يقول البعض إن 70% من التواصل بين البشر يتمّ عبر الجسد، فماذا لو كان الجسَد هو الكتاب المفتوح الذي نكتُب عليه حكايتنا ليُذكّرنا دائماً بمن نكون ويُعرّف عن هُويّتنا من دون تنميق؟ وإن كان علم الاتصال يُرشدُ المرء إلى أساليب التواصل عبر حركاتِ جسدِه، فإنّ أحمَد لم يكتفِ بذلك بل استخدم جسدَه منصّة تعبير. قصة نكبة مستمرة تسردها ثمانية وشومٍ، ولاجئ لا يكفّ عن الإيمان بحق عودته إلى فلسطين.
على ذراعه الأيسر الأقرب إلى قلبه، حفر أحمد رمزاً يحمل عدداً من الأرقام والأحرف التي لن يفهم أحد معناها للوهلة الأولى، ولطالما قاد الفضوليين لسؤاله عن معنى هذا الرمز تحديداً بين وشوم كثيرة حفرها على مناطق مختلفة من جسده.
"32.92778°N 3509972°E" ليس مجرد وشم عادي، إنه هويّة أحمد التي يفضّل أن يعرّف بها عن نفسه كُلّما سُئل عن المعنى، فلا يكفي اللاجئ الفلسطيني الذي عاش طويلاً بعيداً عن بلاده في المنفى ومخيّمات الشتات أن يقول "أنا لاجئ فلسطيني"، لأنه سيشعر دائماً بثقل الرسالة التي يحملها عن شعبه بأكمله، وسيُلزم نفسه بمسؤولية إيصالها من خلال سردِ الحكاية كاملة على الغرباء، وإن لم يفعل فسيشعر كمن ينتقص من حق عودته إلى الوطن.
لاجئ فلسطيني وُلد في مخيم برج البراجنة في بيروت يسرد النكبة الفلسطينية بثمانية وشوم على جسده.
النكبة الفلسطينية وراء عيد ميلاده المؤجل، ووشومه الثمانية وثيقته الخاصة باللاجئين الفلسطينيين في بيروت.
يُقاوم.. بجسده
أحمد لاجئ فلسطيني يبلغ من العمر 26 عاماً، يعيش في لبنان متنقلاً بين بيروت حيث عمله وسكنه، مخيم برج البراجنة حيث ولد ووادي الزينة جنوب لبنان حيث منزل عائلته وذكرياته التي يُحب. يعملُ محاسباً بدوامٍ كامل لكنّه في الوقت نفسه مثقّف يعرفُ عن فلسطين تاريخها كله من الماضي حتى صباح كُل يوم تُشرق فيه الشمس فوق خارطتها، ولا يوحي شكله بذلك للبعض لكثرة الوشوم على جسده، بالإضافة إلى لحيته التي يندرُ أن يُشذّبها، وأصدقائه المختلف كل واحد منهم عن الآخر والدراجة النارية التي يقودها يومياً إلى عمله.
لكنّه على الرغم من التناقضات في شخصيّته والتي تراود من يقابله للوهلة الأولى، لتشعره أن هذا الشخص عبارة عن مجموعة أشخاص متناقضين يتعاركون في ساحة ضيّقة مساحتها جسدُ أحمد، فإنه في كل مرة يتعرّف فيها على شخص جديد يُبطل قول غولدا مائير عام 1948 "الكبار يموتون، والصغار ينسون"، فمن يسأله عن "32.92778°N 3509972°E" الموشوم على ذراعه الأيسر، يجيبه أنه إحداثيات موقع مدينة عكا الفلسطينية، وتقع قرية أجداده "كويكات" على بعد تسعة كيلومترات شمال شرقها، وقد هُجّروا منها في العام نفسه الذي قالت فيه مائير أكذوبتها.
"عكا" ليست الوشم الوحيد على جسد أحمد، فهو يحمل سبعة آخرى تعرّف عن هويّته وكأنه يستبدل بها وثيقة البطاقة الخاصة باللاجئين الفلسطينيين الذين يحملونها في لبنان لتقف عائقاً بينهم وبين غالبية حقوقِهم الإنسانية في عيش حياة كريمة خارج وطنهم، فعلى ذراعه رسم أيضاً خارطة فلسطين تجمع بين ملثّمين يحملون الأعلام وآخرين يجرّون عجلات السيارات لإحراقها كأنهم في تظاهرة حيّة تشتعل على خط التماس ضد قوّات الاحتلال الإسرائيلي، بينما يذكّره الوشم الثاني أسفل عنقه بأن يقاوم كلّ الظروف الصعبة التي يمرّ بها، وهو مقولة للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، هي: "قف على ناصية الحلم وقاتل"، لكن المثير للجدل هو رمز "95 Km" الذي حفره أسفل رمز إحداثيات موقع قريته المهجّرة، لتجد فيه تاريخاً طويلاً لقصّة أول جمهورية فلسطينية رمزية، إذ يدل إلى عملية "كمال عدوان" التي قادتها الفدائية الفلسطينية دلال المغربي وهي في عمر العشرين مع فرقة دير ياسين المكونة من 12 فدائياً، إذ قال فيها الشاعر الراحل نزار قباني: "إن دلال أقامت الجمهورية الفلسطينية ورفعت العلم الفلسطيني، ليس المهم كم عمر هذه الجمهورية، المهم أن العلم الفلسطيني ارتفع في عمق الأرض المحتلة على طريق طوله 95 كيلومتراً في الخط الرئيسي في فلسطين"، بالإضافة إلى جملة "يرحلون ونبقى" للشاعر نبيل أبو عبدو، التي تؤكد أحقية كل شعوب العالم الحرة في أرضها، ويحمل جسد أحمد ثلاثة رموز أخرى إثنان منها يمثلان توقيع والديه والثالث هو اسم أخيه الوحيد "محيي".
عيد ميلادٍ مُؤجّل
عاماً بعد عام يكبر أحمد بالمنفى، وتكبر فلسطين رغم كل الانقسامات الجغرافية والسياسية، ورغم الاحتلال والأحزاب المتقاتلة فيها لأجل سيادة على دُويلة غير معترف بها بشكل كامل دولياً، وفي تاريخ الخامس عشر من أيار في كل عام، يحتفي العالم بذكرى جديدة للنكبة الفلسطينية والقصة الطويلة للجوء الفلسطيني، ويتذكّر أحمد في التاريخ نفسه أنه وُلد في هذا اليوم، فيشعر أكثر فأكثر بمسؤوليته في أن يحكي مرة تلو الأخرى للعالم أجمع عن قضيّة بلاده التي لا تنتهي.
يقول أحمد: "لا يمكنني الاحتفال بذكرى مولدي كل عام، لأنه يوافق تاريخ نكبة شعبي ونكبتي"، وهكذا مرّة أخرى يعيد سرد قصة الشعب الفلسطيني بجملة صغيرة تحمل أعواماً طويلة من اللجوء والتهجير المستمر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومينحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 3 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين