قبل خمسة عشر عاماً قريباً، كنت شاباً مراهقاً أبحث عن شيء ما يجعلني أشعر أني موجود. كنت أخشى أن تأكلني الوحدة، ولذلك قرّرت أن أكون سلفيّاً، حيث كان الجميع يفعل ذلك في ليبيا الألف الثانية، مع فشل المشروع القومي الذي نجح فقط في جعل الجميع يرفضون فكرة أننا مختلفون، كانت مكاناً ملائماً لنمو الطائفيّة الدينيّة التي كان مبرّرها الوحيد هو الاختلاف نفسه.
قبل خمسة عشر عاماً، كنت مراهقاً أبحث عن شيء ما يجعلني أشعر أني موجود. كنت أخشى أن تأكلني الوحدة، ولذلك قرّرت أن أكون سلفيّاً.
بدأ الأمر لملء أوقات الفراغ، وكانت كثيرةً حينها، بمرافقة السلفيين في رحلاتهم اليوميّة نحو المسجد خمس مرّات، لكن الأسئلة كانت تنمو كون التناقضات التي يحملها الفكر السلفي داخله تجعل الإنسان أمام طريقين، إما أن يبحث عن الإجابات التي ستكون صادمة، أو الاستسلام للإجابات الجاهزة، ولأن رفقاء المسجد حينها كانوا محدودي المعارف ويرفضون تفكيري بصوتٍ مرتفعٍ، طلبوا مشورة سلفي مسؤولٍ عن مسجدٍ قريب من حيّنا.
دخلت الغرفة للقاء الموعود.. كان شخصاً ملتحياً ضخم الجثة، ويرتدي جلباباً طويلاً، ويحيط به أقارب صاحب المنزل يستمعون بإنصاتٍ لكلامه عن كلِّ ما يعرفه، كان متأكّداً من الجنّة والنار وسكّان كليهما. سألني قائلاً: "يقول الأخوة إنّك تشكّك في أحاديث البخاري وتقيسها بمقياس عقلك، هل هذا صحيح؟" كانت لهجته شبيهة بلهجة رجال التحقيق في المسلسلات البوليسيّة. دار بيننا حوارٌ قصيرُ جدّاً في واقع الأمر، وبدأ الحديث بأن النقل سابق للعقل، وأن الأمر يتجاوز كونه مجرّد فكرة، وأنه ركيزة من ركائز الإيمان، ومن يطالب بمخالفة النصِّ المنقول في السنن كافرٌ، أو كما قال بلسانه: "أبي وأمّي في النار."
وقررت الفرار، قبل أن يتحوّل السلفي إلى شيء أكثر ضراوة مما هو عليه: إن شخصاً يعلن أمام الجميع بأن "أباه وأمّه في النار" بسبب لحيته.
لقد كانت جملةً صادمةً بالنسبة لي، لم أكن أتصوّر أن الأمور وصلت إلى هذه الدرجة من الانفصال عن المجتمع. وتذكّرت حينها عرس جارنا السلفي الذي كان يلعب معنا كرة القدم، والذي لم يدع فيه أحداً من الجيران، لا أحد إطلاقاً، فقط أقام خيمةً في منتصف الطريق كعادة الليبيين، وتحول حيّنا في ذلك اليوم إلى حيٍّ من أحياء أفغانستان زمن طالبان، لا موسيقى ولا غناء.. خيمة مليئة بالرجال الملتحين والنساء المنقّبات يدخلن من الباب الخلفي، ولا أحد في الحي يعرف منهم أحداً. إنه مجتمعٌ آخر لا علاقة له بأحدٍ منّا.
صديقنا السلفي شيخ الجامع، برّر يقينه بأن والديه في النار كونهما طلبا منه أن يحلق لحيته، خوفاً من اعتقاله. وهو الأمر الذي طرح سؤالاً لديّ حينها: هو يعمل كإمامٍ لجامع في منتصف العاصمة، فلماذا يخاف أهله أن يُعتقل إذا علمنا أن كلّ المساجد في ليبيا مُدارة من قبل أجهزة الدولة الأمنيّة نفسها؟ استمرّ في الحديث قائلاً: لقد خرجت من البيت، فالبقاء مع أبي وأمي لا يجوز لأنهما كفّار. أقمت في حاويةٍ في مزرعة صديق، وتزوّجت فيها، حتى قام أهل الخير من الجماعة بتدبير عملٍ "حلال" لي، بعد أن تركت الجامعة التي تُعلّم العلوم الغربيّة الكافرة، وكنت أقوم بتوزيع الماء على الدكاكين، فالعمل في مؤسّسات الدولة "حرام"، هذا ما يؤكّده السلفي.
بعد القرار، رافقت السلفيين في رحلاتهم اليوميّة نحو المسجد، لكن الأسئلة كانت تنمو كون التناقضات التي يحملها الفكر السلفي داخله تجعل الإنسان أمام طريقين، إما أن يبحث عن الإجابات التي ستكون صادمة، أو الاستسلام للإجابات الجاهزة.
لم أكن أتصوّر أن الأمور وصلت إلى هذه الدرجة من الانفصال عن المجتمع. وتذكّرت حينها عرس جارنا السلفي، والذي لم يدع فيه أحداً من الجيران، فقط أقام خيمةً في منتصف الطريق كعادة الليبيين، وتحول حيّنا في ذلك اليوم إلى حيٍّ من أحياء أفغانستان زمن طالبان.
لقد أصبح الحوار خطبةً عصماء، ليتجاهل وجودي أصلاً، وهو أمر تمنّيته حقيقة، وكان الجميع نصف جوعى للفتاوى، حيث بدأ السلفي في ذكر مساوئ العمل في مؤسّسات الدولة، كونها تتعامل بالنظام المصرفي الربوي وهو "حرام"، ليخوض في الحديث عن التعليم والمستشفيات بل وحتى عن لعبة كرة القدم.. كلّها "حرام" لمبرّراتٍ كثيرةٍ شديدة الإتقان، كالاختلاط بين الجنسين، وتقليد الكفّار، أو لأنها لم تكن موجودة في عصر الرسول قبل أربعة عشر قرناً تحديداً!
واتجه السلفيّ فجأة نحوي مسائلاً: "قالوا لي إنك جبالي/أمازيغي.. هل هذا صحيح؟!" رددت بالإيجاب. وهنا التفت إلى الآخرين قائلاً: "أنتم الأمازيغ تتبعون مذهباً ضالّاً، الإباضية كفّار، وعليك أن تتوب لربِّك وتتبع مذهب السلف الصالح.".
وهنا قرّرت الفرار مع وقت إحضار المضيف لوجبة الغداء متعلّلاً بموعدٍ مع شخصٍ يوجد فقط في مخيلتي، قبل أن يتحوّل السلفي إلى شيء أكثر ضراوة مما هو عليه: إن شخصاً يعلن أمام الجميع بأن "أباه وأمّه في النار" بسبب لحيته، هو مستعدٌ بالتأكيد لأكلي حيّاً، بينما يخبره ضميره بأنّه رجلٌ صالحٌ.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...