صدر حديثاً عن دار رمال القبرصيّة، للمنشورات العربيّة، كتاب "محروسة". كتاب كرتوني، كبير نسبياً، بقياس 25 × 25 يجمع بمهنيّةٍ مبدعةٍ الشعبيَّ مع الأنيق، وشيئاً من التوثيق لشاحنات النقل، بين دفّتي ما يصلح لأن يزيّن طاولة واطئة في غرفة صالون أو بهو أوتيل.
يرتبط العنوان برسم على الغلاف لعين أنثوية جذّابة، تلمع بزُرقة فيروزيّة، لون الرقية في رمزياتنا، كذلك بالصورة على ظهره لشاحنة آفلة، تُعلن النهاية، مع مُقلتين مرفقتين بعبارتي: "ابعد عنّي عيونك / طقّ - دوب". مع العلم أننا عادةً ما نقول: "طقّ، موت" لا "دوب"، لكن يبدو أن الصيغة مُلطّفة هنا، لبعضٍ من "محبّة" بين زملاء - رفاق خطوط، ولنيّة تبقى "طيبة" تجاه الآخرين، وإن شابها شيء من الحذر أحياناً.
"محروسة" إذن عبارة مشفّرة، مكثّفة، مسكوبة داخل كلمة واحدة، تعني، ضمن سياقها: محروسة هي شاحناتنا من الحُسّاد الذين معنا في المهنة أو العابرين، فـ"الشوفيريّة" هم بالنهاية أبناء بيئةٍ تؤمن بالفلسفة الماورائيّة لـ"صيبة" العين وتحتمي بالتمائم من شرّها. هم يعيشون حياة محفوفة بالأخطار، يقضون جلّها بالقيادة في الليالي، على سبلٍ قاسيةٍ تفتقر إلى أدنى شروط السلامة والأمن أيضاً، في ظلّ حروب لا تنتهي عند الحدود.
"محروسة" شاحناتنا من الحُسّاد، "يخزي العين - الحسود لا يسود" و"بالشكر تدوم النعم - الاستقامة عين الكرامة": التمائم التي تحمي الشوفيرية من حسد العين، فمن غيرها رفيقهم الدائم في ترحالهم؟
يحملون أرزاقاً وُضعت أمانةً في أعناقهم، ويسيرون. هكذا، بالرغم من أن هذه حقائق ملموسة، وربما لأنهم ينتمون إلى الطبقة الأقلِّ حظّاً في المُلْك والثروة، نلتمس بينهم اعتقاداً بأن أيّ مكروه قد يقع عليهم مردّه لا محالة إلى "عين ضيّقة"، "فارغة"، مُسلّطة على خيرهم ولا تتمنّاه لهم.
تصميم علي الشوّا، على بساطته، مدروس، ينفتح (وينغلق) على كولاج بانورامي لتفاصيل من لقطات لصاحبة العمل ككلّ، فلك الشوّا. ثم تبدأ السيّدة الشابة، وتأخذنا معها، في رحلة دامت أربع سنوات متواصلة، رافقها خلالها سائقها حسام حمود. تروي في المقدّمة كيف أن مسافة 61 ألف كلم جعلته شريكاً أساسيّاً بالإنجاز، وحوّلتهما، من علاقتهما الصامتة، إلى متفاعلين حيويين يجريان خلف نفس الحلم - المشروع.
"فلك" الآتية من خلفيّة التصوير الضوئي مع المنظّمات والجمعيّات الحقوقيّة، العالميّة والمحليّة، تعيش شغلها اليومي بإحساسٍ عالٍ وشغفٍ لا ينضب، ليغدو منتوجها النهائي أكثر من مجرّد وثيقة للحفظ، بل يتبلور على شكل إبداعٍ فني، يمتّع العيون ويتلقّف العقلُ الباطن رسائلَه غير المُعلنة. لذلك، نرى أعمالها قُدّمت في معارض عواصم مرموقة تولي اهتماماً بارزاً بالفنون البصريّة، مثل: لندن، نيويورك، سان فرانسيسكو، تورنتو، دبي وبالتأكيد: بيروت. ثم ها هي تضع بين أيدينا، الآن: "محروسة"!
على ورق نصف لمّاع، تتوزع صور تتراوح بين صغيرةٍ جدّاً وكبيرة، تمتدّ على صفحتين متقابلتين، للمركبات الثقيلة التي نألفها وتشكّل جزءاً من ثقافتنا الشعبيّة والجمعيّة: إذ لا يمكن إلا وأن تكون قد استهوتنا، ولو مرّة على الأقل، قراءة العبارات المخطوطة عليها، أثناء الوقوف خلفها في عجقة السير مثلًا. إن المُؤلِّفة، ومن خلال طريقة وضعها لمؤلَّفها، هي كمن يؤرشف الكميونات من الماضي (ما بتذكر شفت خط رسم على الكميونات قبل 1977" - إليا جاركازي، سائق كميون من سنة 1975) وفي حينها إلى الزمن الآتي، هذا بعفوية لغة العالم الذي شاءت أن تخترقه، دون تعقيدٍ ولا ادّعاء زائد: إنها تعيد تدوين العبارات التي تحملها تحتها، بالعامية البسيطة، مرفقةً بترجمتها إلى الإنكليزيّة.
بالنتيجة، يغدو لسان مخاطبة القارئ / القارئة متجانساً مع مضمونه، كما يصنع إضافةً ملفتةً إلى الإصدارات بالمحكيّة، حيث باتت تعبّر، وإن بخجلٍ، عن بدايات أدب شبابي جديد، وإضافةٍ إلى فنون الشارع عموماً، لا سيما مع نموِّ الغرافيتي بشكلٍ ملفتٍ في المدينة وضواحيها، ولمعان أسماء صنعت جداريات أيقونيّة، أبرزها "صبوحة" يزن حلواني ترمق فوق حمرا من علٍ، وأعمال جاد الخوري على خطوط تماس الحرب السابقة، ومجموعة "أشكمان" في الأشرفية خاصّةً.
وراء كل هذه الحركة مُحرّك واحد اسمه "يونس الخطاط" ومعروف بـ "علي". لقد خصّصت "فلك" للمقابلة معه ملزمة كاملة، جعلتها مختلفة عن باقي الكتاب باستعمال الورق الناشف، مع خلفيّات مطبعة بنمطيات الـ Pop Art. يروي الرسّام أنه طُلب حتى الآن أكثر من 1500 مرّة لبّاها بلا تردد. سِرّه ريشته التي تجعل كلّ مخطوطة فريدة من نوعها واستثنائيّة، فمصلحته لم يدخلها الكومبيوتر بعد، ولا يريد لها ذلك أبداً.
أمّا للختام، وفي محاولة لنقل جانب فقط من روح هذا الكتاب النابض بالحيويّة، يمكن تقسيم "معلّقات" الكميونات حسب مواضيع عدّة، منها: الحبّ والغزل، مثل: "دلّوعة حمودي - عروسة الربيع" تؤنسن الكميون وتؤنثه فيصير كأنه امرأة مغناج، أمثال شعبيّة: "وبالشكر تدوم النعم - الاستقامة عين الكرامة" هي من صلب ثقافتهم وتحدّد بلا شكّ سلوكيّاتهم. طبعاً العبارات الرادّة للغيرة: "يخزي العين - الحسود لا يسود" وأغاني الكبار: "حمامة بيضة - نظرات العالم لا تطمّن" فمن غيرها رفيقهم الدائم في ترحالهم؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 15 ساعةرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.