هل يعتبر زوَار القاهرة جزءا من "سكانها"؟ وهل تصبح المباني العشوائية المكتظة بيئة مثالية لحلول مبتكرة؟ وما الذي يجمع الفنانين والكتاب والمعماريين والباعة الجوالين؟ وكيف يساهم المجتمع المدني في إحياء القاهرة وحماية تنوعها؟ هذه بعض الأسئلة التي يقدمها مشروع "مدن إبداعية" في القاهرة، في صياغات إبداعية جديدة.
تصاعدت في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد ثورات الربيع العربي، دعوات فردية وجماعية تطالب بضرورة التغيير، كان من بينها أصوات وجدت أن الوقت مواتٍ لمبادرات ومشاريع "بديلة" لا تحكمها البيروقراطية. بعض هذه الأفكار اتجه للعمارة، وبالتحديد لـ"وسط البلد" في القاهرة، ومنها ولدت فكرة "مُدن إبداعية".
مشروع "مُدن إبداعية" هو واحد من مبادرات عديدة، انتهجتها مجموعة كلستر (cluster): مختبر عُمران القاهرة للتصميم والدراسات، إحدى المؤسسات العمرانية التي نشأت بعد الثورة. وقد بدأ في مؤتمر عُقد في 2015 بالقاهرة، تم فيه مناقشة فرضية قائمة على اختبار الدور الذي يُمكن أن يلعبه الفن والثقافة والمبادرات الإبداعية في الإحياء والتجديد العمراني، وعائداتها على الاقتصاد المحلّي من قلب القاهرة (منطقة وسط البلد).
كان المؤتمر فرصة لتداول العديد من الأفكار والجولات الميدانية وللتحرّك خارج جدران القاعات المُغلقة، في فضاء أوسع. ومن هذه التجربة، طبع كتالوج بعنوان "مدن إبداعية.. إعادة صياغة وسط البلد بالقاهرة"، بالإنجليزية وملخّص بالعربية.
"مدن إبداعية" هو تجربة لمجموعة (كلستر) في تطوير وتفعيل إطار "بديل" أو "موازٍ" لتحرّكات الجانب الحكومي والقطاع الخاص الاستثماري، في ما يخصّ مشروعات التطوير العمراني لمنطقة وسط البلد. أو كما يقول عُمر نجاتي الشريك المؤسس لمجموعة (كلستر)، التي مضى على تأسيسها حتى الآن خمس سنوات: "المجتمع المدني، جزء أصيل من المنظومة، يُشارك في عملية التطوير والتنمية، بالأفكار البديلة. مهمّتنا التفكير في ابتكارات من شأنها إحداث شيء من التوازن".
"القيمة المادية" و"التراث" و"التنوع"
شركات التطوير العقاري تركز بالأساس على العائد الاستثماري للقيمة العقارية، بينما لا تُعير للبعد الثقافي والتنوّع الاجتماعي نفس الأهمية. كما يشرح نجاتي، وفي حين تركز شركات الاستثمار العقاري على القيمة المادية والتجارية والمصالح التسويقية لمشاريع التطوير العمرانية، وتنصرف الحكومة في المقابل لتفاصيل الحفاظ على التراث المعماري المادي وعمليات الإحلال والترميم للمباني التاريخية؛ يبرز دور "مدن إبداعيّة" في "الحفاظ على التنوّع.
يعتبر مشورع "مدن إبداعية" التنوّع الثقافي والاجتماعي والإنساني، أكثر ما يميّز وسط البلد ويُكسبه فرادته، ومن هنا يرفض أي شكل من أشكال الـ"إزاحة"؛ كما يحاول شغل الفراغ الذي أحدثه غياب المجالس المحلّية بعد الثورة، كما يُؤكّد نجاتي، فيُمكن القول أنها محاولة لخلق منصّة لوسط البلد، كما يُضيف: "نطرح منصّة للحوار المجتمعي. لتبادل الآراء والرؤى النقدية بين الأطراف المعنية المختلفة". ومن أهمها "ناس وسط البلد". حيث تتميّز منطقة وسط البلد، والكلام لنجاتي، أن أغلب مرتاديها ليسوا من سكّانها، لذلك يمكن اعتبارهم "المُلاّك الحقيقيون، مثلما هي وسط البلد ملك المدينة كلها، ملك البلد".
ممرّات القاهرة.. فراغات عامة للتعايش
في حديث عمر نجاتي تتكرر فكرة خلق فضاء أو فراغ عام، فقد قامت "كلستر" قبل هذا بمشروع "إحياء ممرّات القاهرة"، كنموذج لخلق فراغ يحتضن أشكال التنوع البشرية، والتعايش بين مختلف نماذج الحياة في وسط البلد.
بدأت عمليات الإحياء بممريّ "كوداك" و"فيليبس"، واستغلالهما كـ"حديقة عمرانية". فـ"الفراغات العامة انعكاس للمجتمع في المكان،" وهي "ساحة التقاء في الشارع، تعبير مصغّر عن المجتمع، تطبيق للتنوّع والرحابة،" كما يقول نجاتي، ويضيف، "من ممرّات وسط البلد المنسيّة ننتج مجتمعا صحيّا".
الممرّات التي تظهر كـ"ثقوب" في قلب المدينة، بإمكانها أن تكون جزءً أصيلًا في النسيج العمراني، وشبكة موازية للمشاة. باستغلالها في إقامة مهرجانات فنية، أو حفلات الإفطار الجماعية، أو معارض كتب مصغّرة، أو صالة عرض مؤقّتة، أو متحف مفتوح، أو مسارات خضراء وأخرى للدرّجات.
يقترح نجاتي أن الميادين "شرايين المدينة"، بينما الممرّات الضيّقة هي "أوعيتها الدمويّة"، فممراتها هي بمثابة "مساحات تفاوضية بين العام والخاص"، وهي بذلك "تجسيدٌ حيّ وغير مفتعل للتعايش والتسامح. فالمقهى جوار البار، وإلى جوارهما مسجد".
العشوائيات كاقتصاد إبداعي
لماذا القاهرة؟ ولماذا وسط البلد؟ يوجه "مدن إبداعية" الانتباه للقاهرة، وبالأخصّ لوسط البلد، لأن المنطقة "واجهة"، تستقبل كل التحوّلات السياسية والعُمرانية بإيقاع مُتسارع ومُستمر. ساكنو وسط البلد، في وجه هذه التغييرات العاصفة في النسيج الاجتماعي والثقافي، هم كقطع البازل، أو مكعبات اللوجيكو، يتحرّكون بمقدار وطريق مرسوم مُسبقا. وقليلة هي المبادرات التي تتجه نحو السكّان وأصحاب المحلاّت والباعة الجائلين، وتتيح إشراك آرائهم في التحوّلات التي تطرأ على أحيائهم.
ورداً على ذلك، دعت مبادرة "مدن إبداعية" الأطراف المعنية من حكومة محلية، ومنظمات حقوق الإنسان، وشركات التطوير العقاري الخاصة والقطاع الثقافي المستقل بالإضافة إلى معماريين، وعمرانيين، مصريين وغير مصريين، لتداول أسئلة عدّة عن ماهية الدور الذي يُمكن أن يلعبه الفنانون كمحفزين عمرانيين، وعن تأثير السياسات الثقافية في تطوير منطقة وسط البلد.
القاهرة وعواصم العالم
فكرة المشروع تتكئ على ما تم إنجازه على صعيد مُشابه في عواصم عالمية، وتتّخذه كمرجعيّة، وهو الاتجاه نحو الاقتصاد ما بعد الصناعي، في ضوء ذلك، كيف يُمكن التفكير في ربط "القاهرة" بالمُنجز الحضاري الاقتصادي العمراني في العالم، وفي نفس الوقت المحافظة على كل ما تحمله منطقة وسط البلد من خصوصية شديدة؟ في الرد على هذا التساؤل، يشير عُمر نجاتي إلى أن القاهرة تمتلك إمكانيات واسعة للتطبيق والتجريب، بما يُتيح لـ"كلستر" اختبار بعض مشروعاتها العمرانية، من خلال تطبيق عمليّ.
يشرح نجاتي بأن القاهرة مُكتظّة بالعمران غير الرسمي، ما جرى وصفه بـ"العشوائيّات". لكن هي من وجهة نظره، تمثّل التطبيق الأمثل والطبيعي لـ"الحلول المبتكرة". تقترح "مدن إبداعية" من بين ما تقترحه إعادة صياغة "العمران غير الرسمي" كجزء أصيل من مفهوم المدن الإبداعية، حيث يقوم الأفراد والمجموعات بإيجاد حلول لمشاكلهم اليومية في غياب التخطيط الرسمي.
في الوقت الذي اتجه الغرب، للفن والثقافة والميديا كوسائل تُقاوم التحوّلات الاقتصادية الضاغطة، واستغلالها لإنعاش الاقتصاديات العُمرانية. تتجه الأفكار المشابهة في مصر، كأحد بلدان العالم النامي، في نفس الاتجاه ولكن "بنظرة مختلفة"، وصبغة من الخصوصية. ومن هنا تأتي أهمية "الاعتراف بالممارسات العمرانية غير الرسمية، باعتبارها أنشطة اقتصادية موازية تتجاوز محدودية الإبداع المُعرّف بالمثقفين والفنانين فقط".
مع الاهتمام التقليدي بالتراث والقيمة المادية للمكان، يلعب المجتمع المدني دوراً في التنوع وحماية الفضاءات التشاركية
يستثمر مشروع "مدن إبداعية" تمثيلات القاهرة في الفضاء الأدبي، حيث كانت "البطل" في أعمال أدبية عديدة
من خبرة العمل في مشروعات تصميمية في وسط البلد خلال السنوات الخمس الماضية، تطمح مجموعة "كلستر" لصياغة إطار تشاركي يأخد صورة "مجلس أمناء وسط البلد"، تحت مظلّة المُحافظة والمؤسسات الرسمية. يسمح بتمثيل أصحاب المحلاّت، والباعة الجائلين، وممثلي الساحات الفنية والمثقفين. وهي مبادرة شبيهة بتلك التي لجأت لها مؤخرا رئاسة الوزراء في مصر. لكنها لم تُفعَّل بشكل كامل.
سرديّات القاهرة.. خراب وأمل
في كتابها /الموسوعة "أطلس القاهرة الأدبي" 2012، رصدت الدكتورة سامية محرز، مدير وحدة دراسات الترجمة بالجامعة الأميركية بالقاهرة، تمثيلات القاهرة كمدينة في الفضاء الأدبي، مستلهمة من مقولة المفكر رولان بارت بأن "المدينة خطاب ولغة". ولمّا كانت سرديات القاهرة والأعمال الأدبية التي أرّخت للمكان جزءاً من أعمال "مدن إبداعية"، شاركت محرز في فعاليات المؤتمر/المبادرة.
ترى د. محرز أن الكتّاب الذين يأتون إلى تمثيل المدينة في الأدب هم معماريو تاريخها. وبامتثال التيّار الواقعي؛ احتفظت القاهرة بنصيب الأسد في التمثيل الأدبي في القرن العشرين، وأصبحت "شخصية رئيسية"، وأحيانا كثيرة "البطل" في العمل.
"لقد جرى امتصاص المدينة" على حد تعبير أندريه ريمون، مؤرّخ القاهرة المعروف. وما حاولت محرز فعله بـ"أطلسها" هو "إعادة البناء". وتقديم "طوبوغرافية أدبية لتاريخ المدينة الاجتماعي والثقافي والسياسي من خلال مائة عمل لكتّاب مصريين وعرب ساهموا في 'توضيح مشهد المدينة'". اختارت من بينهم إحسان عبد القدوس، إدوارد سعيد، رضوى عاشور، أهداف سويف، مكاوي سعيد، محمود الورداني وأحمد العايدي.
تخلص محرز، إلى أن القاهرة تشكّلت أدبيا كـ"نسيج عنكبوتي"، يشمل ما هو واقعي وما هو متخيّل. فالمدينة كأماكن واقعيّة مثلا عند نجيب محفوظ؛ جرى تصويرها بوعي مع شوارع وأماكن لا وجود لها إلاّ في مخيّلة الكاتب.
اليوم، وبعد عقود، خلف محفوظ جيلٌ من الكتّاب، كتبوا أعمالا لم يشملها "أطلس القاهرة": أعمالٌ رأت في "المدينة" صورة مصغّرة من "جحيم" لن ينته إلّا باندثارها، وتخطيطها من جديد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 5 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.
mohamed amr -
منذ اسبوعينمقالة جميلة أوي