طيلة الأيام الثلاثة الماضية، رفع المصريون شعار "لا صوت يعلو فوق صوت الاستفتاء". انقسم الناس بين مشارك ومقاطع، مؤيد ومعارض. انقسموا حول دستور يُعدَّل ومنعطف جديد يمرّ به بلدهم، بين مؤمن بحتمية بقاء الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لاستقرار البلاد، ومَن يراه رئيساً يرغب في جمع كل السلطات بيده لترسيخ منطق الحاكم الفرد.
من جانبها، سخّرت الدولة كافة أدواتها لحث المواطنين على المشاركة في الاستفتاء. المقاطعة ومنظر اللجان الخاوية كانا أشد ما يقلق النظام، لذا عُلّقت لافتات تراها حيثما تولي وجهك وتحمل كلمتين لا ثالث لهما: "انزل شارك"، مصحوبة بإشارة خافتة "اعمل الصح".
بداية الحملة
بدأت الحملة باكراً على شاشات التلفزيونات (الموالية جميعها للنظام) لحث المواطنين على المشاركة، وتأسست على ثلاثة خطوط متوازية: أغاني وطنية تلعب جميعها على نغمة حب البلاد/ العمل/ الاستقرار/ نكمل المشوار، وبرامج توك شو تتحدث عن أن "صوتك أمانة"، وأن المهم هو المشاركة حتى ولو قلت "لا"، فقط انزل وشارك، فضلاً عن بث مستمر لمقاطع غرافيك مصحوبة بصوت الإعلامية البارزة سناء منصور وهي توضح ميزات التعديلات الدستورية مركّزة على نقطتين: تمكين المرأة والشباب واستحداث منصب النائب، متجاهلةً المواد المتعلقة بالجيش وتوسيع سلطات الرئيس وإطالة مدة حكمه.
حدث كل هذا منذ ما قبل الاستقرار على مضمون التعديلات المقترحة، ولا على موعد إجراء الاستفتاء، واستمر حتى أيام الاقتراع.
تحالف المال والسلطة
فور موافقة البرلمان على التعديلات المقترحة، وقبل أن تعلن الهيئة الوطنية للانتخابات موعد إجراء الاستفتاء، بدأت التحركات الفعلية على الأرض لحشد المشاركين، وظهرت خلال أيام التصويت الثلاثة إشارات على تحركات قوية للدولة في هذا الاتجاه.
أول المشاهد البارزة كان مشهد الصناديق المحمّلة بمواد غذائية والتي وُزّعت على المقترعين لحثهم على المشاركة، وتداول كثيرون صورها على وسائل التواصل الاجتماعي، وتحدثت عنها صحف عالمية مثل "النيويورك تايمز"، "الغارديان"، "التايمز" وغيرها.
وانتشرت أقاويل عن أن جهاز الأمن الوطني تحديداً هو مَن طلب من رجال الأعمال رصد مبالغ مالية تراوحت بين 400 ألف و50 ألف جنيه (حسب قدرة كل منهم) تُخصَّص لتجهيز الصناديق المذكورة.
حاولنا مقابلة أكثر من تاجر في منطقة الموسكي والعتبة وعابدين ممّن أقاموا خياماً أو جهزوا مجموعات من هذه الصناديق، للتأكد من حقيقة المعلومة والتحقق من المبالغ لكن الجميع رفض الحديث، ومنهم مَن أنكر تماماً علاقة الأمن بالأمر، مشيراً إلى أنه فعل ذلك بقرار شخصي حباً في الوطن والرئيس ليس إلا.
ثاني المشاهد البارزة كان عملية "الشحن" الإجباري التي قام بها رجال أعمال لعمال في مصانعهم للذهاب إلى مراكز الاقتراع في حافلات الشركة، وقد تواصلنا مع أحد عمال مصنع للمواد العازلة في جنوب الجيزة وقال لرصيف22: "تلقينا تعليمات واضحة من إدراة المصنع تفيد بأن على الجميع التواجد باكراً في حوش المصنع وبأن يكون مع كل منّا بطاقته الشخصية. وحضرنا بالفعل باكراً، وطُلب منّا استقلال الحافلات التي توجَّهت بنا إلى محافظة الإسماعيلية، وهناك تم إنزالنا أمام إحدى لجان التصويت".
ويضيف العامل: "لم يطلب منّا أحد أن نصوت بنعم أو لا. كان المطلوب فقط حضورنا وتواجدنا أمام اللجنه، كما أننا لم نتلقَّ أيّة مبالغ مالية نظير ذلك: فقط وجبة غذاء صُرفت لنا".
وعن سبب شحنهم إلى محافظة الإسماعيلية تحديداً رغم بعدها، أجاب الرجل مبتسماً: "دي دايرة صاحب المصنع".
الأمر نفسه جرى في محافظة البحيرة، ولكن هذه المرة تورّط جهاز الدولة الإداري في عملية الحشد. فوفقاً لشهادة موظف في مدرسة حكومية، تم توزيع بطاقات على العاملين الحكوميين في مديريات التربية والتعليم والزراعة والرياضة، وطُلب من كل موظف أن يسجل على البطاقة اسمه ورقم اللجنة ويبصم عليها بالحبر الفوسفوري بعد التصويت، ويعود ليسلمها في محل عمله.
ووقفاً لشهادة الموظف الحكومي، تم تهديد مَن يخالف التعليمات صراحة بإرسال اسمه إلى الأمن الوطني. وختم الرجل حديثه مؤكداً أنه لم يتم التنبيه علينا بالتصويت بنعم أو لا، ولم يراقبنا أحد أثناء التصويت أو يطلع على ورقتنا قبل وضعها في الصندوق.
انتشرت أيضاً قصص على وسائل التواصل الاجتماعي توثّق أن الشرطة أوقفت الميكروباصات وأمرت الركاب بالتوجه قسراً إلى اللجان للتصويت، ونجح أحد المواطنين في تصوير واقعة محددة يأمر فيها أفراد الشرطة الركاب بالنزول، وحين رفض شاب وقال إن لديه امتحانات لم يستجيب له رجال الشرطة وأصرّوا على اصطحابه.
لماذا كل هذا التخبط؟
الملاحظ أن النظام لم يحرص على شحن الناس للتصويت بنعم. لم يتم الطلب من المشحونين، سواء بقوة صناديق المواد الغذائية أو بسطوة التهديد، التصويت بنعم أو لا. التركيز كان فقط على حضور الناس. بدا وكأن المطلوب أن تكون اللجان ممتلئة فحسب.
المفارقة أن تكتيك إدارة العملية الاستفتائية والحشد لها من قبل النظام نجمت عنه أزمات عده، أولها ما تنقالته وسائل الإعلام الغربية عن توزيع صناديق المواد الغذائية على المصوّتين، ما دفع الإعلام الموالي للدولة إلى تسويق فكرة تبدو عبثية، ألا وهي أن مَن قاموا بتوزيع الصناديق هم الإخوان وليس النظام.
"مشكلة نظام السيسي هي أنه بلا جهاز سياسي. الرجل رأى ما حدث لمبارك بسبب الحزب الوطني الذي تحوّل إلى بؤرة فساد، لذلك قرر أن يحكم بلا حزب، والنتيجة أنه أوكل المهام الانتخابية إلى الأمن"
سخّرت الدولة المصرية كافة أدواتها لحث المواطنين على المشاركة في الاستفتاء. المقاطعة ومنظر اللجان الخاوية كانا أشد ما يقلق النظام، لذا عُلّقت لافتات تراها حيثما تولي وجهك وتحمل كلمتين لا ثالث لهما: "انزل شارك"
آخر المطبات كان قرار الهيئة الوطنية للانتخابات بمنع القضاة من إعلان نتائج الاستفتاء في اللجان الفرعية، على أن تقوم هي بإعلان النتيجة النهائية، وهو ما فسّره البعض بأن نسبة المصوتين بـ"لا" كانت مرتفعة إلى درجة تحرج النظام.
يتحدث الأمين العام السابق للحزب المصري الديمقراطي أحمد فوزي لرصيف22 عن المشهد برمته ويقول: "إشكالية الرئيس السيسي هي أنه حضر بقوة الجماهير، هو ليس (الرئيس الأسبق حسني) مبارك الذي صعد إلى الكرسي بالترقي الوظيفي، أو (الرئيس الأسبق أنور) السادات الذي كُلف بالرئاسة تكليفاً. السيسي مختلف. السيسي حملته الجماهير".
لذلك، يرى فوزي أن السيسي "حريص دوماً على أن يحافظ على تلك الميزة التي ربما تكون أساس شرعيته الأساسي: أنا الرئيس المحبوب الذي طالبه الناس بالإنقاذ أولاً، ثم نزلت الملايين تفوضني بمكافحة الإرهاب ثانياً".
وبرأيه، فإن هذا الفرق بين رؤساء مصر هو ما يفسر لماذا يحرص السيسي على أن يظل دوماً حاملاً لصورة "الرئيس المحبوب جماهيرياً"، والذي يخاطب شعبه مباشرة وبشكل ارتجالي دوماً.
يريد السيسي أن يستدعي الناس فقط حين يريد، وبعد ذلك لا شيء، وهو ما نجم عنه عزوف قطاعات واسعة حتى من مؤيديه عن المشاركة.
يؤكد فوزي أن "الرجل بالطبع ما زالت له شعبية... لكن ذلك لا ينفي أن شعبيته تراجعت. لم تنتهِ تماماً بالطبع، لكنها تراجعت، وهذا التراجع هو ما لا يقبله. وعليه، فاللجان الفارغة هي آخر ما يسمح به. الطوابير والتوافد دليل على شعبيته التي تشكّل عصب شرعيته، ولذلك كان الإصرار على الحشد وفقط الحشد".
لكن إذا كان منطق الحرص على الحشد مفهوم، يظل السؤال: لماذا هذا التخبط وعدم الكفاءة في إخراج المشهد؟
يرى أستاذ القانون في الجامعة الأمريكية بالقاهرة عمرو عبد الرحمن أن "مشكلة نظام السيسي القائمة (والتي ستستمر) هي أنه بلا جهاز سياسي. الرجل رأى ما حدث لمبارك بسبب الحزب الوطني الذي تحوّل إلى بؤرة فساد، لذلك قرر أن يحكم بلا حزب أو كيان سياسي. والنتيجة أنه أوكل المهام الانتخابية (التي هي عملية سياسية بالأساس) إلى الأمن".
ويضيف أن الأمن بطبيعته غير مهيأ أو مجهز للقيام بهذا الدور، والحزب الوطني رغم كل عيوبه كان في الأخير كياناً سياسياً ضخماً له كوارده وله علاقات على الأرض قادرة على حشد الناس، لكن الأمن لا يجيد هذا، وحزب "مستقبل وطن" الذي تم وضعه في صدارة المشهد هو عملياً ليس حزباً، "نتحدث هنا عن واجهة مفبركة لا وجود لها على الأرض ولا أحد يعرفها، والنتيجة كما رأيت: فضيحة مكتملة الأركان".
ويتابع عبد الرحمن تعليقه على المشهد ويقول: "في اعتقادي، تلك المشكلة ستواجه السيسي في كل مطب سياسي، فالعام القادم هناك انتخابات برلمانية، سيواجه السيسي فيها نفس المأزق، وغالباً سوف يستدعي الأمن ليقوم بمهمة سياسية فتكون النتيجة شبيهة بما حدث خلال الاستفتاء. السيسي رئيس قرر أن يحكم بالأمن فحسب وهذا لا تنتج عنه إلا كوارث متكررة".
من شبه المؤكد أن تعديلات الدستور ستمر، لكن المؤكد أيضاً أن النظام عاش أزمة قد يكون قادراً على تجاوزها، لكن ماذا عن الاستحقاقات القادمة. وهل سيظل السيسي مُصرّاً على نفس الطريقة في التعامل والإدارة؟ أم أن الأيام القادمة تحمل في جعبتها إجابات أخرى؟
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...