يحكي الكاتب عباس الطرابيلي، في كتابه "شوارع لها تاريخ"، عن شارع في القاهرة، يبلغ طوله نحو 4800 متر، هو شارع المعز لدين الله الفاطمي، أو شارع "المعز" كما يعرف الآن، والذي أطلق عليه الرحّالة والمؤرخون "الشارع الأعظم".
يعتبر شارع المعز متحفاً معمارياً حيًاً، لا تمر منه إلا وأنت تنظر على جانبيك، لتسرّ عينيك بما يوجد في هذا المكان الاستثنائي، إذ إنه يحتوي على عدد مذهل من الآثار الإسلامية، التي توثّق تاريخ العصر الحضاري الإسلامي في أبهى صوره، فكأنه كما وصف في منشور لمحمد فتحي بأنه "أكبر متحف مفتوح في العالم".
عندما دخل القائد الفاطمي جوهر الصقلي مصر، قرر أن ينشئ مدينة وجامعاً، ليحكم منها الفاطميون مصر، فبنى الجامع الأزهر، وجوهر مدينة "القاهرة"، التي أصبحت بعد ذلك عاصمةً للدولة الفاطمية. بنى جوهر سورين، سوراً شمالياً، وآخر جنوبياً، وجعل في الشمالي بابين، وأسماهما باب النصر، وباب الفتوح، وجعل فى السور الجنوبي بابين كذلك، أسماهما بابا زويلة، وجعل من باب الفتوح (الموجود في السور الشمالي) وباب زويلة (الموجود في السور الجنوبي) شارعاً. وعلى الجانب الشرقي من الشارع، بنى قصراً للخليفة، وهو القصر الشرقي الكبير، ليقيم فيه المعز لدين الله الفاطمي، وأطلق على هذا الشارع "بين السورين"، إلى أن عرف بعد ذلك بـ"شارع القاهرة" أو "الشارع الأعظم".
يضم شارع المعز نحو 26 معلَماً سياحياً، تعود بعضها إلى نشأة الشارع، وازدهار الحضارة الإسلامية، والمعالم هي: باب زويلة، مجمع السيدة البيضاء، مسجد المؤيد شيخ، بيت الشبشيري، سبيل محمد علي بالعقادين، مسجد الفكهاني، مجموعة الغوري، مسجد الشيخ مطهر، مسجد ومدرسة الأشرف برسباي، سبيل وكتاب خسرو باشا، مجمع قلاوون، مسجد ومدرسة الظاهر برقوق، المدرسة الكاملية، بيت عثمان كتخدا، حمام السلطان إينال، قصر الأمير بشتاك، سبيل وكتاب عبد الرحمن كتخدا، مسجد حسن كتخدا الشعراوي، مسجد الأقمر، بيت السحيمي، بيت مصطفى جعفر السلحدار، مسجد وكتاب سليمان أغا السلحدار، زاوية الخير الكليباتي، مسجد الحاكم بأمر الله، وكالة قايتباي، باب الفتوح.
شارع لكل العصور
يقول الكاتب عباس الطرابيلي، إن الشارع الأعظم –المُعِز حالياً- شهد العديد من البصمات التاريخية للعصور التى عاشتها مصر الإسلامية القديمة، بدءاً من عصر الدولة الفاطمية، ومروراً بالعصور الأيوبية والمماليك البحرية، والمماليك الشركس (أو البرجية)، وصولاً إلى العصر العثماني.شارع واحد يحتضن آثار العهد الفاطمي والأيوبي والمماليك والعثمانيين
شهد العصر الفاطمي نشأة هذا الشارع العريق، وترك العديد من البصمات الأثرية، حيث بنى فيه الصقلي أول معالم هذا الشارع، بعد بناء السورين الشمالي والجنوبي والأبواب التي حددت هذه الأسوار، وهو القصر الشرقي الكبير، الذي سيقطن فيه المعز لدين الله، وبعد ذلك، أُنشئ القصر الغربي، الذي كان أصغر من الشرقي، ليقطن فيه العزيز بن المعز لدين الله، بعد توليه الحكم، والجزء الواقع بين القصر الغربي والشرقي من الشارع الأعظم، سُمّي بعد ذلك "بين القصرين".
ينقلنا عصر الفاطميين إلى عصر آخر، وهو العصر الأيوبي، الذي انشغل بالفتوحات والحروب وردّ الغزاة، والجهاد. ورُغم قِصَر مُدة هذا العصر، أو هذه الدولة، والتي لم تتجاوز 80 عاماً، وانشغالها بالحروب والفتوحات، فإنها تركت فنّاً معمارياً مزدهراً، له خصائصه وسماته التي تميزه عن جميع الفنون، إذ إن أهم ما يميز هذا العصر، هو ظهور القباب، وأبرزها قبة الصالح نجم الدين أيوب، وظهور المدارس، وأبرزها في شارع المُعِز، هي المدرسة الكاملية، التي أنشأها الملك الكامل محمد بن العادل الأيوبي، لدراسة الحديث.
يسلمنا العصر الأيوبي القصير، إلى عصر آخر، امتد نحو 132 عاماً، هو عصر المماليك البحرية، ويُعد –وفقاً للكاتب عباس الطرابيلي– العصر الذهبي لشارع المعز، بعد أن أصبح محطة معمارية حيًة، يتنافس الملوك والسلاطين في تشييد المباني المعمارية الإسلامية فيها، كما نضجت في ذلك العصر بعض الصناعات وظهرت بعض الصناعات الجديدة، والتي تنتمي إلى الحضارة المعمارية الإسلامية.
وكما يقول الكاتب حسن عبد الوهاب، في كتابه "تاريخ المساجد الأثرية" (الذي نشر في مجلدين عام 1993)، إن هذا العصر، عصر المماليك البحرية، شهد تحسناً واضحاً في أعمال الخشب، كما "ظهرت صناعة تكوين الجصّ المنقوش، وتطعيم الخشب بالنحاس، وأيضا انتشرت الحمامات والثريات (النجف) النحاسية، كما يتضح في مدرسة الظاهر ومدرسة وبيمارستان وقبة السلطان قلاوون، وأعمال ابنه في هذا الشارع الأعظم".
وتنقلنا آثار شارع المعز إلى النصف الآخر من عصر المماليك، وهو عصر المماليك الجراكسة، الذى امتد نحو 134 عاماً، الذي شهد أيضاً بعض الإضافات على فن العمارة الإسلامية، حيث اكتملت فيه الزخرفة الإسلامية وظهرت في أبهى صورها.
وضع هذا العصر بصمات مميزة في هذه الشارع، كان من أبرزها مدرسة ومسجد وخانقاه السلطان الظاهر برقوق، وجامع السلطان المؤيد، ومسجد ومنزل ومقعد وسبيل وكتاب السلطان الغوري، التي أُنشِئت قبل الغزو العثماني على مصر بنحو 13 عاماً.
أما آخر عصر شهد له شارعُ المعز بصمةً تاريخيةً، هو عصر الدولة العثمانية، التي دامت لفترة قاربت الـ4 قرون، وشارك العثمانيون في بناء وتشييد العمارة في شارع المعز بمَعلم وحيد، هو التكية التي أقامها سليمان باشا في السروجية، ومن هنا، لم يجد المتعاقبون على حكم مصر مكاناً يضعون فيه أثراً أو معلماً في هذا الشارع العظيم، الذي يوثّق أهم نماذج الحضارة المصرية الإسلامية عبر العصور.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...