قبل عامين، زارت ابنة المنصورة غادة محمد القاهرة لأول مرة، وقابلت أصدقاء عرفتهم عبر فيسبوك. زيارة تركت انطباعاً أثار مخيلتها عن الحياة في وسط العاصمة.
لم يمض 6 أشهر على لقائها العابر حتى استقرت نزيلة في بيت قريب من المنطقة التي أسرتها.
الآن، تدرس غادة، 20 عاماً، في جامعة خاصَّة، بشخصية مختلفة ومتحررة، لطالما سعت لتحقيقها بعيداً عن قبضة أسرتها المحافظة.
وبعد مرور عامين على سكناها تسلَّل الصخب إلى حياة غادة، الفتاة الريفية صارت عضوة دائمة في جلسات المقاهي والحفلات العامة، والخاصة.
تقول غادة: "الآن، لم أعد متفرجة كما كنت، بل فاعلة بالمشاركة والاختبار والمغامرة".
وسط البلد، المكان الذي يطلقه المصريون على المناطق المحيطة بميدان التحرير، مثل حي عابدين والإسعاف، هو "حجر الزاوية" و "محور الكون" لدى كثير منهم ممن يعيشون بالقاهرة أو وافدين عليها من الريف والصعيد، لما تمتلكه من إغواءات يبحث عنها المراهقون والكهول معاً.
"مين في وسط ناو" وسم دعائي جذَّاب للمنطقة، ابتكره شباب وبنات كنداء حشد للتجمّع على أحد مقاهيها، وغير معروف على وجه التحديد من ابتكره أو تاريخ اعتماده؟، لكن هذا الوسم يختبئ وراءه حكايات وحكايات.
تقول غادة القادمة من شريحة محافظة بالريف المصري بعد مرور عامين على حياتها في وسط البلد: "الآن، لم أعد متفرجة، بل فاعلة بالمشاركة والاختبار والمغامرة".
"نصف قروي نصف قاهري، لكني أرتبط وجدانياً بوسط البلد" يقولها كريم شفيق، 26 عاماً باحث في مؤسسة أبحاث عربية، يقطن بمدينة بنها، التي تبعد ساعة واحدة فقط بالقطار عن منطقة وسط البلد.
قلب العاصمة بالنسبة لشفيق هو المكان الأقرب إلى عمله، والذي يعجّ بالبارات والمقاهي التي اعتاد ارتيادها منذ 8 سنوات.
"وسط البلد هي البوصلة، ومركز حياتنا في القاهرة، والمكان الذي احتضن الثورة، وتفرعت منه أنشطتنا، كمقار الأحزاب والمراكز الثقافية والتجمعات السياسية على المقاهي".
"أشرب وأسهر في أي مكان، لكن بارات وسط البلد لها مذاق خاص عن أي مكان تاني" يتحدث شفيق، حيث يرتاد البار مرتين أسبوعيا قبل قطع تذكرة العودة إلى بلدته بنها بمحافظة القليوبية.
"ما يحدث في وسط البد لا يبقى فى وسط البلد"
لا تخفي وسام عبدالقوي، 27 سنة، انجذابها إلى عالم وسط البلد في السنوات الأولى التي عاشتها في القاهرة بعد الانتقال من المنوفية.
"سمعت كثيرا ولم أندمج بسهولة حتى بدأت علاقتي بالمكان في 2016، جئت مشدودة بالحواديت".
وسط البلد بالنسبة لوسام، تعمل حاليا في مجال العلاقات العامة، مكان وفَّر لها مساحة الجلوس بحرية على المقهى في أجواء مختلطة تفتقدها في قريتها، وكذلك تحرراً في الزي غير موجود في أماكن أخرى بالقاهرة.
تجربة الفتاة العشرينية لم تدم، إذ تغيرت آراءها حيال "شلّة وسط البلد" بعد سنوات، توضح: "الاندماج سمح لي بفرز الأصوات الزائفة المحسوبة على المثقفين وأنصار الليبرالية والتحرر وداعمي الفيمنست".
رحلة وسام مع الحجاب لم تسلم من بصمة وسط البلد أيضا، تحكي أنها ظلت ترتدي الحجاب 3 سنوات منذ مجيئها القاهرة، فقد حصلت على استقلالها من أسرتها على مراحل لرغتبها في عدم خسارتهم، إلَّا أنَّ تلك الفترة جادلها أصدقاؤها كثيراً لخلع حجابها حتى خلعته بعد نجاح مفاوضاتها مع الأهل.
"حملات أمنية في وسط البلد تستهدف "تطهيرها" من تركيبتين سكانيتين: الباعة الجائلين، والنشطاء الثوريين"
"ما يحدث في وسط البد لا يبقى فى وسط البلد" هذا ما خلصت إليه وسام، تقول إنَّ أكثر ما أزعجها جلسات المقاهي التي لا تخلو من أحاديث العلاقات الجنسية، وأشياء خاصة، وهو ما جعلها تحتاط كثيراً إلى أن قرَّرت الانسحاب، رغم أنها محسوبة على المنطقة باعتبارها "فيمنست مُستقلّة"، بحسب تعبيرها.
مراهقون صغار يغزون وسط البلد
على الرغم من أن وسط البلد بإغواءاتها المختلفة لا زالت تُمثّل القبلة الأولى للشباب المتحرر من الطبقة الوسطى والفقيرة في مصر، هناك تيار آخذ في الانتشار خاصة ممن تجاوزوا العشرينات، وقضوا سنوات في المكان، يدعو للعزوف عنها، باعتبار أنها فقدت بريقها ولم تعد المكان المناسب.
تقول وسام عبدالقوي إنَّ المنطقة حاليا لا تقدم "قيمة مضافة لا ثقافة ولا سياسة"، فهي "مجرد قهاوي سعرها رخيص"، يلتقى عليها الصغار "الأندر إيدج"، نسبة كبيرة من دوائري هجرت وسط البلد لرفضها السلوكيات التي تحدث، وهروباً من روّاده الجدد"، في إشارة إلى زيادة التحرّشات، والتعامل غير المهذب.
لا يوجد تاريخ محدد لاحتلال وسط البلد من الفتية، طلبة مدارس الثانوية العامة والمعاهد، إلَّا أن المنطقة ظلت شبة مقصورة على أعضائها القدامى من النشطاء السياسيين والعاملين في مجالي الثقافة والفن حتى عام 2014، إلى أن تغيرت معالم مقاهيها رويداً رويداً.
"لم أعد قادرا على المكوث في أماكن ارتدتها منذ 10 سنوات وأصدقاء قدامى لم يعودوا مألوفين لي.. البوصلة تتجه إلى المقطم أو أكتوبر" يسوق عبدالرحمن محمود دوافعه للهروب من المنطقة إلى أطراف القاهرة والجيزة.
يعمل القاهري محمود، 37عاما، في مجال الصحافة التلفزيونية، وقضى عقدا كاملا في رصد الخريطة الديموغرافية للمصريين، ولطالما ارتبطت مجالسه بوسط البلد، إلا أنه قرر منذ بضعة سنوات الابتعاد، أو بالأحرى الهروب من أولئك الأشخاص الذين ارتبطوا بالمكان لسنوات، لإضفاء نوع من التغيير على حياته.
نجلاء سليمان، صحفية ريفية تسكن بمنطقة عابدين منذ 3 سنوات، لا تنخرط كثيرا في دوائر وسط البلد، ولا تزال محتفظة بأخلاقياتها المحافظة التي قدمت بها من أقاليم الدلتا.
"لا أسمح بالزيارات" عقبة تضعها نجلاء أمام الفتيات اللواتي يتقاسمن المنزل معها، مبررة ذلك بأنها تريد المحافظة على خصوصيتها وتبقي مكان المعيشة آمنا طوال الوقت.
"أفضل وسط البلد لموقعها لكن لست جزءً من عالمها، دخلت في صدامات كثيرة مع فتيات مستقلات بسبب قناعاتي، فأنا ابنة بيئة محافظة وأعيش في القاهرة لارتباطي بمركزية العمل الصحفي في العاصمة وليس لأسباب أخرى".
ملاحقات أمنية للمقاهي والتجمعات
أجبرت الملاحقات الأمنية للتجمعات المشهورة البعض على الانزواء والاستغناء عن طقوسهم القديمة، مثل محمد سالم، باحث سياسي، اعتاد تنظيم لقاءاته بمقاهي وسط المدينة؛ موقعها قريب من الحزب الذي ينتمي إليه، وأماكن عمل أصدقائه، لكنه يسعى الآن لنقلها خارج نطاق المقاهي ذاتها.
"في المناسبات، وبدون مناسبات، تجوب دوريات الشرطة في شوارع بها مقاهي وسط البلد لاعتقال الناشطين في العمل السياسي والمجتمع المدني، لذا نأثر السلامة ونرتحل بعيدا خوفا من الاعتقال العشوائي".
إلا أن المحامي العشريني أحمد بحراوي لا يكترث بالدعاية السلبية لوسط البلد، فهو المكان المفضل له منذ شبابه قبل 12 عاما، ولم يفكر قط في مغادرته.
"وسط البلد مجتمع كبير يحكمه السرية وبه كثير من الخبايا، فلا تعلم أين يجتمع السياسيون أو مجموعات التحرر أو المثقفين الأصليين".
"أعيش مع تفاصيل المكان، رغم مساوئه وعيوبه لكن لا أرتاح إلا في وسط البلد، هنا حياتنا وثورتنا، نقابل أناساً يشبهوننا في أماكن تشبهنا، وجغرافياً هي المكان الأقرب للعمل والأفضل للمقابلات والسهر".
"لا أرتاح إلا في وسط البلد، هنا حياتنا وثورتنا، نقابل أناساً يشبهوننا في أماكن تشبهنا"
"عاصمة بوهيمية"
في بحث للوسي ريزورفا حول منطقة وسط البلد تقول عن المنطقة أنها رمز للكولونيالية الاستعمارية القديمة، حيث المباني الإيطالية، والمصارف التي عملت على نهب البلاد في سنوات الاستعمار، ومن جهة أخرى هو المكان الذي تنعدم فيه "هيمنة السلطة، و بؤرة المطالب الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، حيث كان ميدان التحرير مركز ثورة يناير.
وتشهد المنطقة حملات أمنية منذ عام 2014 تستهدف "تطهير" وسط البلد من "تركيبتين سكانتين": الباعة الجائلين، والنشطاء الثوريين، بحسب ريزورفا.
وسط البلد وصفته الكاتبة بأنه "عاصمة بوهيمية" خاصة منذ الثلث الأخير من القرن العشرين، تحول إلى مأوى لطلبة المدارس الثانوية بالدقي الهاربين من الحصص الدراسية، وموقع رئيسي للثقافة المستقلة، وارتبط اسمه بالمقاومة السياسية، وحوى مقاهي وبارات ومطاعم لتجمع الأدباء والفنانين والنشطاء السياسيين.
وسط البلد "متحف مفتوح" للسُّيَّاح
مؤخراً، لا تنظر السلطة إلى وسط البلد إلا من منظور سياحي، لاستغلال القيمة التاريخية لمبانيها القديمة في مشروعات استثمارية تتقاسمها الحكومة مع القطاع الخاص.
وطوال السنوات الماضية، سعت الحكومة لتهيئة منطقة وسط البلد والأحياء المتاخمة لها لإقامة مشروعات استثمارية، وتحويلها لمتحف مفتوح، فبدأت قبل سنوات إخلاء منطقة البورصة الواقعة بين شارعين "صبري أبو علم" و "قصر النيل"، التي كانت تعج بالمقاهي متوسطة الأسعار يقصدها الشباب من جميع الأعمار، كما أعادت تخطيط منطقة "الألفي" كواجهة للقاهرة الخديوية، فضلاً عن إزالة الباعة الجائلين من الشوارع الرئيسية.
وأقدمت محافظة القاهرة على تطوير شارع "الشريفين" بمنطقة "البورصة"، بتمويل من كيانات اقتصادية، بهدف تحويل وسط المدينة لمتحف مفتوح للواجهات المعمارية الأثرية التي تمثل حقبة زمنية حظيت مصر فيها بمكانة معمارية مهمة، حسبما صرح عاطف عبدالحميد محافظ القاهرة.
وربط البعض بين خطة الحكومة لتطوير منطقة وسط البلد من خلال التعاقد مع شركات استثمارية ومشروع تحويلها لـ"وسط بيروت" جديد، على غرار تجربة الحكومة اللبنانية مع شركة "سوليدير"، التي أُسند إليها تطوير وإعادة إعمار "وسط بيروت" بعد الحرب الأهلية.
وتتعرض "سوليدير" لانتقادات من النخبة المثقفة في لبنان، لأنها ضحَّت بالمعالم الثقافية لوسط المدينة البارزة من أجل إقامة الأبراج والمراكز التجارية، وهو ما يخشاه البعض من سوء استغلال الحكومة المصرية لوسط البلد.
وبحسب كريم الشافعي، رئيس مجلس إدارة شركة الإسماعيلية للاستثمار العقاري التي تعاقدت معها الحكومة لتطوير وسط البلد، فإنها تستهدف تطوير 23 مبنى تاريخياً بوسط البلد، من بينهم مبنى القنصلية الفرنسية و مبنى سينما راديو، ومبنى كوداك، لإحياء تراث القاهرة الخديوية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...