قديماً، كان الإنسان ينظر إلى الكون باعتباره نسخة مصغرة من نفسه، فالأرض توازي رغباته الشهوانية، والسماء هي نوازعه الروحانية.
وصورت الأديان القديمة الجنس ونشوته بالمطر، قطع السماء التي تمتزج بطمي الأرض، لتستحيل الصحراء اخضراراً.
وباركت تلك الحضارات الأعضاء الجنسية، وقدَّست الحواس، وشبَّه الفلاسفة الأقدمون الموسيقى وتأثيرها الساحر في النفس بحركة الأفلاك.
بينما تصور الأديان "السماوية" الحياة "الدنيا"، باعتبارها نتيجة لخطيئة آدم، وهبوطه من "الفردوس"، استمع للحية، ومارس "الخطية"، كائن يعيش على الأرض، يحاول أن يفهم موقعه من الوجود، اعتقد لفترة طويلة أنَّ الأرض هي المركز، ثم الشمس، حتى وصل علم الفلك أخيراً إلى نقطة أخرى في مركز كوننا: الثقوب السوداء.
واكتشف مصدوماً أن عمر الثقب الأسود في مجرتنا 11.7 مليار سنة.
يكبر، ويتعاظم بشكل أسرع من توسّع المجرَّة، وهذا يعني أنَّه في النهاية سيبتلع الكرة الأرضية ومعها مجرتنا بالجاذبية، التي وصفها ستيفن هوكينغ بأنها معادل "الرب" في الفيزياء الحديثة.
هكذا تخيل العلماء مركز مجرتنا ومصيرها المحتوم: وحش هائل يلتهم الأجرام والأضواء.
إلَّا أنَّ بعض حكماء الهنود يرون العكس: الإنسان هو الأصل، عالمنا الداخلي، من شهواتنا ومخاوفنا إلى نشواتنا الروحانية، وما العالم إلّا مرايانا، ويشددون على أن البوذيين والطاويين اكتشفوا منذ آلاف السنين "الثقوب السوداء"، واعتبروها حالة نفسية داخلية "غريبة" ورائعة، وأن هذا الوحش الذي تتخيلونه يلتهم الأجرام السماوية، ما هو إلا تعبير عن العزلة، والوحشة، والعدمية التي بات الإنسان الحديث يرزخ تحت وطأتها، بسبب شعوره بالانفصال عن الطبيعة، ومحاولة تطويعها واستغلالها، ويدعونكم إلى استحضار الثقافات القديمة لتفسير تلك الظاهرة الغريبة.
هل نصل إلى "الثقوب السوداء" بالتأمل؟!
طُرح تساؤل على موقع التواصل المعرفي "كورا" بشأن إمكانية الوصول إلى الثقوب السوداء بالتأمل، "لا!"، ينفي حساب أربان كومار، فيزيائي، ذلك.
يقول كومار: الثقوب السوداء أجسام فيزيائية، والتأمل لا علاقة له بالعلم الفيزيائي. العلم الحديث دحض بشكل قاطع وجود دليل على وجود سلطة كبيرة للتأمل.
ويضيف: حتى في النصوص الهندوسية القديمة، يمنحك التأمل سيطرة على نفسك الداخلية وليس العالم، لذا من أي وجهة نظر شئت، لا تستطيع.
ويتفق معه حساب أشيش جادو، يعرف نفسه بأنه "طالب الحياة"، الثقوب السوداء لا تستطيع أن تصل لها بأية وسيلة؛ هي دائرة (بيضاوية) من الجاذبية لا يمكن أن يفرَّ منها شيء، حتَّى الضوء.
هكذا تخيل العلماء مركز مجرتنا ومصيرها المحتوم: وحش هائل يلتهم الأجرام السماوية.
ولكنه يستدرك قائلا: شيء جيد أن تفكر باستخدام التأمل للوصول إلى حالة نفسية عميقة، لدرجة تدفعك إلى امتصاص أي شيء، وترى الأشياء بوضوح، يمكن أن تسميها النيرفانا، أو الاستنارة، بالطبع هي ليست حالة سهلة كما نصفها، ولكن إذا كان هذا ما تبحثون عنه، فيمكن أن نقول أنكم تصلون إلى الثقوب السوداء نظرياً.
يرى المعلم الهندي أوشو أن المعادل "العلمي" لحالة ما بعد الاستنارة التي يصل إليها المتأمل، الثقوب السوداء.
ييشرح أوشو الحياة الغريبة للبشر في عالم "الثقوب السوداء": ما بعد الاستنارة، كل الحدود تختفي، كل التجارب تتلاشى، التجربة الإنسانية تصل فيك إلى حدها الأقصى في مرحلة الاستنارة، إنها الذروة حيث الجمال، والخلود، والبركة، ولكنها تجربة.
ولأن طبيعة الحياة الحركة، فعندما تتجاوزون الاستنارة لا توجد تجربة، لأن صاحب التجربة يختفي، الاستنارة ليست فقط هي "ذروة التجربة الإنسانية"، إنه التعريف الأخير لكينونتكم، ما وراؤه اللاشيء، اللاشيء الذي يأتي منه الوجود، ويولد، اللاشيء الذي ينتهي إليه الوجود، ويموت.
يوجز أوشو رؤيته: "التجربة الروحانية تنبع من العالم الداخلي، والعلم هو استكشاف العالم الخارجي، الذي هو امتداد للداخل، ولكن كليهما جناحا الوجود، لذا كلاهما يصلان إلى نتيجة مشابهة".
الثقب الأسود.
"كابوس أينشتاين" يعزف موسيقى الكون
ظهر الثقب الأسود للمرة الأولى فكرة كابوسية تخيلها ألبرت أينشتاين، افترضها نظريا، ودعا الله ألا تكون موجودة.
يشرح آندرو هاميلتون، من جامعة كولودراوا بولدر، الحالة النفسية لأينشتاين: لم يحب مطلقاً فكرة الثقوب السوداء، كان يعتقد أنها ملعونة، أمر يجب على الطبيعة أن تتجنبه، إنها الأماكن التي يرتبط فيها الزمن والمساحة بشكل لانهائي، كان يعتقد أنَّ الطبيعة لا يجب أن تسمح بوجود ذلك.
وتم رصد الثقب الأسود في البداية كصوت يشبه الفحيح، صوت بخار قادم من مركز مجرتنا، وكانت المفاجأة، "كابوس أينشتاين"، يمكن أن تراه أو تسمعه ولكن بطريقة غير مباشرة، يملؤ إيقاعه المجرات.
فضل تقرير نشره موقع "ناسا" الاستماع كوسيط معرفي عن الرؤية في فهمنا لظاهرة الثقوب السوداء، اكتشف علماء الفلك الذين يستخدمون مرصد "تشاندرا" للآشعة السينية في ناسا، موجات صوتية للمرة الأولى قادمة من ثقب أسود هائل.
"جيد أن تفكر أن تستخدم التأمل للوصول إلى حالة نفسية عميقة، إلى الدرجة التي تدفعك إلى امتصاص أي شيء، وترى الأشياء بوضوح، يمكن أن تسميها النيرفانا، أو الاستنارة، ويمكن أن نقول أنكم تصلون إلى الثقوب السوداء افتراضياً"
تلك الملاحظة وصفها الموقع الرسمي لناسا التابع للحكومة الأمريكية بأنها هي الأعمق مقارنة بكل الاكتشافات لأي جرم في عالمنا.
ليس ذلك فقط، شدَّد التقرير على أن هذه الكميات الهائلة من الطاقة تحملها موجات صوتية قد تحل مشاكل عويصة في الفيزياء الفلكية.
وحصل علماء الفلك في عام 2002 على ملاحظة عميقة تظهر تموّجات في الغاز الذي يملأ عنقود النجوم، هذه التموجات هي دليل على موجات صوتية رحلت لآلاف ومئات الآلاف من السنوات الضوئية بعيدا عن الثقب الأسود المركزي لعنقود النجوم، سموها موجات بيرس.
يعلق ستيف آلين، من معهد علم الفلك ومشارك في البحث الخاص بالثقوب السوداء، إنّ موجات بيرس الصوتية هي أكثر بكثير من مجرد "شكل صوتي للثقب الأسود مثير للاهتمام"، قد تكون هذه الموجات الصوتية هي المفتاح لمعرفة كيفية نمو مجموعة المجرات، وهي أكبر الهياكل في الكون.
يمكنك سماع الثقوب السوداء بنفس الطريقة التي يمكنك بها رؤيتها، بشكل غير مباشر، لأنه لا شيء يمكن أن يفلت من الثقب الاسود، كل من يعبر الحركة البيضاوية للقرص المحيط بالثقب الأسود، أو "أفق الحدث" بلغة أينشتاين، فلن يعود، هي نقطة جاذبية لا عودة منها، ولكن الثقوب السوداء تؤثر في بيئاتها بطريقة يمكن أن نكشفها.
الغاز في البيئة المحيطة بالثقوب السوداء يُسحب لداخلها، لذا يصبح القرص المحيط بالثقب الأسود ساخناً جداً، إلى الدرجة التي تجعله يصدر آشعة إكس، وهذا ما يمكننا رؤيته، الآشعة السينية، حتى لو لم نتمكن من رؤية الثقب الأسود نفسه.
هذه الأقراص المحيطة لا تمتلكها فقط الثقوب السوداء ذات الكتلة النجمية، الناجمة عن انفجارات السوبرنوفا في مراحل نهايات النجم، ولكنها أيضاً لدى الثقوب السوداء فائقة الكتلة، والتي تكون في مركز المجرات، حيث تتشكل عناصر الأقراص من تراكم غاز النجوم في نوى المجرات.
تعتبر تلك الأقراص غريبة جدا، تعيش ظروف "قاسية" و"شديدة التطرف"، مثلا ينفجر الجزء الداخلي من الأقراص، عندما يحدث ذلك نلاحظ نفاثات من جزيئات عالية الطاقة تنطلق من الثقب الأسود، على جانبي نقطة واحدة، تنشأ من منطقة "أفق الحدث"، هذه النقافات تغذيها حقول مغناطيسية عالية الطاقة.
وكما يتضح، بحسب ستيف آلين، هذه "النفاثات" تحدث موجات صوتية تنبعث من الثقب الأسود، لأنها قوية جدا للدرجة التي تضغط على الغاز المحيط، محدثة تجاويف، تخرج منها "الطاقة" بسبب النفاثات، والتي كانت كامنة كموجات صوتية، وهي في الأساس موجات ضغط، تخرج من هذه التجاويف، وتصطدم بالغاز، وتحوله إلى طاقة ساخنة، وتسخين الغاز يخلق آشعة إكس، وهذا ما اكتشفه مرصد "شاندرا للآشعة السينية".
وتتطابق تلك الآشعة السينية مع دورة الموجات الصوتية، يقول آندي فابيان من معهد علم الفلك، أن تلك الموجات تُحدث انبعاثات مضيئة ومظلمة لأشعة إكس، تتحرك في دوائر بعيدة عن مركز الثقوب السوداء مثل تموجات على سطح بركة الماء، إذا استطعنا قياس المسافة بين الأمواج يمكننا تحديد كتلة الثقب الأسود.
ما يمكن أن تلتقطه الأذن البشرية، بحسب الفيزيائيين، هي الموجات الصوتية القريبة من بعضها، ودورتها سريعة جدا، ولكن الثقب الأسود بين كل موجة صوتية وأخرى 10 مليون سنة، وترددها أكثر من مليون، وعمقها يتجاوز حدود الأذن البشرية بمليار ضعف.
ويمنح هذا التفسير العلمي إحساساً شاعرياً وموسيقياً بالكون، بحسب تقرير "ناسا"، ليس ذلك فقط ولكن يُفسّر معضلة أمام فيزياء الفلك: لماذا الغازات الكونية المتناثرة في المجرات ساخنة، لم تبرد؟ بسبب الموجات الصوتية للثقب الأسود، تسخّن الغاز، وتعيد تسخينه.
ويمكن أن نستمع للثقوب السوداء بالطريقة التي ابتكرها إدوارد مورغان من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، حيث حول بيانات الآسعة السينية إلى إشارات صوتية.
سادجورو: في البدء\النهاية كان الصوت
ينتقد المعلم الهندي سادجورو العلم الحديث الذي يتعامل مع "الصوت" باعتباره ظاهرة ثانوية، فهو يرى أن الطاقة بالأساس كانت صوتا، والصوت خلق طاقة تبني أشكال الحياة، وتدمرها.
يقول سادجورو: الطاقة أساسها الصوت، في البدء كان الصوت ثم خلق الصوت طاقة، ثمّ خلقت الطاقة كوننا الكبير.
هل ترون الطائرات الحربية التي تخرق حاجز الصوت، تتخيلون أن ثمة انفجارات، ولكن لا شيء يحدث، هذا التوهم بسبب أن الصوت هو أساس الطاقة، "عندما لا يكون صوت، فهناك طاقة، ولكنها غير ظاهرة، غير مخلوقة، ولكنها موجودة".
يشرح سادجورو أكثر عاكساً ما يراه في تأملاته الذاتية على الفضاء الخارجي: جوهرياً، الصوت هو الخطوة الأولى نحو الخلق، والوجود، واليوغا هي الخطوة الأخيرة لتوحيد عملية الخلق بـ"اللا خلق"، فالخلق يعني شكلاً محدوداً من الطاقة، فمهما كان تصورنا عن الكون أنه كبير ولانهائي، ولكنه في النهاية محدود، له نهاية، وأفق لا يمكن أن يتجاوزه، لأنه في النهاية أي شكل هو "فضاء محدود".
في التأمل نسعى لاختبار الحالتين، الوجود والعدم، نريد أن نحول "الشكل" إلى "اللاشكل"، ولكن في نفس الوقت لا نخسر "شكلنا".
عندما يختبر المتأمل والصوفي تلك الحالة، من اختلاط العدم بالوجود، يتساءل بطريقة معاكسة: لماذا نخاف من الموت؟ لماذا يريد البشر أن يطيلوا أعمارهم، الموت هو أشد التجارب كثافة في الحياة.
يبرر سادجورو فكرته بأن عملية الخلق تحركت من الباطن إلى الظاهر، من الخفاء إلى العلن، ولكن في بعد آخر هي تحركت من الظاهر إلى الباطن، وهي الفكرة القريبة من افتراض علمي "الثقوب البيضاء"، الحالة المعاكسة للثقب الأسود.
يدعوكم سادجورو إلى الرجوع قديما، حيث صورت الأساطير الهندية الثقوب السوداء بطريقة مختلفة جذرياً.
"الثقوب السوداء" أم "شيفا كيانتا"؟
"شيفا كيانتا"، في هذه الأسطورة نرى الإله شيفا يجلس شاعرا بالملل في "كيانتا"، وهي محرقة الجثث، المقابر، ويدعونا سادجورو إلى تأمل كلمة "كيانتا" في الهندية القديمة، حيث "كيا" تعني "جسم"، و "آنتا" تعني "نهاية"، والجملة تعني: "حيث تنتهي الأجسام"، وليست "حيث تنتهي الحياة".
بحسب الأسطورة يولد الإنسان وبداخله نزعتان، نزعة البقاء: الخوف من الموت، التعلق بشكل الحياة المحدود. ونزعة أخرى إلى "طاقة بلا شكل"، لذا بحسب الأسطورة الموت هي أكثر التجارب الحياتية "كثافة"، لا تخافوا منها، بالعكس، إذا استوعبتم ذلك فقط، وقبلتموه، فستصلون إلى مقام "شيفا"، الاستنارة، ستستمتعون باللعبة، من الحياة "شكل محدود"، إلى الموت "صوت غير محدود".
وهذا هو شوق أشكال الحياة، أن تصبح،خالدة، غير محدودة، وهذا هو الصوت العظيم الذي خلق الطاقة، أو الثقوب السوداء، صوت يملأ الدنيا، الفراغات الواسعة بين النجوم والكواكب، لأنه لا طاقة بلا صوت.
"لينجام" هي الكلمة الأسطورية الأخرى، وتعني "الشكل"، بحسب الأسطورة فالكون خاوي، ليس فيه شيء، إذا نظرت إلى السماء فغرائزك التي تخدعك ستوجههك إلى تلك النقط الصغيرة المضيئة، النجوم، وستتجاهل الحقيقة الأكبر، أن السماء مليئة بالفراغ أكثر.
أول شكل من أشكال الطاقة وهي تخرج من "العدم" الشكل البيضاوي، تأملوها جيدا، الشكل البيضاوي هو مثالي لعالم ثلاثي الأبعاد، وهو شكل الحركة حول الثقوب السوداء، من هذه الحركة البكر تتحرك الطاقة من الصوت المحض، إلى أول شكل لها، هو الشكل البيضاوي، وهذا هو تعريف "الشكل" أو "لينجا" بلغة الهند القديمة.
يختم سادجورو: العلم الحديث التقط صورا لكل مجرة، واكتشف أن جوهرها هو "لينجا"، أو الحركة البيضاوية، هذا هو الشكل الأول والأخير للحياة.
"لينجا هو بوابة، بوابة إلى ماوراء الحياة".
ويعتقد سادجورو أن الهنود الأولين كانوا يعرفون أن يولدوا تلك الطاقة، حتى جاءت حركة "باختي" في العصور الوسطى، وهي حركة دينية متطرفة، وأشهرت لاءاتها، لا للعلم، لا للتجريب، وروجت لرؤيا عن الحياة لا تعكس سوى مشاعرها السلبية المتطرفة، واختفى السر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com