تقول الأسطورة الشعبيّة أن الاستمناء يورث العمى، وكأن عين العقل/ المعرفة تتلاشى حين تُفعّل فتحة اللذة، فإما تتطابق الفتحتان، أو تزيغ العين فيما حولها، ليتشتّت "الـوعي" خاضعاً لإيقاعٍ داخليّ، لذّويّ، في سبيل الإنزال أو الغرق، إثره يضيع "العقل" ويفقد قدرته على محاكمة ما حوله، ينصاع للّذة مسلّماً بسطوتها.
أخذت الخرافة السابقة وما يشبهها شرعيّةً طبيّةً في القرن الثامن عشر، مع كتاب (الأونانيا) أو (خطيئة تلويث الذات وكلّ نتائجها المخيفة "على الجنسين" مع نصائح روحيّة وجسمانيّة لأولئك اللذين آذوا أنفسهم بهذه الممارسة). يختزل عنوان الكتاب الطويل الموقف التاريخي من الاستمناء، على أنّه وباء، داء المُنحطّين، السفلة، الباحثين عن اللذّات المحرّمة، وحتى الآن، مازالت هالة الرعب تُحيط بالاستمناء، فالمنع والتحريم يلاحقان هذه الممارسة، مفتاح الملذّات السريّة وبوّابتها، هو "نكح اليد"، المُحرَّم، ذاك الذي "يلوّث الذات"، مُبطل الوضوء والصيام، الذي اختلف الفقهاء في حكمه، فالبعض يرون فيها حراماً قطعاً، والبعض يرونها مُباحة، تشبه الحُجامة، تساعد على التخلّص من "الـفضلات"، والبعض يراها مُحبّبة، كما في القول :" إذا حللت بوادٍ لا أنيس به/ فاجلدْ عُميرةَ لا داء ولا حرج".
تقول الأسطورة الشعبيّة أن الاستمناء يورث العمى، وكأن عين العقل/ المعرفة تتلاشى حين تُفعّل فتحة اللذة. يضيع "العقل" ويفقد قدرته على محاكمة ما حوله، ينصاع للّذة مسلّماً بسطوتها.
الموقف التاريخي من الاستمناء، يعتبره وباءً، داء المُنحطّين، السفلة، الباحثين عن اللذّات المحرّمة، وحتى الآن، مازالت هالة الرعب تُحيط بالاستمناء، فالمنع والتحريم يلاحقان هذه الممارسة، مفتاح الملذّات السريّة وبوّابتها
هناك نهضة استمنائيّة تتجلّى في التثقيف الجنسيّ والحملات الإعلاميّة كشهر أيّار بوصفه شهر الاستمناء العالمي، الذي بدأ تقليد إحيائه منذ عام 1995، للتوعيّة بأن الاستمناء نشاط جنسيّ صحيّ ويجب تعليمه وتحريره من "العار" المرتبط به.
هذا الرعب الطبيّ والدينيّ نراه في مختلف القطاعات الثقافيّة، فشكل المُستمني في المتخيّل العالميّ معروف وواضح منذ تشارلز ديكنز، الذي اتبع الوصف الطبيّ وجعله يتجلّى في بطله المُستمني: "شاحبٌ، هشُّ المفاصل، أجوفُ الصدر، لا قوّة له، جفناه على وشك الانغلاق دوماً"، وحتى الآن، يُشكّ بالمستمني من شكله الذي يُفشي بأنه أسير كفّه، وفانتازمه عن الآخر، هو يهدّد الصورة التي نكوّنها عن ذاتنا، كونه يزيحها نحو متخيّل شبقيّ، لا دور لنا فيه.
لا يرى المُستمني العالم كما نراه، فلحظة "جلد عمير" و"إحياء البظر" تحوّل العالم إلى فخٍّ من جهة، ومساحةٍ للذّات الدفينة من جهة أخرى، إذ يحتار المستمني في مياهه وأين يُسيلُها، شروط الاستثارة ولحظة الوصول لها شديدة الذاتيّة، ينصاع المُستمني إثرها لتيار اللّذة ويتحرّك على إيقاعه، كون "العالم" عادةً يُصادر هذه اللذة وزمنها، ويستبدلها بأوقات العمل وروتين النهار، وإن حضرت فتُخلق قنوات اقتصاديّة لها، ليكون الجهد المبذول في سبيلها مُربحاً، يستُثمر به ويُزاح لخدمة هذه القنوات (البورنو والإعلانات)، لا لخدمة اللذّة ذاتها.
نتلمس رؤية المُستمني للعالم في الأفلام الإباحيّة بصورةٍ غير واضحة، لكن لنتأمّل عمل سلفادرو دالي "المستمني العظيم"، شكل العالم غير متماسك، مائع، مساحات اللحم والجلد والكائنات فيه لا تُشبه تكوين شكل الجسد التقليدي وحضوره في العالم، الفانتازم الاستمنائي لا واقعي لكنه لذّويّ، يستثيرُ اللحم الذاتي، الأهمّ، أن لا وجود لـ"آخر" يتطابق مع المخيّلة الاستمنائيّة، لذلك هي خصبة، في ذات الوقت خطيرة، قادرة على التسلّل إلى العالم الحقيقي وتغيير تكوينه، لخدمة المُستمني ذاته، هي شديدة الأنانية، وخطورة أثرها على العالم الواقعيّ هي الظنُّ -الذكوريّ في أغلب الأوقات- بأن الآخر يُستثار بذات المقدار الذي يستثار فيه المُستمني، وهنا نعود إلى البورنو، راحتي يد تدخلان في الفرج تثير بعض المُستمنين، لكنها على الأغلب، لا تستثيرُ من تخضعُ لهذا الفعل.
تتحوّل تمثيلات العالم أو العالم ذاته لدى طالب اللذّة الذاتيّة إلى متخيّلٍ فانتازمي-استمنائي تختلف ضمنه التقسيمات بين ما هو أخلاقي ولا أخلاقي، إذ لا يوجد حدّ لشكل المتعة الذاتيّة، والتي قد تصل حدَّ الجريمة، هي غير مضبوطة قد تثير الرعب أحياناً كونها تتجاوز الأحكام التقليديّة عمّا ما يحصل في العالم، كمن يتأغلم لمشاهد الدماء والقتل، وغيرها مما نراه في الفيلم الصادر مؤخراً "نادي المستمنين" حيث تتلاشى التناقضات الاخلاقيّة والعنيفة فيه ضمن فضاء استمنائيّ لاحدّ له.
المُستمني عدو السيادة
تضبط السيادة السياسيّة السوائل الداخليّة للجسد، تبني جهاز المناعة، وتخلق قنوات التخلّص من الفضلات البشريّة للحفاظ على الجسد الوطنيّ، القويّ، المُنتج، المتجانس، وترى في المُستمني عدوّاً لها، وبما أنه لا يمكن تجريمه، تتدخّل المؤسّسة الطبيّة والدينيّة، للإحاطة به وتكبيله وخلق حيرته.
تأتي خطورة الاستمناء كونه دعوةً للحريّة، المُستمني يخضع لزمنه وإيقاعه الخاص، يضرب لحمه بلحمه، ويستفزّ مخيّلته لينتج سيادته الذاتيّة من تحت جلده
يُهدّد المُستمني التكاثر العددي، يهدر ماءه خارج الوعاء المُفترض، لا يُنتج أفراداً آخرين للعمل، ولا يساهم في زيادة عدد السكّان ودفع عجلة الاقتصاد، يصادر سيادة السلطة على جسده واستثمارها فيه ويفعّل سيادةً ذاتيّة، لذّويّة، تنصاع لرغباته، هو عدوّ الأسرة، ينسف مفهومها في جوهره القائم على تبادلٍ مضبوطٍ للسوائل في سبيل "الاستقرار" ضمن فضاءٍ داخليّ، إذ يرفض المساحة البيولوجيّة المخصّصة لاحتواء سوائله من تكوين خلية المجتمع الأولى، هو "يـهدر" احتمالات الحياة، وهي تضيع في "هيستيرا" اللذّة. (استخدم لفظ هيستيرا هنا في اقتباس من الحالة اللاطبيّة التي كانت ترى في المرأة الهيستيريّة شبقيّة بدون علاج، وحضوره هنا لا يحوي أي اعتراف حاليّ بها).
صُنّف المستمني سابقاً على أنه "لا طبيعيّ"، وخصوصاً المرأة المستمنية، المُحَارَبة بشدّة، التي تتجلّى أوج العداوة ضدّها في الختان، للتقليل من اللذّة أو بحجة العفّة، هناك أيضاً الاتهام بـ"الهيستيريا" و"الشَبَقِ المَرَضَي"، سبب هذه العداوة هو مسائلة المُستمنية للفكرة التقليديّة عن الرغبة بالامتلاء، كذلك تهديدها للهيمنة الذكوريّة، كونها تستعيد السيطرة على جسدها، تحرّكه وتؤدّي عبره للذّتها ذاتها، لا لأجل التكاثر أو لذّة الذكر المحدّق، تُحَارَب المستمنية أيضاً كونها تُعيد النظر في التعريفات التقليديّة للذّة، ما يعني تهديداً لنظام الذكورة نفسه، فالبظر داخله وخارجه، لا متناهي في تصاعده نحو اللذّة، حدّ التوقف هو الألم، لا الرعشة، أو الإنزال، أو زمن الانتصاب، فالرعشة الأولى بوّابة نحو المزيد، لا حدّ ينتهي عنده الجهد الاستمنائيّ، إثر ذلك تتكالب المؤسّسات الطبيّة والسياسيّة للوقوف بوجه المرأة المُستمنية، عدوّة السيادة والرجل نفسه.
أزمنة الاستمناء الآن
مازال الاستمناء تهديداً للقيم المعاصرة، كونه يضرب في عمق التكوين الحداثيّ للمجتمعات، فالمستمني لا يحتاج للآخر في سبيل لذّته، صحيح أن هناك تصميماً إباحيّاً للعالم يخاطب المستمني، لكن الأخير ليس أسيراً كليّاً لقنواته، هناك نهضة استمنائيّة تتجلّى في التثقيف الجنسيّ والحملات الإعلاميّة كشهر أيّار بوصفه شهر الاستمناء العالمي، الذي بدأ تقليد إحيائه منذ عام 1995، للتوعيّة بأن الاستمناء نشاط جنسيّ صحيّ ويجب تعليمه وتحريره من "العار" المرتبط به.
لكن مازال الاستمناء وصمة عار أخلاقيّ وانحلالاً من نوع ما، فمُمارسه يوصف بأنه "عبدُ رغباته"، لكن، ما المشكلة في أن يـ/تكون الفرد عبد رغباته؟، ألسنا عبيد العمل، عبيد أجرة المنزل، عبيد أنظمة الهيمنة والديكتاتوريات؟ عبيد أنظمة المراقبة وتبادل المعلومات؟
هنا تأتي خطورة الاستمناء كونه دعوةً للحريّة، المُستمني يخضع لزمنه وإيقاعه الخاص، يضرب لحمه بلحمه، ويستفزّ مخيّلته لينتج سيادته الذاتيّة من تحت جلده، الأبحاث النفسيّة المتداولة تُستخدم دوماً للترهيب، وترى في الاستمناء عارضاً على الاكتئاب وعدم العدالة، ويحاط المستمنيّ بشعور بالذنب الذاتيّ، الذي يوظّف مفهوم "الهدر" ويعيّر الجهد المبذول في سبيل الاستمناء بأنه غير إنتاجي، ويتعارض مع القيم الأخلاقيّة، لينشأ ذات الذنب الذي نشعر به حين نكذب لنتغيّب عن يوم عمل، كل هذا لأن الاستمناء ببساطة "مُتعة" صرفة، مجّانية.
نوستاليجا الانتصاب الأول ولذّة المستقبل الخطرة
يكشف الاستمناء عن الاختلاف الطبيعيّ في توليد اللذّة بين الذكر والأنثى، هذا الاختلاف تحوّل إلى هيمنةٍ ثقافيّةٍ يمارسها "الرجال"، فالمستمني يحنّ إلى انتصابه الأول، الأشدّ، ذاك الذي تتناقص بعده قسوة الانتصابات، في حين أن المُستمنية تركض وتسعى إلى لذّة متصاعدة، مستقبليّة، تبدأ مع أوّل رعشةٍ دون أيّ نهاية، لذّة تنضج مع زمن الاستمناء وتزداد شدّتها، بعكس تلك الذكوريّة، المهدّدة دوماً بالفقدان والتلاشي.
هذه المقاربة النظريّة نراها في تكوين العالم من حولنا، وفي الخطابات التقليديّة لانتقاد الهيمنة الذكوريّة، كلّ ما هو كبير، مُمتلئ، مُنتصب، ممتدّ، معادل لخسارة اللحظة الأولى، وحسد دفين للبظر، يتجلّى في محاربة لذّاته، والسعي لإخفائه تشريحيّاً وطبياً، كما يفسّر البعض العنف الذكوري والطيش والانفعال والقسوة بأنها أعراض عجز عن الوصول إلى تلك اللحظة الاستمنائيّة، لحظة طفوليّة قديمة، ووهميّة، كان الانتصاب حينها في أشدّه والاستمناء فطريّاً، غير مقنّن بعد، ولم تتدخّل فيه مؤسّسات بورنوغرافيّة وإعلانيّة ذكوريّة تتدفّق في الزمن وتزيح اللذّة، لخلق صيغة موحّدة لها، وسبيل واحد للوصول إليها، والأهمّ نهاية واحدة لها، لخلق عتبة يُمنع تجاوزها، وفي حال حصل هذا التجاوز، يُشار لمن يحاول العبور نحو ذاك الفضاء الشبقيّ وينعت بالمُنحرف أو الخطر على نفسه والمجتمع.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين