شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
الحكي عن اكتئابنا على

الحكي عن اكتئابنا على "فيس بوك" أو لذَّة البوح التي لا تُقاوَم

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

السبت 4 مايو 201906:17 م

لوسائل التواصل الاجتماعي نصيب الأسد من حياتنا، عبرها نُظهر أنفسنا للعالم، نتفاعل مع أصدقائنا، نبحث عن شركاء حياتنا، ونحكي همومنا، فأين يأخذنا الحكي عبرها عن أمراضنا النفسية التي قد تصل إلى الرغبة في ترك الحياة؟ إلى أيّ مدى قد تفيد المُكاشفة متابعينا وأصدقائنا الافتراضيين؟

هل يساعدنا نشر تجاربنا الاكتئابية، ويساعد متابعينا أم يُلقي بنا الى التهلكة؟

في مارس الماضي نشر الطالب الجامعي عمرو ياسر، 23 عامًا من القاهرة، تغريدة على موقع التدوينات القصيرة "تويتر"، يخبر فيها متابعيه بمرور عام على محاولة انتحاره، وكيف سانده المقرَّبون لتجاوز الأمر.

يحكي عمرو لرصيف 22: “حين كتبتُ التغريدة كنتُ في وضع نفسي سيء، يُماثل الوضع ذاته الذي حاولت الانتحار فيه، لكنّي لم أُشر إلى ذلك تَجنّبًا للضغط، و كي لا أُقلق من حولي”.

لم يُفكّر عمرو قبل كتابة التغريدة، كانت طريقته لتجاوز الأفكار الانتحارية في عقله، يقول: “كانت الأفكار تسحق عقلي، ولم أستطع تجاهلها بالطرق المعتادة، فجرَّبتُ هذه الطريقة لأوَّل مرة، وبالفعل شعرت بارتياح مؤقت".

بالنسبة إلى الشاب الجامعي عمرو كانت مشاركة اكتئابه على السَّوشيال ميديا طريقته الخاصَّة لتجاوز الأفكار الانتحارية، وشعر بعدها بارتياح.

لحسن حظ عمرو كانت التعليقات داعمة بشكل كبير، يُكمل: "تفاعل الناس والدَّعم الذي قدَّموه لي كان لطيفًا، أن تعرف أنَّ هناك من يمرّ بالمشاعر التي تَمُرّ بها، واستطاع النجاة بشكل أو بآخر يجعلك بخير"، لكن أكثر ما أزعجه هو تعليق من أحد متابعيه بأنَّه لا يجب عليه الحديث عن الأمر "أون لاين"، إذ ليس من الضروري بأن يعرف متابعيه ما يمرّ به في حياته الخاصَّة.

يقول عمرو: "كان تعليقًا غير مُتوقَّع لأنَّه أتى من صديقة مُقرَّبة تعرفني تمام المعرفة، وتعرف ما أمرّ به، وهي أيضًا تشارك على صفحتها أغلب الوقت محتوى سوداوي ساخر".

بحسب عمرو فإنَّ ما يعتبره "وصمة مجتمعية" عبر وسائل التواصل الاجتماعي تتمثَّل في اتهامه بطلب الاهتمام، أو ما يُعرَف بـ"attention whoring"، لم يصرحّ أحد به في وجهه، ولكنه يعلم أنَّه احتمال يدور في عقول الأخرين.

ويشير عمرو إلى أنَّ السوشيال ميديا تُعتبر المُتنفَّس الوحيد لمن لا يتمكَّنون من دفع فواتير العيادات النفسية، يقول: "هناك من هم أقل حظًا مني، لم يجدوا حولهم من يَتَقَبَّلهم سوى على الواقع الافتراضي، وهي ضرورة لهم إذ لا توجد حتى رفاهية التواصل مع الطبيب والمعالج النفسي".

السوشيال ميديا تعتبر المتنفس الوحيد لمن لا يتمكَّنون من دفع فواتير العيادات النفسية، يقول: "هناك من هم أقل حظًا مني، لم يجدوا حولهم من يتقبلهم سوى على الواقع الافتراضي

ويعتبر عمرو الحكي عبر وسائل التواصل الاجتماعي وسيلة من وسائل مقاومة الظروف السيئة التي يعيشها أهل الحي أو البلد ذاته، يقول: "نحن مجموعة من البشر، وجدنا أنفسنا في مكان لم نختره، نُعاني لأنَّنا لا نستطيع تركه بسبب وجود من نحب، نشارك على السوشيال ميديا حتى ندعم بعضنا البعض، وهذا هو الشيء الوحيد الذي في استطاعتنا، الدعم الصغير هو ما يدفعنا للمقاومة".

"احكوا عن مشاكلكم فنحن نستحق السعادة"

منذ عامين بدأت حبيبة عبدالعال، 29 عامًا، الكتابة عن رحلتها مع الاكتئاب لكنها كانت تخشى في البداية نشر أفكارها عبر السوشيال ميديا.

تقول حبيبة لرصيف 22: "كنتُ خائفة من رأي الناس وحديثهم، أو أن يستهزأ أحدهم بوجعي، ويزيد منه".

لكن خلال هذه الفترة؛ زاد اهتمام حبيبة بالتصوير الفوتوغرافي، والتحقت بدورة تعليمية لتتقنه، في نهايتها احتاجت موضوعًا للمشروع الأخير، فقررت أن يكون عن رحلة علاجها من الاكتئاب.

لخَّصت حبيبة رحلة مرضها وعلاجها في ثماني صور، تحكي خلالها معاناة أربع سنوات من حياتها، ظهور مشكلات مُشابهة للمُقرَّبين منها كان سببًا لنشر مشروعها على الفيس بوك، تُكمل: "حكى لي كثير من المقربين من دوائري الاجتماعية، عن معاناتهم مع الاكتئاب، لكنَّهم يخافون من الحكي حتى لا يُوصَمون بطلب الاهتمام وبالضعف، يخافون من زيارة الطبيب حتى لا يُتَّهمون بالجنون، وأغلبهم لم يكن على علم بأنَّني أتعالج منذ أكثر من سنتين، وأمرّ بأغلب ما يحكون عنه، هنا قررتُ الحكي، لعلَّه يغير من تفكير الناس حول المرض باعتباره عيباً".

يرى المُقرَّبون من حبيبة، أنَّها شخصية قوية تتحدّى وتتغلَّب على الصعوبات التي تواجهها، لكنهم مثلما تصف كانوا يرون وجهًا واحدًا للقصَّة، شعرت حبيبة أنَّها من واجبها كشف الوجه الآخر، والتأكيد على أن التعب والمرض ليس ضعفًا، تضيف :"تُوفِّي أهم شخص في حياتي بسبب الاكتئاب، فقررتُ الحديث عن الأمر حتَّى لا يتكرَّر مع شخص قريب مني مجددًا".

تفاوتت ردود فعل العائلة والاصدقاء لحكي حبيبة، تحدثت مع شقيقتها حول الأمر أولًا، والتي دعمتها بكل ما تسطيع، تقول: "تفاجأ أبي وسألني عن سبب كتماني للأمر، تفهّم أصدقائي واعتذروا أنهم لم يكونوا بجواري"،

وعلى غرار ما حدث لعمرو، هناك من ألقى باللوم على حبيبة لنشر تفاصيل رحلتها العلاجية ومشاعرها، تضيف: "بعض المقربين لي لم يتفهموا الأمر، بل لاموني وطالبوني بالحكي لهم عوضًا عن الحكي على الملأ".

تتفهَّم حبيبة قلقهم، فنسبة الوعي بالأمراض النفسية والعقلية قليلة، تُكمل: "أغلبهم يصنف المرض النفسي جنون، أو يسقطونه على التركيز مع الذات زيادة عن اللزوم مثلما يقال في مصر".

حتى الآن حبيبة ليست مُتأكِّدة من صحَّة ما فعلت، ورغم تشجيع طبيبها النفسي لنشر مشروعها إلَّا أنَّه كان يخشى عليها من ردّ فعل الناس، هي أيضًا كانت تُغلق حسابها على الفيس بوك عدة أيام بعد نشر كل صورة، تتجنَّب معرفة تفاعل من حولها مع ما نشرت، يعود السبب في ذلك إلى صعوبة المُكاشَفَة، تقول: "ليس سهلًا أن تُعري نفسك بهذا الشكل، وأن تخبر الجميع أنك ضعيف، وتحكي عن مشاكلك الشخصية بصراحة، فكلنا نحب الظهور بالقوة".

رغم كلّ شيء، تمتنّ حبيبة للتجربة التي مرت بها ومشاركتها لمن حولها، تضيف : "شعرتُ بالسعادة أنني أقدمت على هذا الأمر لنفسي، حررتها من هذا الضغط الذي نضع نفسنا فيه نحن والمجتمع، فأنا لست كاملة لديّ مشاكلي، ولا يجب أن أكون قويّة ومُتاحة طيلة الوقت".

"ليس سهلًا أن تُعري نفسك بهذا الشكل، وأن تخبر الجميع أنك ضعيف، وتحكي عن مشاكلك الشخصية بصراحة، فكلنا نحب الظهور بالقوة".

تُعِدّ حبيبة رسالة ماجستير في التنمية ودراسات قضايا المرأة والنوع الاجتماعي، وأثر مشروعها المصور على من حولها، فبدأ البعض بالقراءة عن الكيفية المُثلى للتعامل مع مريض الاكتئاب، وآخرون أبدوا اهتمامًا حول ضرورة التوعية عن المرض النفسي، هؤلاء هم من شجَّعوها على الاستمرار، أيضًا، أضافت إلى المشروع؛ قائمة بأسماء وعناوين أطباء نفسيين موثوقين في القاهرة والمحافظات، لمن طلب منها المساعدة، وعرضت المشروع جامعة أوهايو في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تعيش حبيبة الآن.

مشاركة الاكتئاب راحة وعلاج ولكن..

يتتبع كتاب "The Stigma of Mental Illness - End of the Story" الوصمة المجتمعية وبدايتها حول المرض النفسي، ويرصد بعض الطرق الناجحة لمقاومتها، واحدة منها هي مبادرة المنظمة الاسترالية Beyond Blue، غير الهادفة للربح والتي أسست عام 2000.

يشير مؤلفي الكتاب أنّ الحملات المُنظَّمة على وسائل التواصل الاجتماعي شجّعت على حكي التجارب الشخصية، مثل وسوم IamAnxiety# ، و SmashTheStigma#، وساهمت في رفع نسبة التعاطف والتفهّم حول المرض النفسي في أستراليا، وزادت نسبة الوعي حول الصورة النمطية لمرضى الاكتئاب واضطراب القلق، وأشعرت المتابعين بالتفاؤل حول فعالية العلاج، وأهمية المكاشفة للمقربين الذي يزيد من إمكانية وصولهم للعلاج والتواصل مع مختص.

وعلى الرغم من الراحة النفسية التي يشعر بها المريض بعد الحكي، ومقدار الوعي الذي يتزايد عند المُتلقِّين إلَّا أنَّ د. نبيل علي نصر، أخصَّائي الطب النفسي وعلاج الإدمان، يرفض نشر تجارب الانتحار وإيذاء النفس، أو التجارب الشخصية حول العلاج من الأمراض النفسية على الفضاء الالكتروني، دون إطار أو إشراف يحددها، ويضيف لرصيف 22: " قد تزيد المشاركة على وسائل التواصل الاجتماعي من تطوّر فكرة الانتحار عند بعض المتلقين، فقد يحفّز الحديث عنها لتصبح سلوكاً حقيقياً".

يشير نصر أيضًا إلى أنَّ المعالج النفسي هو من يقرّر متى يحكي المريض، دون استخدام أدوات دفاع نفسية حتى لا يغرق في الأمر، ويعيق رحلة علاجه أو تعافيه، يُفسّر نبيل ذلك: "عندما يستطيع المريض الحكي دون السخرية على سبيل المثال من مرضه أو ممَّا يشعر به، يكون مؤهلًا للحكي وهو ما يستطيع تحديده الطبيب فقط".

يعزو نصر رفضه للمُكاشفة عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى المُقارنات التي قد تحدث بين المرضى، أيضاً نصائح الأدوية التي يجب أن تكون تحت إشراف طبي، وتختلف أثارها الجانبية من شخص لآخر، كذلك، أثر التعليقات المسيئة على المريض قد تؤذيه بشكل كبير، ويرى نصر أن تجنبها يكون بعدم الحكي من الأساس.

يوجد أشخاص لديهم هوس المشاركة على وسائل التواصل الاجتماعي، يقول نصر، إلَّا أنّه حتى الطبيب لن يتمكَّن من التفرقة بينهم وبين غيرهم، يضيف نصر: "الكلام من وراء الشاشات يكون مرسلًا دون تعابير تُمكنّنا من التمييز"، لذا ينصح نصر المُتلقين بأن يكونوا أكثر وعيًا للتفاعل، يقول: "ببساطة لتقل خيرًا أو لتصمت".

تقليص الوصمة المجتمعية عبر الحكي عن التجارب الشخصية للعلاج له أبعاد عدة بحسب نصر، فسياق الحكي وسببه ومتلقيه يلعبون دورًا في أثره، فبدلًا من فتح دائرة التقبّل قد يقلصها، يضرب نصر مثلًا بالمجموعات الفيسبوكية الخاصة بمرض نفسي معين، لن ينضم لها سوى المرضى والمهتمين بالمرض ذاته، ينتفي هنا رفع الوصمة بغرض الحكي، بل يصبح الوضع خطيرًا، يشرح نصر: "يتشكل فجأة مجتمع صغير، يشعر أعضاؤه أنَّهم فقط من يشعرون ويتفهَّمون معاناة بعضهم وهذه إشارة سيئة، فنحن نعالج الناس ليعودوا مرة أخرى للمجتمع لا لينعزلوا عنه".

بعد انتهاء رحلة العلاج، قد يشعر المريض برغبة في توثيق رحلته، ومشاركة الآخرين بإجابات تساؤلاته القديمة، وكيف أصبح ما عليه الآن، يضيف نصر: "بعد استشارة الطبيب المعالج، يمكن للمريض الحكي بعد الشفاء والتعافي من التجربة، الذي يتبعه قبول تام لنفسه، ولِما مرَّ به".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image