ثلاثة أعوام أستغرقها الفنان ليوناردو دافنشي، لرسم لوحة العشاء الأخير للدير الدومينيكي سانتا ماريا ديلي غراتسي في ميلانو، كان ذلك بناءً على تكليفٍ من لودوفيكو سفورزا دوق ميلان. أختار دافنشي أكثر اللحظات توتّراً في عشاء الفصح الأخير بين المسيح وتلاميذه، حيث أعلن خلال العشاء أن هناك خيانةً قادمةً ستتمًّ على يد واحدٍ منهم، أظهر دافنشي التوتّر الإنساني بوضوحٍ في اللوحة في لقطةٍ حيّةٍ، من خلال ظهور الغضب والإنكار والتعجّب على ملامح التلاميذ، بينما تظهر على المسيح علامات الهدوء والاستسلام لمصيره، وحسب الرواية، في أناجيل الرُسُل متّى ويوحنا، فالخيانة تمّت بالفعل في هذه الليلة، على يد أحد التلاميذ، هو يهوذا الأسخريوطي، الذي سلّم المسيح لليهود ليقتلوه.
بحثتُ عن فكرة التضحية والخلاص، حاولت مناقشة مدرّس الدين حول الخلاص والتضحية لإرضاء الآخرين أو الإله نفسه، بأنها فكرة بشريّة نابعة من احتياجٍ إنساني.
كانت قصّة العشاء الأخير أو الفصح الأخير، بين المسيح وتلاميذه، بالنسبة لي كطفلةٍ تربّت في أسرةٍ مسيحيّةٍ مصريّة، من أغرب القصص التي تجسّد حدثاً جللاً مرتبطاً بالخيانة والحب والتضحية، كان لدي أسئلة وجوديّة عديدة، حول استسلام المسيح لتلك اللحظة وعدم فضح يهوذا مثلاً، أو إنقاذ نفسه وغفرانه لبطرس الرسول، أحد التلاميذ الذي أنكره أمام الناس ثلاث مرات. استسلام المسيح لطريقه بموجب التضحية من أجل خلاص البشريّة هي قضية المسيحيّة الأساسيّة، ولها التأثير الأكبر على الحياة اليوميّة للمسيحيين وتصرّفاتهم المرتبطة بالتعاليم الكنسيّة في التربية والمعرفة، حيث الأفكار التي تدور حول المحبّة حتى الموت والإخلاص الأبدي والشعور بالذنب الدائم أمام الله.
لماذا لا يعتبر عيد الفصح عطلةً رسميّةً في مصر؟
في طريقنا إلى البحث عن اليقين، لا يتيح لنا النظام المُحيط في معظم الدول العربيّة، من أسرة ومجتمع ودولة، اختبار الرحلة الذاتيّة بحريّةٍ نحو المعرفة، واكتشاف عوالم شائكة تخصّ المعتقد الديني تحديداً، إلا إذا كنت شخصاً محظوظاً ينتمي إلى عائلةٍ تحرّرت من تلك القيود. وفي مصر، رغم كل ما تحمله هذه الدولة من تاريخٍ طويلٍ يحوي آلاف الأعراق التي عاشت فيها عبر السنين، وتركت أثراً في كيان هذا المجتمع، إلا إننا حتى يومنا هذا، حيث العالم منذ سنوات طويلة يناقش فلسفة الحداثة وما بعدها، لا تستطيع كمواطنٍ حرٍّ أن تختار عقيدتك بحريةٍّ مثلاً، أو أن تتزوج من دينٍ مغايرٍ أو تعلن إلحادك دون تدخّل المجتمع والدولة، بل يتمُّ رفضك ومعاقبتك على تلك الأفعال غالباً، هذه الدوجما الدينيّة والاجتماعيّة تخلق حالةً من الانغلاق والجهل، وتُؤخّر كلّ ما قد يحدث من تطوّرٍ في حياة ورؤية الفرد، بعرقلة خطواته الذاتيّة نحو نفسه والآخر، من خلال الإرهاب أو السلطة أو خطاب الكراهية. هي بالفعل تعرقل التجربة، فعلى سبيل المثال، هناك نقاش يتكرّر كلّ عامٍ تقريباً، عاصرته منذ الطفولة، يدور حول: "لماذا لا يُعتبر عيد القيامة عطلةً رسميّةً في مصر؟"، رغم إنه من أهم الأعياد المسيحيّة، وتكتفي الدولة المصريّة باعتبار عيد الميلاد كعيدٍ رسمي فقط، والإجابة بسيطة جداً ومعتادة: لأن الإسلام كدينٍ لا يعترف بقيامة المسيح، ومصر دولة دينها الرسمي هو الإسلام، والعقل الجمعي المتحكّم في مسار هذا المجتمع، هو عقل إسلامي، أياً كانت درجة قربه أو بعده عن التشدّد. وهذه صورة بسيطة تُرجعنا إلى وهم الدوجما وهيمنة سطوة العقل الجمعي، دون طرح قواعد إنسانيّةٍ عامّةٍ تُتيح للجميع المساواة والحرية في الحقوق.
النقاش الذي دار مع مدرّس مادة التربية الدينيّة
عندما كنت طالبة في الصف الأوّل الثانوي، وفي توقيت احتفالات الكنيسة بعيد القيامة، دار بيني وبين مدرّس مادة التربية الدينيّة في المدرسة، نقاشٌ حول موقف الإسلام من قيامة المسيح وأفكار الأديان تاريخياً حول فكرة التضحية والخلاص، كان النقاش حاداً إلى درجةٍ كبيرة، فهو رجل مسيحي متديّن في نهاية الثلاثينات من عمره، يرى خلاصه من كلّ أعباء الحياة وفشله وآلامه الشخصيّة، في الدين والتدين والترجي إلى الله الذي سيخلّصه من كل الآلام والمتاعب، لذلك أي فكرة مغايرة لهذا المعتقد هي فكرة مرفوضة. كنت عندها أبحث في تاريخ التديّن البشري عن فكرة التضحية والخلاص، كنت أحاول مناقشته حول أفكارٍ تتمثّل في أن فكرة الخلاص والسعي وراء التضحية لإرضاء الآخرين أو الإله نفسه، هي فكرة بشريّة نابعة من احتياجٍ إنساني لتبرير ما يُصيب الإنسان من بلاء وما قد يرفع عنه الألم، فالألم عنده ثمن الخطيئة والتضحية ترفع العقاب. الإنسان القديم كان يحيل كلّ ما يصيبه من مرضٍ أو آلامٍ، إلى الغضب الإلهي الذي يستدعي من الإنسان إرضاءه وتسكينه بطقوس التضحية للوصول إلى السكينة، وكذلك الأديان الإبراهيميّة الثلاثة: اليهودية والمسيحيّة والإسلام، تعتمد على الفصح والتضحية والشهادة. بعد جدال طويل أحتدّ عليَّ المدرّس وطردني خارج الفصل..
مازلت أحب التجمّع العائلي وتكحيل العيون والقصص المرتبطة بعيد الفصح، ومازالت الدولة المصريّة لا تعترف بعيد القيامة
في صباح اليوم التالي ذهبت بصحبة أصدقائي إلى الكنيسة حيث مراسم وطقوس "خميس العهد" التي تتميّز بطقسٍ شهيرٍ لدى الكنيسة الأرثوذكسيّة المصريّة وهو "زفّة يهوذا" لفضحه بسبب خيانة المسيح، وفيها يطوف الكهنة والشمامسة في الكنيسة، في موكبٍ مهيبٍ مع ضرب الدفوف وهم يردّدون مع الشعب "يا يهوذا يا يهوذا يا مخالف الناموس بالفضة بعت المسيح لليهود". طقسٌ يتميّز بجماليات مقبضة كعقاب للخائن، كنت أتأمّل طيلة الصلاة لوحة العشاء الأخير، فطالما أحببتها بكلّ ما تحمل من توترٍ واضطرابٍ، وكيف انتهت هذه الليلة حسب القصّة بين المسيح وتلاميذه بالخيانة، بعد حديثه معهم طوال الليل عن التضحية والوعد بالحب الأبدي، باستسلام تامٍّ كشاةٍ سيقت إلى الذبح كما تقول نبوءات التوراة، إلى أن تنتهي القصة بقتله ثم قيامته بعد ثلاثة أيام من أجل خلاص البشريّة، حسب المعتقد المسيحي.
في طريقنا إلى البحث عن اليقين، لا يتيح لنا النظام المُحيط في معظم الدول العربيّة، من أسرة ومجتمع ودولة، اختبار الرحلة الذاتيّة بحريّةٍ نحو المعرفة، واكتشاف عوالم شائكة تخصّ المعتقد الديني تحديداً.
في مصر، لا تستطيع كمواطنٍ حرٍّ أن تختار عقيدتك بحريةٍّ مثلاً، أو أن تتزوج من دينٍ مغايرٍ أو تعلن إلحادك دون تدخّل المجتمع والدولة، بل يتمُّ رفضك ومعاقبتك على تلك الأفعال غالباً.
أخذت قراراً بالقراءة والبحث حتى الشبع، أو حتى يرضى عقلي وتهدأ روحي إلى نهاية عمري، أتذكّر جيداً كيف أخفيت قصّة مدرّس مادة التربيّة الدينيّة واتفقت مع صديقتي ألا تخبر أحداً، حتى لا تغضب أسرتي من أفكاري الغريبة.
البحث عمّا يرضي عقلي
قضيت وقتها أغرب عيد قيامة منذ طفولتي تقريباً، رغم حبّي الشديد لطقوس هذا العيد وارتباطه بعيد "شمِّ النسيم"، والعديد من الممارسات الممتعة التي تخصّ المصريين، كالتجمّع العائلي لأكل الفسيخ والموالح وتكحيل العيون بالكحل ليلة العيد نفسه، أي "سبت النور"، وطقس تمثيل أحداث القيامة أثناء صلاة قدّاس العيد مع التهليل والتسبيح، ولكن أربكني التجمّع العائلي وقتها، وأخذت قراراً بالقراءة والبحث حتى الشبع، أو حتى يرضى عقلي وتهدأ روحي إلى نهاية عمري، أتذكّر جيداً كيف أخفيت قصّة مدرّس مادة التربيّة الدينيّة واتفقت مع صديقتي ألا تخبر أحداً، حتى لا تغضب أسرتي من أفكاري الغريبة وما أبحث عنه، وراء فلسفة التضحية والعبور إلى النيرفانا والانطفاء التام والبحث عن فلسفتي الشخصيّة، ظلّ هذا الحادث معلقاً في ذاكرتي الشعوريّة، لما تبعه من مشاعر غضبٍ وحيرةٍ واختباء.
مازلت أحب التجمّع العائلي وتكحيل العيون والقصص المرتبطة بعيد الفصح، ومازالت الدولة المصريّة لا تعترف بعيد القيامة، ومازالت لوحة العشاء الأخير من أكثر اللوحات المفضّلة لدي، أمّا مدرّس الدين، فأصبح من أحد الكهنة المشاهير وقيادة من القيادات الهامّة في الكنيسة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...