على مدار الأيام الماضية، تناقلت مجموعات تواصل إلكتروني لحلقات تنظيمية في جماعة الإخوان المسلمين نص ورقة مراجعات شارك فيها عدد من المعتقلين السياسيين في السجون المصرية، تحديداً من شباب الإخوان والسلفيين وأعضاء جبهة النصرة العائدين من سوريا.
جدد نشر هذه الورقة التساؤلات عن إمكانية المصالحة بين النظام المصري والجماعة المحكوم بحظرها، كما ذكّر بتجارب سابقة عرفتها الأوساط السياسية المصرية بمختلف ألوانها، بداية من الشيوعيين وحتى السلفيين الجهاديين.
خرجت الورقة بتوقيع المعتقل السياسي محمد الريس، المسجون على ذمة قضية غير معروفة في سجن استقبال طرة. وكتب على هامشها: "هذه المبادرة طُرحت منذ عام ونصف بسجن بنها العمومي، وكانت نتاجاً لشورى مجموعة من الإخوة الأفاضل من عدة تيارات فكرية منهم من الإخوان والسلفيين ومنهم مَن كان ينتمي للقاعدة وكان قاضياً شرعياً في إحدى الدول التي تحوّلت فيها الثورة إلى ثورة مسلحة... ومَن يريد معرفة الأسماء التي شاركت في صياغة مسودة هذه المبادرة فليرجع إلى الأخ المتحدث باسمها".
وأكدت الورقة المُسرّبة أن القائمين على المبادرة التي تحمل عنوان "مبادرة الشباب المستقل" أعلنوا فك ارتباطهم بجماعة الإخوان المسلمين بسبب عزوف قادة الجماعة عن الحوار، وذكرت اسم المحامي الإسلامي الشهير منتصر الزيات كـ"وسيط" في الحوار مع قادة الإخوان، هو الذي يقضي الآن حكماً بالسجن لثلاثة سنوات بتهمة إهانة القضاء.
وكان الزيات وسيطاً هاماً في معظم الحوارات بين الحكومة المصرية والتنظيمات الإسلامية، منذ تسعينيات القرن الماضي وحتى اليوم، ومن أهمها ذلك الذي أسفر عن إصدار وثيقة نبذ العنف عام 1997.
بالعودة إلى مضمون المبادرة، حدد المشاركون فيها هدفها بـ"تبييض السجون من الشباب وتأهيلهم إلى الخروج للمجتمع، وأن يكونوا أدوات للتشييد والبناء والإعمار في بلادهم، كل في تخصصه، ولا يكونوا معاول للهدم وإشاعة الفوضى"، وقالوا إنها "دعوة لحفظ مقاصد الشريعة فهي دعوة لحفظ الدين والنفس والعرض والمال وحفظ العقل".
واقترحت المبادرة اتخاذ عدة إجراءات داخل وخارج السجون، منها "خلق مناخ صحي للمراجعات الفكرية الفردية في السجون وتيسير الأوضاع المعيشية وتحسين الزيارات من حيث تيسير إجراءات الدخول للأهالي وزيادة وقت الزيارة وتخصيص زيارة للمتزوجين والاهتمام بالملف الصحي والاهتمام بذوي الأمراض المزمنة وإجراء العمليات الجراحية العاجلة وتفعيل الإفراج الصحي وتقنين العفو الشامل".
واقترحت كذلك بدء فترة انتقالية تشهد "توحيد الثقافات بالمجتمع وكشف الحقائق أمام الجميع وتوضيح المؤامرة على بلادنا والقبول بكل مَن يريد العودة والرجوع لأحضان وطنه ودولته".
عودة إلى تاريخ مضى
على خلاف الشائع، لم يكن التيار الإسلامي البادئ بفكرة المراجعات الفكرية والتصالح مع النظام السياسي من داخل السجون، بل كان الشيوعيون أول مَن قام بذلك، مع النظام الناصري.
ووثّقت عدة شهادات وأبحاث ذلك، منها ما جاء في كتاب "حدتو: سيرة ذاتية لمنظمة شيوعية" للكاتب محمود الورداني الذي يتحدث عن حل الحزب الشيوعي لنفسه بعد حملة اعتقالات 1959-1964، على أساس أن برنامجه يتطابق مع سياسات الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر.
وبالفعل، خرج الشيوعيون من السجون، وأعلنوا حلّ حزبهم رسمياً عام 1965 وانضموا إلى الاتحاد الاشتراكي والتنظيم الطليعي المرتبطين بعبد الناصر.
وكررت جماعة الإخوان المسلمين التجربة مع النظام الساداتي في السبعينيات. أجروا مراجعات وخرجوا من السجون وتصالحوا مع الرئيس الأسبق أنور السادات، وكان قد اكتسب لقب "الرئيس المؤمن"، فأفسح لهم المجال للنشاط في الجامعات لمواجهة الشيوعيين والناصريين، كما سمح لهم بتأسيس جريدة "الاعتصام".
وبعد اغتيال السادات في أكتوبر 1981، وقبله، ظهر التيار السلفي الجهادي بتفريعات مختلفة وخاض صراعاً مسلحاً مع الدولة أدى إلى سجن كثيرين من عناصره، إلى أن بدأت عام 1997 مراجعات كبرى بين أعضاء الجماعة الإسلامية داخل المعتقلات.
رافق جهاز أمن الدولة المراجعات الأخيرة خطوة بخطوة، إذ شارك مساعد رئيس الجهاز اللواء أحمد رأفت وضباطه في جلسات النقاش الفكري، كما بدأ السير باتجاه تيسير حياة المعتقلين داخل السجون ووقف التعذيب، بالتوازي مع نقل المشاركين في المراجعات إلى سجون مختلفة للترويج للفكرة بين المعتقلين. وكانت النتيجة إعلان بيان نبذ العنف الذي تُلي على الملأ أثناء محاكمة عناصر تنظيم "الجماعة الإسلامية" في يوليو 1997.
"إقرارات التوبة"
أحد شباب الإخوان المسلمين قضى ثلاث سنوات في سجن طرة قبل أن يُفرَج عنه مؤخراً بقرار قضائي وتحدث لرصيف22 عن المراجعات التي تجري حالياً، وقال: "منذ الشهور الأولى لنا في السجون عقب 30 يونيو (2013)، كنا بالفعل في نقاشات متواصلة أساسها تقييم تجربة الجماعة في الواقع السياسي منذ خلع (الرئيس الأسبق حسني) مبارك، وكانت المناقشات تقسّم المشاركين إلى جناحين: الشباب والقيادات التاريخية".
ظهر رأي يرى أن الجماعة لم تخطئ في مجمل ممارساتها السياسية، وأن الحركة المدنية تواطأت مع نظام مبارك لإفشال حكم الرئيس الأسبق محمد مرسي. في المقابل، ظهر رأي آخر أكثر راديكالية بين الشباب، اعتبر أن الجماعة تخلت عن الخطاب الثوري بتعاونها مع المجلس العسكري. وظهرت أيضاً آراء أخرى بعضها يرى أن الجماعة ما كان يجب أن تتخلى عن الجانب الدعوي، وبعضها الآخر حمّل قيادات الجماعة مسؤولية عزل مرسي كونها انتهجت مسلكاً إصلاحياً، وتخلت عن الشارع لصالح الانتخابات البرلمانية والرئاسية.
يُذكر أنه منذ فض اعتصام رابعة العدوية، قررت قيادات الجماعة التأكيد على شرعية الرئيس المعزول محمد مرسي وإدانة المستجدات السياسية ومخاطبة المجتمع الدولي، فيما ظهر تيار شبابي يميل إلى العمل المسلح، بدأ نشاطه بتسيير عناصر مسلحة لحماية التظاهرات ثم انتقل إلى استهداف البنى التحتية والحواجز الأمنية، وتأسيس جماعات مسلحة صريحة مثل حركة سواعد مصر (حسم)، ولواء الثورة.
ويروي الشاب أنه "في ظل هذا النقاش الفكري والسياسي، والذي لم يخلُ من الضغوط علينا من قبل الجماعة، بما يتضمن التضييق في توزيع الدعم المالي والمواد الإعاشية، بدأنا نسمع عن حملات توقيع إقرارات بالتوبة يدعو لها بعض الشباب بالتعاون مع الأمن الوطني وإدارة السجون، باعتبارها خطوة قد تؤدي إلى الخروج من السجون".
وبحسب تقييمه، لم تكن هذه الإقرارات مدفوعة بالرغبة في التقييم وإجراء مراجعة سياسية، و"إنما تسعى إلى التبرؤ من الجماعة لتسهيل الخروج من السجن".
ويضيف: "لم تكن إقرارات التوبة مبنية على أسس واضحة وصريحة. كانت على الأغلب تأتي من العناصر المهتزة أو من الشباب الذين اعتُقلوا بالصدفة على هامش التظاهرات المنددة بالانقلاب. غير أن غالبية شباب الإخوان رفضوها تماماً".
ويتابع: "نحن نعلم يقيناً أن الدولة لا تريد مراجعات تُعيد الإخوان إلى المشهد السياسي. هذا النظام شرعيته قائمة على مناهضتنا، فكيف يسمح لنا بالعودة الآن، حتى وإن كانت عودة بشروطه؟".
معتقل إخواني سابق آخر يروي لرصيف22 أن محاولات المراجعات تلك، سواء كانت مراجعات فكرية أو استتابات سياسية، لم يتعامل معها أي من أطراف الأزمة على محمل الجد.
ويضيف أنه من ناحية النظام، كانت مجرد محاولات لإظهار حدوث انفراجات على مستوى الحريات السياسية تنعكس في الإفراج عن بعض المعتقلين بقرارات عفو رئاسية.
أما من ناحية الإخوان، فـ"كان التعامل كارثياً، إذ تعرّض كل مَن وقّع على هذه الإقرارات للتعنيف والنبذ والضرب، وحتى قطع المساعدات المالية عن أهله خارج السجن ووقف دعمه القانوني بحيث كان البعض يذهب للتحقيق أمام القضاء فلا يجد محامياً يترافع عنه".
لا يرى عضو المكتب السياسي للجبهة السلفية، المقيم في تركيا، أحمد مولانا مستقبلاً لهذه المراجعات، ويقول لرصيف22 إن المبادرة الجديدة "تستنسخ تجارب التتويب الجماعي للمعتقلين السياسيين، والتي تصدّر فيها الأمن المصري منصة الريادة في العالم العربي عقب تجربته مع الجماعة الإسلامية في مبادرة وقف العنف، ومع بعض المجموعات الجهادية في عام 2007 كمبادرة ترشيد العمل الجهادي بزعامة سيد إمام".
وسيد إمام هو أحد منظري حركة الجهاد العالمي، وأصدر من المعتقل وثيقة ترشيد العمل الجهادي في مصر والعالم، قبل أن يُفرج عنه عقب ثورة 25 يناير 2011. وأحدثت الوثيقة المذكورة جدلاً كبيراً في أوساط تنظيم القاعدة، حتى أن زعيم التنظيم أيمن الظواهري أصدر كتاب "التبرئة" خصيصاً للرد على ما جاء فيها.
يعتبر مولانا أن "مبادرة الشباب المستقل" جاءت بعد قضاء كثيرين من السجناء ست سنوات في السجون، "تعرّضوا خلالها لتقنيات الإنهاك والتطويع التي تشمل سوء المعاملة وندرة الطعام والشراب والبقاء في الزنزانة معظم اليوم وانقطاع المياه لفترات طويلة، ناهيك عن تعرض العائلات للإرهاق، إثر سجن أبنائها، وقطع مرتبات الموظفين عنها، ومصادرة أموالها".
تجدد الحديث عن مرجعات يجريها شباب الإخوان في السجون المصرية... هل هي مسألة تجديد فعلي في خطاب الجماعة أن مجرّد "استنساخ لتجارب التتويب الجماعي للمعتقلين السياسيين"؟
مراجعات يطرحها بعض شباب الإخوان المسلمين المعتقلين في السجون المصرية... هل هي مراجعات فكرية أم مجرّد "إقرارات توبة توقعها قواعد تنظيمية منهكة أو عناصر متعاطفة لا تريد سوى الخروج من السجون"؟
وبرأيه، "تدفع تلك العوامل البعض إلى إجراء مراجعات هدفها الأساسي التخفيف من الضغوط داخل السجن، والأمل في الخروج للحرية، بينما تحتاج المراجعات الحقيقة إلى أجواء من الحرية لا يكون الإنسان مُعرّضاً فيها لضغوط تجبره على مسايرة السلطة".
ويؤكد مولانا أن نطاق المراجعات التي تبرز مؤخراً حتى اللحظة يقتصر على السجون التي تضم معتقلين جرى توقيفهم في وقت اتساع دائرة التوقيف بين عامي 2013 و2014، أما السجون التي تضم معتقلين في قضايا كبيرة أو محسوبين على تنظيمات مثل "حسم" أو داعش، فلا توجد فيها مراجعات، بل "فقط تنكيل صافٍ".
مراجعات أم إقرارات توبة؟
يتحدث الباحث في شؤون الجماعات المتشددة أحمد كامل البحيري عن "مبادرة الشباب المستقل" ويقول لرصيف22: "أولاً، علينا توضيح السياق العام الذي تحدث فيه مثل تلك المحاولات. المراجعات مع الإخوان تختلف عن تلك التي حدثت مع الجهاديين في التسعينيات والشيوعيين في الستينيات".
وبرأيه، "الإخوان بالأساس ليست جماعة فكرية يمكنك أن تناقش مع أفرادها أفكاراً أو أحكاماً فقهية، بل هي جماعة تربط بين أفرادها علاقات عمل ومصالح اقتصادية وعلاقات أسرية وخدمية، وهذا لا يتطلب مراجعات فكرية، إنما إجراءات اقتصادية وسياسية واجتماعية".
ويعتبر البحيري أن حالة الارتباط التنظيمي غير المبنية على عقيدة متماسكة وواضحة تتطلب اتّباع أساليب مختلفة عن تلك المتبعة مع الجهاديين، "أولها أن تفسح الدولة المجال السياسي لكيانات سياسية بديلة عن الإخوان المسلمين".
في الستينيات، تلاقت أفكار الشيوعيين المصريين مع رأسمالية الدولة، فكان سهلاً إدماج الطرفين في مشروع تنظيمي واحد، ولكن هذا مستحيل في حالة الإخوان المسلمين والنظام الحالي في مصر، كما أن النظام لن يسمح للإخوان بتأسيس كيان سياسي جديد.
لذلك، يرى البحيري أن "الظروف الموضوعية تشكل عوائق أمام الإقدام على مراجعات قادرة على التأثير في كيان الجماعة"، كما يعتبر "أن الظروف الذاتية للدولة والجماعة على حد سواء تزيد الصعوبة إلى درجة تُقارب المستحيل".
ويضيف أن كلا الطرفين لم يطرحا فكرة تنظيم حوار بينهما، بينما في تجربة مراجعات الجهاد في التسعينيات، "كان قرار إجراء المراجعات نهائياً من قيادات كل طرف، ومثّل الدولة جهاز أمن الدولة، ومثل الجهاديين شيوخ وقيادات تاريخية وقعت بأسمائها على بيان نبذ العنف".
لذلك، يقدّر أن المبادرات الحالية هي مجرد "إقرارات توبة توقعها قواعد تنظيمية منهكة أو عناصر متعاطفة لا تريد سوى الخروج من السجون، مثلما فعل زملاؤهم على مدار السنوات الماضية، وخرجوا من السجن بقرارات عفو رئاسية".
وكان الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قد أصدر عدة قرارات عفو عن سجناء سياسيين، من أبرزها ذلك الصادر في مايو الماضي والقاضي بالإفراج عن 332 سجيناً، وذلك الصادر في أغسطس الماضي والقاضي بالإفراج عن 66 سجيناً، وكان معظم هؤلاء مسجونين على ذمة قضايا تظاهر لأنصار الإخوان المسلمين.
والخلاصة أن الحالة الحالية لا تصل إلى مستوى المراجعات السياسية أو التنظيمية، بل هي بالأحرى إقرارت براءة ذمة، تشجع عليها أجهزة الدولة، وتقوم على أساس الاعتراف بثورية 30 يونيو 2013، وفك الارتباط التنظيمي بالإخوان المسلمين، والتأكيد على رفض العنف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...