عدد من الظواهر الجديدة شهدها أخيراً سكان وسط البلد في القاهرة. فرقة من راكبي الكراسي المتحركة تنتشر في المكان مؤديةً عروضاً تتضمن محاولات لصعود الرصيف أو عبور الشارع. فرق من الراقصين والممثلين الأجانب والمصريين تغزو الشوارع والميادين بعروض مسرحية تفاعلية مجانية للجمهور. كل هذا في إطار "روح المدينة"، أحد برامج مهرجان وسط البلد للفنون المعاصرة "دي-كاف" D-CAF الذي يقام للعام الثالث على التوالي، في المنطقة نفسها حيث أصبح التظاهر أو التجمع لأي سبب من الأسباب ممنوعاً، وإلا تعرّض المجتمعون لإطلاق الغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي، كما حصل مع الناشطة شيماء الصباغ في مظاهرة ذكرى الثورة هذا العام.
المنطقة عينها التي شهدت قبل شهور عدة قراراً اتخذه محافظ القاهرة قضى بمنع تنظيم فعالية “الفن ميدان” التي كانت تقام شهرياً في وسط المدينة، وتحوي عدداً من العروض الموسيقية والغنائية المجانية.
الفرق بين أنشطة "دي-كاف" التي تنتشر في الميادين والطرق وأي نشاط آخر منبعه الأساسي كون "شركة الإسماعيلية العقارية" هي الراعي الأهم للمهرجان، وهي إحدى الشركات العقارية المصرية التي تقود خطة طموحة لتغيير وسط البلد. الخطة تلقى تأييداً ودعماً واضحين من الإدارة السياسية في البلاد، بهدف تفريغ وسط المدينة وتغيير شكله.
تأسست شركة الإسماعيلية للاستثمار العقاري عام 2008، وقد أخذت اسمها انتساباً للخديوي إسماعيل أحد مؤسسي منطقة وسط البلد بشكلها الحديث الغارق في العمران على الطراز الأوروبي. بدأت الشركة كفكرة لدى "كريم شافعي" الذي شرع يبحث عن مبانِ قديمة لشرائها.
خطة شافعي كانت بسيطة جداً، شراء المباني القديمة وإعادة ترميمها ثم إعادة تأجيرها وبيعها لأغراض سكنية أو تجارية. وبشراكة عقدها شافعي مع ”علاء الدين سبع”، مؤسس شركة بلتون المالية، طُوِر المشروع بالاستعانة بالمخطط العمراني الذي أنجزه المهندس عمر نجاتي، ليصبح طموحه إعادة إحياء منطقة وسط البلد من جديد.
بدأت الإسماعيلية بداية خافتة في 2008، ولم تتضمن خطتها فقط شراء المباني وتجديدها، بل كذلك دعم الكثير من الفعاليات والأنشطة الثقافية في المنطقة، لجذب جمهور جديد إليها، ولاستعادة مجدها كمركز للحياة الثقافية. لكن مع ثورة 25 يناير توقف نشاط الشركة جراء التوترات السياسية الكبيرة التي أثرت على مناخ الاستثمار وعلقت الكثير من المشاريع. توقف كذلك ملاك العقارات في وسط البلد عن البيع في تلك الفترة نظراً لانخفاض أسعار العقارات في المنطقة نتيجة أحداث العنف التي تركزت في ميدان التحرير والمناطق المحيطة به.
بعد 30 يونيو وظهور السيسي على رأس السلطة، تغّيّر الحال، ويبدو أن السلطة الحالية تشارك شركة الإسماعلية في رؤيتها لمنطقة وسط البلد، إذ بدأت الحكومة بتشريع خطوات التطوير الحضاري لوسط البلد، بهدف تحويلها لمتحف مفتوح. أولاً، تم طرد الباعة الجوالين من الطرق الرئيسية والجانبية، بعدما كانوا يحتلون الشوارع مثل شارع طلعت حرب بشكل لا يترك مجالاً إلا لسير خطٍ واحد من السيارات، بينما يتسع الشارع لرصيفين وأربع سيارات.
بعد طرد الباعة، بدأت الحكومة بترميم وصيانة المباني التاريخية في وسط البلد، وإعادة دهن الواجهات الخارجية وصون المتهالك منها، وتركيب حلى معمارية لإخفاء العيوب. وأخيراً افتتح رئيس الوزراء موقف “جراج التحرير”، كما تم منع ركن السيارات في منطقة وسط البلد، وإغلاق عشرة شوارع وتحويلها لممرات للمشاة تمهيداً لمشروع تحويل وسط المدينة إلى متحف مفتوح، حسبما أعلن محافظ القاهرة.
حالياً تمتلك شركة الإسماعيلية 20 عقاراً في وسط البلد مساحتها تبلغ 70 ألف متر مربع، أبرزها مبنى سينما راديو الذي يعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي. منذ شرائه، تعمل شركة الإسماعيلية على ترميمه بشكل تدريجي وإعادة استخدامه، إذ استضاف على سبيل المثال مسرح برنامج "البرنامج" لباسم يوسف، كما أن الشركة تفتحه مجاناً لمختلف الفعاليات الثقافية الكبيرة.
ولكن مع ذلك، يرى كريم شافعي أن شركته لا تستطيع وحدها القيام بعملية تطوير وسط المدينة، لأن نصف العقارات مملوك للدولة، لذا لا بدّ برأيه أن تنشىء الدولة شركة قطاع عام تتولى الوظيفة نفسها التي تقوم بها الإسماعيلية.
المنتقدون للمشروع يرون أن الأهداف التجارية التي تحرك الشركات العقارية تجاه وسط البلد ستغير من التركيبة المجتمعية للعاملين والمقيمين في المنطقة، وأن النتيجة قد تقود لتحويلها إلى منطقة تجارية للأغنياء فقط.
يظل النموذج الذي يعتمده المنتقدون للدلالة على ذلك تجربة "شركة سوليدير" (الشركة اللبنانية لتطوير وإعادة إعمار وسط بيروت)، التي أعادت إحياء وسط المدينة بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية. لكن شافعي يوضح أن شركته تسير وفق خطة أكثر براجماتية من تلك التي اعتمدتها سوليدير، ويتم تعديلها طبقاً للمستجدات وردود الأفعال باستمرار، لذا لن تقوم الشركة مثلاً بتحويل المنطقة إلى مجمعات تجارية ضخمة، كنموذج وسط المدينة في بيروت، بل إحياء وسط المدينة كمركز للحياة الثقافية والفنية.
لكن في ظل مناخ يشهد تضييقاً واضحاً على مظاهر التعبير المختلفة من قبل السلطة السياسية، تصبح خطة الإسماعيلية وسيلة لتفريغ هذا الفضاء وتحويله لمسرح متاح فقط للفنانين الأجانب لتنظيم عروض عن تاريخ الاقتصاد العالمي مثلاً، أو لتقديم عروضٍ بالكراسي المتحركة للتوعية في شأن الصعوبات التي يعاني منها ذوو الاحتياجات الخاصة لدى التنقل في المدينة (وهي أكثر من ضرورية)، فيما المصريون الأصحاء أنفسهم غير قادرين على الحركة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...