"إن الحضارات العظيمة لا يتمّ قتلها، بل تُنهي حياتها بنفسها..."، هكذا اختتم المؤرّخ "أرنولد توينبي"، كتابه "A Study of History"، الذي درس فيه صعود وسقوط 28 حضارةٍ مختلفةٍ.
هذا الاستنتاج الذي توصّل إليه "توينبي"، تبنّاه بدوره الكاتب "لوك كيمب" في مقالٍ له ورد في موقع "بي بي سي"، معتبراً أنه غالباً ما تكون الحضارات مسؤولة عن انهيارها، ومع ذلك تبقى مسألة تدمير الذات رهن عوامل عديدة، فالإمبراطوريّة الرومانيّة، على سبيل المثال، وقعت ضحية العديد من العلل، بما في ذلك التوسّع المفرط، التغيّر المناخي، التدهور البيئي وضعف القيادة، ولكن "جثت روما على ركبتيها" حين تمّ نهبها من قبل القوط الغربيين في 410 والوندال في 455.
وفي معظم الأحيان تكون مسألة الانهيار سريعة مهما كان شأن الحضارات عظيماً، ففي العام 390 كانت الإمبراطوريّة الرومانيّة تمتدّ على مساحة 4.4 مليون كيلومتر مربّع، وبعد مرور 5 سنوات تراجعت إلى مليوني كيلومتر مربّع، وبحلول العام 476 وصلت الإمبراطوريّة إلى الحضيض.
باختصار، إن ماضينا العميق يتّسم بالفشل المتكرّر، وكجزءٍ من بحثه في مركز دراسة المخاطر الوجوديّة في جامعة كامبردج، حاول "لوك كيمب" معرفة أسباب حدوث انهيار الحضارات من خلال تشريحٍ تاريخي، محاولاً الإجابة على الأسئلة التالية: ماذا يمكن أن يُخبرنا نهوض وسقوط الحضارات على مرّ التاريخ عن حضارتنا الحالية؟ ما هي القوى التي تُعجّل أو تؤخّر حدوث الانهيار؟
إن الحضارات العظيمة لا يتمّ قتلها، بل تُنهي حياتها بنفسها
مقارنة طول العمر
لعلّ أوّل طريقةٍ للنظر فيها إلى الحضارات السابقة تكون عبر مقارنة طول العمر، وهي مسألة صعبة، نظراً لعدم وجود تعريف دقيق للحضارة ولا قاعدة بياناتٍ شاملةٍ حول الولادات والوفيات.
من هنا، قارن "لوك كيمب" بين عمر الحضارات المختلفة، والتي عرّفها كمجتمعاتٍ لديها زراعة، مدنٍ متعدّدةٍ، هيمنةٍ عسكريةٍ في منطقتها الجغرافيّة وبنيةٍ سياسيّةٍ مستمرّة، وبالتالي نظراً لهذا التعريف، يمكن القول إن "جميع الإمبراطوريّات هي حضارات، إنما ليست كل الحضارات إمبراطوريّات".
بالنسبة إلى "كيمب"، فإنه يمكن تعريف الانهيار على أساس أنه خسارة سريعة ومتينة للسكّان، للهويّة وللتعقيد الاجتماعي والاقتصادي، إذ تتدهور الخدمات العامّة وتعمّ الفوضى بعد أن تفقد الحكومةُ السيطرةَ على العنف.
جميع الإمبراطوريّات هي حضارات، إنما ليست كل الحضارات إمبراطوريّات
من الناحية العملية، يمكن ملاحظة أن جميع الحضارات السابقة قد واجهت هذا المصير المأساوي، وفي حين أن البعض منها قد تعافى وشهد تحوّلاً، على غرار مصر، فإن بعض الحضارات الأخرى كانت شاهدة على انهياراتٍ دائمةٍ، واللافت أنه في بعض الأحيان تتمُّ إعادة إحياء المدن التي وقعت ضحية الانهيار، كما حصل مع روما، وفي حالاتٍ أخرى مثل ما حصل مع حضارة المايا يصبح الحطام "مهجوراً" ومجرّد مقصدٍ للسياح.
ماذا تخبرنا هذه التجارب عن مستقبل الحضارة العالمية العصريّة؟ وهل دروس الإمبراطوريّات الزراعيّة تنطبق على فترة ما بعد القرن الثامن عشر للرأسماليّة الصناعيّة؟
يعتبر الكاتب أن المجتمعات الماضية والحديثة، ليست سوى أنظمة معقّدة تتألّف من الناس والتكنولوجيا، وتقترح نظرية "الحوادث الطبيعيّة" أن الأنظمة التكنولوجيّة المعقّدة تُفسح المجال بشكلٍ منتظمٍ للفشل، "لذا فإن الانهيار قد يكون ظاهرةً طبيعيّةً للحضارات، بغضِّ النظر عن حجمها ومرحلتها"، على حدّ قول "لوك".
وفي حين أننا قد نكون أكثر تقدّماً وتطوّراً من الناحية التكنولوجيّة، إلا أن هذا الأمر لا يعطي أرضيةً كافيةً للاعتقاد، بأننا محصّنون من التهديدات التي حطّمت أسلافنا، لا بل اتّضح أن قدراتنا التكنولوجّية المكتسبة حديثاً، تجلب تحدياتٍ جديدةً غير مسبوقةٍ.
عوامل تؤدي إلى الإنهيار
نظراً لكون مصير الحضارات السابقة يمكن أن يشكّل خريطةَ طريقٍ لمستقبلنا، حاول المؤرّخون وعلماء الآثار دراسة الاتجاهات التي سبقت الانهيارات التاريخيّة، وفي ظلِّ عدم وجود نظريةٍ واحدةٍ تقف وراء حدوث مثل هذه الانهيارات، اقترح الخبراء التفسيرات التالية:
التغيّر المناخي: عندما يتغيّر الاستقرار المناخي، فإن النتائج قد تكون كارثيّة: فشل المحاصيل، جوع، تصحّر...
الانحطاط البيئي: يمكن للانهيار أن يحدث حين تتجاوز المجتمعات القدرة الاستيعابية لبيئتها، وتشير نظرية الانهيار الإيكولوجي إلى الإفراط في القضاء على الغابات، تلوّث المياه، تدهور التربة وفقدان التنوّع البيولوجي.
عدم المساواة: يمكن أن تكون الوفرة وعدم المساواة السياسيّة من أهمِّ دوافع التفكّك الاجتماعي، إذ أن تمركز السلطة بين القيادة مثلاً، لا يسبّب فقط ضائقةً اجتماعيّةً، بل يعوق قدرة المجتمع على الاستجابة للمشاكل البيئيّة والاجتماعّية والاقتصاديّة.
التعقيدات: اعتبر المؤرخ "جوزيف تاينتر" أن المجتمعات تنهار في نهاية المطاف تحت وطأة التعقيدات المتراكمة والبيروقراطيّة.
الصدمات الخارجيّة: يُطلق على هذه الصدمات الخارجيّة مصطلح "الفرسان الأربعة": الحرب، الكوارث الطبيعيّة، المجاعات والأوبئة، ففي الواقع إن معظم المجتمعات الزراعيّة القديمة انهارت نتيجة الأوبئة القاتلة، خاصّة وأن تركيز البشر ضمن مستوطناتٍ ذات مستوى نظافةٍ سيّئ، جعل تفشّي الأمراض أمراً كارثياً لا مفرّ منه.
صدفة/ حظّ سيء: يُشير التحليل الإحصائي للإمبراطوريّات أن الانهيار هو أمرٌ عشوائي ومستقلّ عن عامل العمر، وفي هذا السياق لاحظت عالمة الأحياء التطوّري "إندري زليوبايت" وجودَ نمطٍ مماثلٍ في السجل التطوّري للجنس البشري:" إذا كانت الأنواع البشرية تقاتل باستمرار من أجل البقاء في بيئةٍ متغيّرةٍ مع العديد من المنافسين، فإن الانقراض هو احتمالٌ ثابت".
التكيّف الإجتماعي
إن القدرة على التكيّف الاجتماعي من شأنها تأخير أو حتى منع حدوث الإنهيار.
في الحقيقة، لقد أصبح "التنوّع الاقتصادي" على مستوى العالم- وهو مقياس التنوّع وتطوّر الصادرات- أكبر مما كان عليه في الستينيات والسبعينيات، وفق ما كشفه مؤشّر التعقيد الاقتصادي Economic Complexity Rankings (ECI).
فالدول بالإجمال، باتت أقلّ اعتماداً على أنواع الصادرات الواحدة عما كانت عليه في السابق، وعليه يمكن القول، إن الدولة التي توسّعت إلى مجالٍ أبعد من تصدير المنتجات الزراعيّة فقط، من المرجّح أن تتغلّب على التدهور البيئي الذي قد يلحق بها.
والابتكارات آخذة بالارتفاع أيضاً، وعليه من الناحية النظريّة، قد تكون الحضارة أقلّ عرضةً للانهيار في حال استطاعت التكنولوجيا الجديدة التخفيفَ من بعض الضغوطات، كالتغيّر المناخي.
اما الانهيار فيمكن أن يحدث من دون وجود كارثةٍ عنيفةٍ، وفق ما أكّدته الكاتبة "راشيل نيووير":"في بعض الحالات، تختفي الحضارات ببساطة عن الوجود، وتصبح مادّة تاريخيّة لا تثير ضجة إنما أنيناً".
ومع ذلك، أكّد "لوك كيمب" أنه عندما ننظر إلى جميع مؤشرات الانهيار وإلى القدرة على التكيّف بشكلٍ عام، فإن الرسالة تكون واضحة لجهة عدم الشعور بالرضا عن النفس، "صحيح أن هناك بعض الأسباب التي تجعلنا متفائلين بفضل قدرتنا على الابتكار والتنويع بعيداً عن الكارثة، إلا أن الوضع السيء يتفاقم في المناطق التي ساهمت في انهيار المجتمعات السابقة"، وتابع "لوك" كلامه بالقول:"المناخ يتغيّر، الفجوة بين الأغنياء والفقراء آخذة في الاتّساع، العالم يزداد تعقيداً والمطالب البيئية تفوق قدرة الكوكب على تحمّلها".
خطورة الانهيار في عصرنا الحديث
أكثر ما يُثير القلق أن العالم اليوم أصبح مترابطاً ومتشابكاً للغاية، ففي الماضي، كان الانهيار عبارة عن "نكسةٍ مؤقتةٍ" تقتصر على المناطق المعنيّة، وكان الناس في الكثير من الأحيان يستطيعون العودة بسهولةٍ إلى أساليب الحياة الزراعيّة أو تلك التي تعتمد على الصيد، أما بالنسبة إلى الأسلحة المتاحة خلال الاضطراب الاجتماعي فكانت تشمل: السيوف، السهام وأحياناً البنادق.
في بعض الحالات، تختفي الحضارات ببساطة عن الوجود، وتصبح مادّة تاريخيّة لا تثير ضجة إنما أنيناً
أما اليوم وفي حال حدث الانهيار المجتمعي فإنه سيكون أكثر غدراً، خاصّة في ظلّ تنوّع الأسلحة وتراوحها من الأدوات البيولوجيّة وصولاً إلى الأسلحة النوويّة، مع العلم أن أدوات العنف الجديدة، مثل الروبوتات القاتلة، قد تصبح متاحةً في المستقبل القريب.
وأوضح "كيمب" أن الناس قد انفصلت عن إنتاج الغذاء والسلع الأساسيّة، وعليه فإن تغيّر المناخ قد يضرّ بقدرتنا على العودة إلى ممارسات الزراعة البسيطة.
وقد شبّه الكاتب الحضارة بالسلّم الضعيف: "أثناء صعودكم، تسقط كلّ خطوةٍ تستخدمونها، وفي حين أن السقوط من على درجاتٍ قليلةٍ هو أمرٌ مقبول، فمع ذلك كلّما ارتفعتم كلّما ازداد سقوطكم، وفي نهاية المطاف يمكن القول إنه حين تصلون إلى ارتفاعٍ معيّنٍ، يصبح السقوط عن السلّم مميتاً".
يعتبر "لوك" أنه في ظل انتشار الأسلحة النوويّة، فإنه من المرجّح أن نكون قد وصلنا بالفعل إلى هذه "النقطة الحضاريّة"، مشيراً إلى أن أي انهيارٍ أو سقوطٍ عن السلّم يمكن أن يكون دائماً: "بإمكان الحروب النوويّة بحدّ ذاتها أن تؤدي إلى خطرٍ وجودي: "إمّا انقراض الجنس البشري أو العودة الدائمة إلى العصر الحجري".
وأكّد الكاتب أنه بالرغم من أننا أصبحنا أكثر قوّةً وقدرةً على الصمود من الناحية الاقتصاديّة، فإن قدراتنا التكنولوجيّة تمثّل تهديداتٍ غير مسبوقةٍ، فالمساهمة في الخراب الذاتي لا يأتي من خصومة الجيران بل من قوّتنا التكنولوجيّة، وبالتالي فإن الانهيار، في حالتنا، سيكون "فخًّ التقدّم".
بإمكان الحروب النوويّة بحدّ ذاتها أن تؤدي إلى خطرٍ وجودي: "إمّا انقراض الجنس البشري أو العودة الدائمة إلى العصر الحجري
وفي الختام شدّد "لوك كيمب" على أن انهيار حضارتنا ليس أمراً محتمّاً، خاصّة وأننا نملك ميزة التعلّم من أخطاء المجتمعات التي سبقتنا، وفق ما قاله: "سوف نسير فقط باتجاه الانهيار في حال تقدّمنا بشكلٍ أعمى، وسنكون محكومين بالفشل، في حال لم نرغب بالاستماع لتجارب الماضي".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...