إن ثاني أيام عيد الفصح، بالنسبة لنا، أهالي قرية معلول الفلسطينيّة في أراضي الـ 48، هو من أهمِّ المناسبات والأعياد على الإطلاق، فهو يومٌ مليءٌ بالمشاعر الخاصّة، يومٌ نشعر به، نحن اللاجئون في وطننا، بمشاعر تحقيق العودة بشكلٍ غير مألوف، كأننا لم نعد لاجئين، ليومٍ واحدٍ فقط.
احتفلنا قبل يومين بعيد الفصح للمرّة التاسع عشرة في قرية معلول المهجّرة في كنيسة الكاثوليك. لم ننزح، نحن لاجئو معلول، بعيداً عن قريتنا، حيث يسكن غالبيتنا في يافة الناصرة، على بعد 3 كيلومتر منها، ويستطيع بعضنا رؤية قريته المدمّرة، من شرفة بيته في يافة الناصرة، كذلك، لم يذهب شباب معلول بعيداً عن قريتهم، حيث يلتحم الكثير منهم بمعلول عمليّاً وعاطفيّاً، يلتحم مع البيت والكنائس والمساجد والمقابر والبساتين ونبع الماء والزيتون.
نشعر في عيد الفصح، نحن اللاجئون في وطننا، بمشاعر تحقيق العودة بشكلٍ غير مألوف، كأننا لم نعد لاجئين، ليومٍ واحدٍ فقط.
انطلقنا صباح يوم الإثنين الماضي، الثاني والعشرين من نيسان/ أبريل 2019، من يافة الناصرة إلى القرية على أنغام أغنية "رجعت الشتويّة" لفيروز، بعد أن تمّ الإعلان عبر وسائل التواصل، أن قدّاس العيد قائمٌ والطريق سالكة إلى معلول. وصلنا إلى القرية وقد أخذ كلّ من الحضور موقعه: المصلّون في الكنيسة، كبار السنّ يجلسون عند مدخل الكنيسة لاستقبال الحضور بتحيّة العيد، الشباب والشابات يتبادلون ويتبادلن التحيّات والقُبَل، الصحافة تجري مقابلات مع مندوبين من الأجيال الثلاثة والصغار يلعبون ويمرحون بين الجميع.
مرّت ساعة واحدة على الصلاة، وإذ بالمطر الشديد يتساقط في القرية، بعد أن كان الجميع متأكّداً أن الأرصاد تقول العكس، ولكن حالة الطقس في معلول لم نعلم بها ولم تكن مذكورة في الأرصاد الرسميّة. عندها، دخل الجميع إلى الكنيسة ووجدت نفسي أصلي وأهتف بصوتٍ عالٍ: المسيح قام، حقّاً قام! علّني أشعر بالدفء. استوقفني هذا المشهد، وعدت للحظة إلى الماضي وتذكرت أحاديث جدّي وجدّتي عندما اختبؤوا في الكنائس إبّان النكبة، وما أشبه اليوم بالأمس، حيث حملتني الذاكرة إلى الحاضر وأحداث كنائس سريلانكا، مع اختلاف التفاصيل، لكن الألم واحد.
معلول، كلمة كنعانيّة
تقع قرية معلول الفلسطينيّة على بعد 12 كلم غربيّ الناصرة وحوالي 30 كلم جنوب غرب حيفا. إن معلول هي كلمة كنعانيّة تعني المدخل أو البوّابة، ومن المعتقد أنها أُقيمت فوق المكان الذي كانت تقوم عليها أهالول أو مهلول الرومانيّة، وقد عرفها الصليبيون باسم ماعولا. بلغ عدد سكّان معلول 800 نسمة عام 1948، من مسيحيّين ومسلمين. كانت معلول من بين القرى الأولى التي كانت فيها مدرسة، حيث بُنيت عام 1905، وكذلك كان في القرية كنيستان ومسجد، وعمل أهالي معلول أساساً بالزراعة وتزوّدوا بالماء من الينابيع والآبار، وكانوا أيضاً يهتمّون بتربية المواشي.
العيد بمعلول يأتي ليؤكّد تشبّثنا وتمسّكنا بهويّتنا وقريتنا وتاريخنا
رغم أن معلول، حسب قرار التقسيم، كالناصرة والمنطقة المجاورة لها، كانت ضمن الدولة العربيّة، إلا أن نوايا الحركة الصهيونيّة تجاه هذه المنطقة كانت قد اتضحت. ففي 15 تموز/ يوليو 1948، احتلّت القوّات الصهيونيّة قرية معلول، وسبق احتلالها فترةٌ من المناوشات حول القرية، وكانت قوّات صهيونيّة تُطلق النار على القرية من مستعمرة تيموريم المجاورة، وقتلوا عدداً من أهالي القرية وعدداً من جنود جيش الإنقاذ. نزح غالبيّة أهالي معلول تحت جوٍّ من الرعب والخوف إلى القرى العربيّة المجاورة، لا سيما قرية يافة الناصرة، ونزحت 12 عائلة إلى سوريا ولبنان.
موقع القرية اليوم مغطّى بغابة صنوبر غرسها الصندوق القومي اليهودي (الكيرن كييمت (وثمة قاعدة عسكرية في الموقع أيضاً) ولا تزال الكنيستان قائمتين وقد تمَّ ترميمهما في السنوات الأخيرةـ وما زال كذلك المسجد قائماً، إلا أن جزءاً منه قد تهدّم ويطالب أهالي معلول بترميمه، ولم توافق السلطات الإسرائيليّة على طلبهم حتّى الآن. وما زالت المقبرة الإسلاميّة موجودة في الموقع إلّا أنها غير محميّة، أما المقبرة المسيحيّة فتقع داخل المعسكر الإسرائيلي ولا سبيل للوصول إليها، وتتواجد في موقع القرية أكوام حجارة المنازل المهدّمة.
مع الصلاة، عدت للحظة إلى الماضي وتذكرت أحاديث جدّي وجدّتي عندما اختبؤوا في الكنائس إبّان النكبة، وما أشبه اليوم بالأمس، حيث حملتني الذاكرة إلى الحاضر وأحداث كنائس سريلانكا، مع اختلاف التفاصيل، لكن الألم واحد.
لا تزال الكنيستان قائمتين في القرية، وقد تمَّ ترميمهما في السنوات الأخيرة، وما زال كذلك المسجد قائماً، إلا أن جزءاً منه قد تهدّم ويطالب أهالي معلول بترميمه، ولم توافق السلطات الإسرائيليّة على طلبهم حتّى الآن.
العيد هذا العام، له رونق خاص بالرغم من البرد، وذلك لأن التكافل الاجتماعي الذي كان بيننا ما هو إلّا إشارة على ما كان بين أهالي القرية قبل واحد وسبعين عاماً.
فصح هذا العامّ
كان العيد في هذا العام مميّزاً جدّاً، له رونق خاص بالرغم من البرد والشتاء، وذلك لأن التكافل الاجتماعي الذي كان بيننا ما هو إلّا إشارة على التكافل الذي كان بين أهالي القرية قبل واحد وسبعين عاماً. العيد بمعلول يأتي ليؤكّد تشبّثنا وتمسّكنا بهويّتنا وقريتنا وتاريخنا، ما يساهم في ترسيخ الذاكرة الجمعيّة، وهو بلا شكّ تحقيق العودة، والتأكيد على أن اللاجئ بهذا اليوم يصبح وعلى مسافة جدّاً قصيرة من قريته، معلوليّاً من جديد، وهذه الهُويّة تُعيد بناء نفسها وتتحقّق باللقاء الجماعيّ لأهل القرية، على أرضها، حتّى لو مرّة كلّ عام.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...