكمن في التفاصيل؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 8 يونيو 201904:31 م

عندما عملتُ في إحدى وكالات الشحن البحري، كان لديّ مدير فريد، لم يكن لديه ذاكرة نهائياً، ينسى المقابلات والمواعيد النهائيّة والقرارات التي تمّ اتخاذها قبل، لا أعرف إن كان هذا كسل أم غباء أم مزيج من الإثنين، لكنه كان يدفعني إلى الجنون ذلك أنه يستطيع عند رؤية امرأة في المصعد أن ينسى كلَّ تفاصيل عملنا اليومي، لكنه كان ناجحاً بشكل لا يصدّق في إبرام العقود وجعل البشر يصدقونه ويثقون به، ثم باح لي بالسرّ، عندما يتعرّف على شخص قد يكون مهماً في الأعمال يتذكّر كل شيء يتعلّق به: الألوان التي يفضّلها، أماكن تسوّق زوجته، عيد ميلاد ابنه البكر، قياس ثيابه، كل هذه التفاصيل التي تبدو غير ذات أهمية هي ما تساعده على الفوز بقلوب الناس.

الفنّ أيضاً في التفاصيل، في الدقّة الهائلة، الجمال أيضاً... 

التفاصيل المميتة

هناك هذا التعبير: الشيطان يكمن في التفاصيل، حسناً، هذا يعني أنه يجلس في الكلمات الدقيقة التي في نهاية العقد، والتي نتكاسل عن قراءتها والتي غالباً ما تحوي إجحافاً بحقِّ المتكاسلين، مجموعة البهارات: ذرّات قليلة من الملح زائدة أو ناقصة قد تحوّل عشاءك إلى قطط الشارع، كيفية توزيع الإضاءة في عرض مسرحي قد يصنع الفرق بين مجموعة صبيةٍ يتدافعون طرباً وحربٍ أهليّة، أو بين قائد ثورةٍ وزعيم عصابة، ثمّ ننتقل إلى مواضيع أكبر، كيفيّة الانسحاب من جبهة حربٍ مشتعلة: من ينسحب أوّلاً، وبعد كم متر سيشعر أحد الأطراف أنه مغبون؟ كيفية توزيع التعويضات على المتضرّرين من اتفاقية المناخ العالمي: هل يعطى صيّاد سمك بقصبةٍ وخيط نفس تعويض أحد أفراد عائلة روتشيلد؟ درجة مشاركة البنك الدولي مثلاً في خطط التنمية الدوليّة، تدخّل الدولة وتدخّل البنوك الخاصّة في اتفاقيات التجارة، كم جهاز طرد مركزي يجب على إيران تعطيله ... كلّ هذه تفاصيل، لكنها تفاصيل مميتة للغاية حقاً.

وهذا يدلّ فعلاً أن الشيطان يكمن في التفاصيل، والعبارة تُنقل عن نيتشه لكن عزيزنا نيتشه يتحدّث عن الشيطان الخبيث الذي يُفشل مخططات الخير العام ويُحبط السعادة، الشيطان الكريه الذي يكمن في عنصرٍ صغيرٍ تتمّ إدارته بشكلٍ سيء أو مفردةٍ صغيرة غير ملحوظة في عقد، أو في موظّف قليل الأهمية في مشروع ضخم وو...هوب يفشله تماماً.

ولكن هل الشيطان فقط من يكمن في التفاصيل؟ أعني لو سألنا الشيطان نفسه فربما سيقول إن نيتشه هو من يكمن في التفاصيل..

الاهتمام بالجزيئيّات الصغيرة والتفاصيل الصغيرة يعكس نزوعاً نحو الكمال، انجاز الأشياء على أكمل وجهٍ يأتي أيضاً من التفاصيل، ومن هو الأكثر نزوعاً نحو الكمال؟ من يمثّل التجسيد الأعظم، عن طريق أعماله العديدة، للكمال، غير الله؟ الله أيضاً يكمن في التفاصيل، والجملة هذه أيضاً تمّ استخدامها على لسان توما الأكويني، لكنّه يضيف كلمة "جيد"، الله الجيد، إذن عندما لا يكون الله الجيّد سيكون حتماً الشيطان السيء، إذن ما هي هذه التفاصيل المتحوّلة والتي يتنازع على الكامن فيها، الله والشيطان، في وقتٍ واحد؟

الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة يعكس نزوعاً نحو الكمال، انجاز الأشياء على أكمل وجهٍ يأتي أيضاً من التفاصيل، ومن هو الأكثر نزوعاً نحو الكمال؟ من يمثّل التجسيد الأعظم، عن طريق أعماله العديدة، للكمال، غير الله؟ الله أيضاً يكمن في التفاصيل.

 لا يختلف الحب عند البشر إلا بالتفاصيل، ذلك أن ما يصنع القرارات المهمّة عند البشر بالبقاء أو الرحيل، البقاء مقيّداً أو الانطلاق بلا ندم، هو مجموعة التفاصيل الصغيرة التي تحفر في الذاكرة.

الإنسانيّة أيضاً في تفاصيل: أولئك الذين يتدرّبون ساعات على السباحة والغوص لمساعدة المهاجرين في عبور البحر... تفاصيل فحسب، وإذا انتزعنا التفاصيل من السينما فلن يبقى سوى كاميرا حمقاء موجّهة بالصدفة إلى مكانٍ ما.

الحبّ هو تفاصيل

كان فرويد أوّل من تحدّث عن التفاصيل في اللاوعي البشري، بقايا اللاوعي ونفاياته المدفونة عميقاً في صحراء خفية، انزلاقات النفس، الأحلام الفاشلة، الصور المتردّدة بكثرة في الكوابيس، الأحلام الناقصة، المخاوف، وعلمنا عندها أن الاعتراف يأتي من الإنكار: هل هذه الفتاة التي تزورني في أحلامي، بثيابٍ شفافةٍ للغاية، هي والدتي "حميدة" حقاً؟ وذلك الفتى قبيح الوجه، معوجّ الساقين، والذي أضربه بقسوة، هو أخي "عدنان"؟

يبدو الحبّ مبالغاً في تقديره، أعني أنه ليس أكثر من مجموعة من التفاعلات الكيميائيّة والانفعالات الكهربائيّة التي تتغيّر بتغيّر البيئة المحيطة من حرارة وهواء، جوع، تخمة، إلخ.. لا يختلف الحب عند البشر إلا بالتفاصيل، ذلك أن ما يصنع القرارات المهمّة عند البشر بالبقاء أو الرحيل، البقاء مقيّداً أو الانطلاق بلا ندم، هو مجموعة التفاصيل الصغيرة التي تحفر في الذاكرة: كانت حريصة كل الحرص على عدم استقبال أحد بينما أستمتع بقيلولتي المسائيّة ولو اضطرّت أن تؤجّل مسلسها المفضّل للإعادة. كانت تناولني الثياب الداخليّة مقلوبةً في الحمام، إذ أن البخار يمنعني من الرؤية جيداً. كانت تحرص على ترك قطعٍ نقديّةٍ صغيرة لأحملها عندما أخرج، لأنني أحتاجها في وسائل النقل، كانت تحرص على عدم شرب "المتّة" بحضوري ذلك أني أكره لونها الأخضر والصوت الذي تصنعه طريقة شربها، كانت ترتدي قمصاني مرّةً واحدة على الأقلّ، لأنها تعلم مدى حبّي لرائحتها على ثيابي...

الحب هو تفاصيل فعلاً.

هذه أشياء مبهمة، سخيفة حتى، لكن عندما بدأت المشاكل بيننا تكبر كفّت عن فعلها، وعندها فقط أحسست أنها كفّت عن حبّي، حسناً ماذا أقول للقاضي في جلسة الطلاق، لقد أعطتني بيجامة النوم مقلوبة؟ لقد شربتْ "متّة" في الصالون؟

الحب هو تفاصيل فعلاً.

وإذا أردنا تعداد الأشياء الأخرى التي تكمن في التفاصيل قد لا ننتهي: الإنسانيّة أيضاً في تفاصيل: أولئك الذين يتدرّبون ساعات على السباحة والغوص لمساعدة المهاجرين في عبور البحر، الذين يغسلون الثياب المستعملة قبل التبرّع بها للصليب الأحمر...تفاصيل فحسب، وإذا انتزعنا التفاصيل من السينما فلن يبقى سوى كاميرا حمقاء موجّهة بالصدفة إلى مكانٍ ما، الفنّ أيضاً في التفاصيل، في الدقّة الهائلة، الجمال أيضاً... أعني إذا زالت تلك التغضّنات الناعمة التي تصنعها ضحكتك على جانبي فمك، وإذا اختفى الجرح الصغير في رمّانة كتفك، الكيلو غرام الزائد في "مقابض الحب"، حركة يدك وأنت تقولين: "مابيهمّني" وو... لن يتبقى منك إلا عظام وجلد وقليل من اللحم، الشهوة، الحنين، البيوت، الأوطان، الحروب، الأوقات... يبدو أن الحياة كلّها في التفاصيل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image