شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"هنا والآن"... الإدراك الغريب والمثير للزمن تحت تأثير التأمّل والهلوسة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الأحد 18 نوفمبر 201808:53 م

ندرك الزمن باعتباره سهماً ينطلق من الماضي ويمر بالحاضر وينتهي في المستقبل البعيد، ولكن الخبرة الروحانية المتمثلة في معايشة الحاضر "هنا والآن" تعتبره خرافة بدائية، لا تصمد حتى أمام المنطق، وكلّ الأشياء تحدث في وقت واحد، وهو الآن.

تجلس مستمتعاً مع أصدقائك، منتشياً بوجودك، مجرّد وجودك، وتشتعل الموسيقى في السماعات الكبرى بالغرفة، أستمع لأغنية "أتساءل" لرود ريجيز، لساعات وساعات، أنظر في ساعة الموبايل، معقول! لقد مرّت أربع دقائق فقط، نقضي أوقاتاً طويلة في مرح ولهو، ولايزال القمر مُنتصِفاً السماء، وتستمرّ الشمس في الغياب كأنّه لا وجود لها. حدث لي ذلك في أول تريباية أسيد، ومع ممارسات طويلة ومنضبطة لتأمل الكاراكاتا، لم يكن إحساسي بالزمن هو الذي تغيّر، وبشكل غامض، وإنّما وعيي بالأحداث والأشياء، أشعر أنّ اليوم يمرّ كأنّه عمر، وكأنّي بمرور الأيام عشت آلاف السنين، إلى الدرجة التي دفعتني إلى التساؤل: ما هو الزمن؟ وما علاقته بوعيك؟ ما الذي يغيّره فيك التأمل وتريبات الأسيد؟ قبل أن ندخل إلى أعماق تلك الحالة المُسمّاة "هنا والآن"، الناجمة عن أفكار مستلهمة من التأمل وعقاقير مشتقات المشروم، التي تغيّر من إحساسنا بالزمن جذرياً، ربّما علينا أن نتوقف حيال وعينا الحالي بالزمن: كيف تشكّل؟ وكيف ساهمت تركيبتنا النفسية العصبية، وجهود العلماء والفلاسفة في تنميط إدراكنا له.

الزمن مؤسسة اجتماعية وليس واقعاً فيزيائياً، لذا لا يوجد زمن في العالم الطبيعي للنجوم والكواكب والكائنات الحية العضوية، مما يدعونا إلى التأمل أكثر في عبثية فهمنا الحالي لسهم الزمن

المفاهيم الشائعة للزمن

تُمثّل محاولة أفلاطون لفلسفة الأمور، ووضعها في إطار قابل للتعقلن، بواكير فهمنا للزمن، حيث يُعَرّفه بأنّه صورة متحركة لما هو أزلي في اتجاه الأبدية، حركة مُستَمِرّة بدأَت من الأزل الذي لا بداية قبله، وتسير إلى الأبد الذي لا نهاية بعده. أما بالنسبة للنظريات التي استلهمت كشوفات الفيزياء، وشَكّلَت إحساسنا بالزمن، يبرز في المقدمة إسحاق نيوتن، يرى أنّ الزمن جزء من الكون، حيث تحدث الأشياء بشكل منطقي متسلسل في فضاء ثلاثي الأبعاد يعتبر حاوية يتحرّك الزمن عبرها، بينما تقول وجهة نظر علمية أخرى أنّه بنية عقلية، مثل العدد والمساحة، حيث يقارن البشر الأحداث به، لذا فهو غير قابل للقياس، وللآخرين هو اتجاه ينطلق من ماضي محدد، لمستقبل غير محدد، لحاضر محدد بدقة. وغيّر ألبرت أينشتاين نظرتنا للوقت، وجعل سرعة الضوء هي المقياس، نظرته للأحداث المتزامنة تتطلّب تسريع وتباطؤ الوقت على أساس نقطة المراقبة، والهيكل الرياضي، بحسب رؤيته، مبني على ثلاثة أبعاد للمكان، وبعد رابع للزمان، والمسافة يتم قياسها فقط عبر الزمن.

 وكذلك تتحكّم طبيعة التجربة التي نمرّ بها في إيقاع الزمن، في الطفولة يكون إحساسنا بالوقت أطول، لأنّ العقل منهمك في التفاصيل التي يتعلّمها كلّ لحظة، ممّا يخلق شعوراً ببطء الزمن، وعندما نواجه الخطر، الانتباه العاطفي يزداد في المناطق الحوفية، مثل اللوزة المخية، مما يتسبّب في زيادة المواد الملاحظة، وبالتالي بطء إيقاع الزمن، وإحدى التفسيرات لتباطؤ الوقت أثناء شعورنا بالأزمات أنّ الدماغ يقوم بمراجعة تفاصيل أكثر في الثانية مقارنة بأوقاتنا العادية. وفي النهاية تظل الرؤية العامة الحاكمة لنظرتنا إلى الوقت، أنه سهم ينطلق من الماضي مروراً باللحظة الحاضرة إلى المستقبل، هكذا ننظر إلى حياتنا الشخصية، تتابع لأحداث ومراحل، وكذلك للتاريخ، وكذلك في الفيزياء، باستثناء الكوانتم، هناك حدث في الماضي يُحدّد ويتحكّم في كل الإحداثيات التابعة له. باستثناء تجارب عقاقير الهلوسة التي تؤدي إلى  التحرر من الجسد، حيث نشعر بأنفسنا منفصلين عن أجسادنا، ويتلاعب العقار بوعينا، ويجعلنا نختبر لأول مرة الوعي باعتباره لعبة. يقول أرون وورلي، حساب على "كورا" عرّف نفسه بأنه فنّان، أنه تحت تأثير الأسيد كان يبدو الوقت غير موجود، والسبب أنه يسير ببطء، عدة مرات أنظر للساعة لأعرف الوقت، وبينما أتوقع مرور أكثر من ساعة، لا أجد سوى ثلاثة دقائق.

تطرح النزعات الصوفية والبوذية رؤية للحياة متمثلة في اللحظة الآنية "هنا والآن"، العيش في الحاضر بحب وشغف، نظرة مختلفة جذرياً عن الزمن، باعتباره كتلة واحدة، وأنّ كل شيء يحدث هنا والآن، وما نعتقده عن سهم الزمن هو مجرد وهم، وأسطورة لا تقل سذاجة عن الاعتقاد بأن الأرض مسطحة قائمة على ظهر تنين. يُشدّد آلان واتس المحاضر البريطاني وصاحب كتاب "طريق الزن"، على أنّ الزمن مؤسسة اجتماعية وليس واقعاً فيزيائياً، لذا لا يوجد زمن في العالم الطبيعي للنجوم والكواكب والكائنات الحية العضوية، ويدعونا إلى التأمل أكثر في عبثية فهمنا الحالي لسهم الزمن. 

آلان واتس: إحساسنا بالزمن خرافة، وكل الأشياء تحدث الآن

يتحدث واتس في محاضرة له، محاولاً تكسير المنظومة الفكرية المرتبطة بالوقت، بأن إحساسنا الحالي بالزمن مرتبط بفكرة السببية، والمغالطة في الفكرة الشائعة حول السببية بأن الأحداث تحدث بسبب الأحداث السابقة في تعاقب مستمر، وتتدفق أو تأتي بنتائج حتمية، ولكن ماذا نعني بالحدث؟ مثل حدث مجيء البشر إلى هذا العالم، الحدث هو مجرد تعريف، مثلما نُعرّف الأشياء، الشمس نُعرّفها بالنيران وليس بالضوء، بنهاية جسمها الفيزيائي، رغم أنها تطلق الضوء للكواكب، وتغمرنا بشعاعها، ولا يمكن أن نُعرّف حدود وجودها بضوئها، فتعريفنا للأشياء مرتبط بقرارات اتخذناها سلفاً، كذلك في الزمن. فنحن نقول الحرب العالمية الأولى بدأت من كذا إلى كذا، ولكن كيف نُميّزها، وبداياتها وبوادرها ترجع إلى ما قبل هذا التاريخ، كيف نُميز الأحداث المرصودة عما قبلها وبعدها، نُحوّلها إلى أشياء، وهذه بداية الخرافة، الأحداث أفعال حيوية مُتغيرة وليست أشياء جامدة، لا تقل "الحرب العالمية" ولكن تعامل معها كنشاط، حارب الأوروبيون بعضهم في هذا الوقت؛ ولا تقل هناك ضوء على الشمعة، ولكن هناك توهج على عود الشمعة، لأن الضوء نشاط وليس شيئاً، إذاً الزمن عبارة عن أحداث تتدفق إلى بعضها البعض كالنهر. الزمن نهر متدفق، متصل، يشبهه واتس بثعبان طويل خلف سياج، وعندما ننظر من فتحة السياج الضيقة لا نرى سوى رأسه، ولكن عندما يُغيّر الثعبان من وضعه نرى الذيل، ثم نقول البيضة والدجاجة، أيهما الأول البيضة "رأس الثعبان" أم الدجاجة "ذيله". يوجز واتس فكرته بقوله: كلّ الأحداث حدث واحد، لذا لا نحتاج إلى السببية.  

جربوا أن تدركوا بآذانكم لا بعيونكم حتى تفهموا الزمن

عندما تتخلى عن الإدراك البصري، وتتبنى الإدراك السمعي في مقاربة العالم، إذا أغلقت عينيك، وتواصلت بشكل كامل مع العالم بأذنيك، فستدرك إيقاع الصوت ذا نمط واحد، بحسب رؤية واتس،  اهتزازات مضطربة قادمة من الصمت، ثم تتلاشى رويداً رويداً، ثم تختفي، إنه عالم فضولي لأن كل الواقع فجأة قادم من العدم، ثم راجع إلى العدم، بلا سبب، هكذا مرة واحدة، وإذا فتحت عينيك، من الصعب إدراك ذلك، لأن كل ما تراه يظل ثابتا لعينيك، على عكس الأشياء المتذبذبة بطبيعتها، كل العالم المرئي يتحرك مثل الصوت في أذنك، الضوء قادم من الفضاء، والعالم يتحرك أمامك الآن بنفس الطريقة للصوت في أذنك. وما يُفسّر الشيء الحاضر، بحسب واتس، ليس هذا التساؤل: لماذا تفعل هذا الآن؟ وهذا سؤال لا معنى له، لأن الحاضر مثل الصوت الذي يظهر فجأة ثم يختفي، لذا السؤال المهم هو ماذا يحدث وليس لماذا؟ وما يحدث لي ليس منفصلاً عمّا يحدث من حولي للكائنات والبشر. لا نستطيع أن نفصل أنفسنا عن الهواء وضوء الشمس، وكذلك عن زملائك في العمل، أو أصدقائك في الرحلة، لذا من الصدق أكثر أنّ ندعو أي شيء يحدث في كل البيئة المحيطة بنا، "أفعالنا"، وهذا هو معنى الكارما، التي تعني أن ما تفعله هو ما تجنيه في ذات اللحظة، جنتك ونارك هنا والآن، ليست فردوساً مفقوداً في الأزل، أو جنّة موعودة في الأبد، والتحرر من الكارما، أي التحرر من سطوة الماضي عليك، تغيّر يحدث في داخلك، طريقة تفكيرك، أي أنك تخلصت من عادة العقل في تعريف نفسه بالماضي، ولكن ما يحدث الآن هو فعلك، وفعلك هو ما يحدث الآن، وهذا ما يعنيه الروحانيون بـ"هنا والآن".

"هنا والآن" فكرة فلسفية وخيال روائي

تمرّد الفيلسوف الفرنسي هنري برغسون على نموذج المثل لأفلاطون، وقبل كل شيء على عقلنة أمور الروح، متبنيا استخدام "الحدس" في مقاربته، يقول برغسون: الفكر ليس في وسعه إلا أن يتأفلط، أي يدخل في قوالب ونماذج سابقة. وقد أقرّ بصعوبة فهم الزمن فلسفياً، يقول: "الزمن هو المعضلة الأساسية في الميتافيزيا، وعندما يستطيع الإنسان أن يقدم إجابة واضحة عن سؤال الزمن فإنها تستطيع تجاوز كل الإشكاليات والمعضلات الوجودية التي تواجه حياة الإنسان والبشرية جمعاء". لذا رأى برغسون الوجود الزماني هو الوجود الذي يتسم بصفة التعالي، ويفتقر إلى ثبات الموضوعات والأشياء، لذا العقل غير منوط بفهمه، ولكن العاطفة أو الوجدان، واخترع برغسون مفهوم "الأنا العميق" ويعني أنّ الإنسان يحيا حياتين، حياة مرتبطة بالعمل والضرورة الخارجية، وحياة مرتبطة بالتأمل والتفكير والانفصال عن عالم الأشياء إلى الحياة. ويصيغ كليفورد دي سيماك، روائي خيال علمي بارز في أمريكا، أدبياً تلك الأفكار، حيث يصور الماضي باعتباره شبحاً متلاشياً: "هناك لا يوجد عشب، لم تكن هناك أشجار، لم يكن هناك أي أحد، ولا أي إشارة على وجود أناس"، بينما المستقبل فارغ "مكان لا يوجد فيها ملمح واحد لماتريكس الزمان-المكان الذي يعرفه، إنّه مكان حيث لم يحدث شيء بعد، فراغ مطلق، لم يكن هناك ضوء ولا ظلام، لم يكن هناك أي شيء في هذا المكان، ولم يكن لأي شيء من أي وقت مضى أن تشغل هذا المكان".

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image