عندما قرّرتُ السفر إلى مدينة طنطا، موطن رأس الكاتب أحمد خالد توفيق، لتوثيق ذكرى رحيله من هناك، لم أكن أدري ما الذي أبحث عنه تحديداً، كفاني سبباً غريزيّاً للذهاب إليها، أنها مدينة أحبّها العرّاب وأخلص لها، حدٍّ العداء مع القاهرة المحتكرة لكلّ شيء، من أجلها، فرفض كل ما تَعِدُه به العاصمة من أضواء وإعلام وشهرة، وأصرَّ على استمرار عيشه في تربته حيث تجذّر وَوُلِد، وهو القرار الذي سيدفع ثمنه طوال مسيرته، فما حقّقه من نجاحٍ كان ليُصبح مُضاعفاً، فقط لو لم تكن طنطا أحبّ بلاد الله إليه.
على أرض العرّاب ووسط جماهيره، اخترتُ أن أسير حرفياً على هَدْي خطاه النهائيّة، في آخر يومٍ له بمدينته الأثيرة، مُسترجعاً بدقّةٍ أحداث يوم وفاته، وكيف جُلب من القاهرة جثّةً في نعش، بعدما اغتالته أزمة قلبية مباغتة، في مستشفى الدمرداش بالقاهرة، لم يخرج منها إلا مقطوع الأنفاس على جامع السلام، أحد أكثر مساجد مدينة السيّد البدوي شهرةً، حيث اختاره القدر ليكون شاهداً أبدياً على جنازة عامرة بالناس، أدباء ومثقّفون وصحفيون وشباب لا يعرف أحد من أين جاؤوا، مظاهرة ثقافيّة فشلت كل الحكومات في حشد مثيلتها، لتنظيم معرض أو استحقاق انتخابي.
عندما قرّرتُ السفر إلى مدينة طنطا، موطن رأس الكاتب أحمد خالد توفيق، لتوثيق ذكرى رحيله من هناك، لم أكن أدري ما الذي أبحث عنه تحديداً، كفاني سبباً غريزيّاً للذهاب إليها، أنها مدينة أحبّها العرّاب
أصبحت من وقتها مضرباً للأمثال، لا في طنطا فحسب بل بمصر كلّها، بعدما نقلتها وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، ليتساءل كل مَن لا يعرفه، ماذا فعل هذا الرجل ليرثيه أولئك الآتون من كلّ فجٍّ عميق، بهذا الشكل الشعبي الذي كدنا ننساه؟
أعظم ما في سيرة الرجل، ليس فقط ما فعله وإنما ما لم يفعله، ككاتب مقالات بشكل منتظم في مواقع صحفيّة مختلفة، كان يُطلُّ برأيه بشكل دوري على الناس، وفي ظل التقلّبات السياسيّة التي مرّت بها مصر الفترة الأخيرة، مرّ الكثيرون بامتحانات أخلاقيّة سقطوا فيها جميعاً إلا هو، فقد اجتازها بتفوّق، لم يبرّر سفك دم، لم يداهن حاكم ولم يتوقّف عن الدفاع عن مظلوم، أبقى سِنّ قلمه طاهراً في عيون متابعيه حتى تركه ورحل.
من خارجه يبدو مسجد "السلام" أنيقاً، مهيباً، مُحلّى بزخارف رائعة في الواجهة، يتجلّى الانسجام بين لقب المسجد ووداعة الرجل الأبديّة في حياته، وكأن الله اختار للسالمِ المُسالم ألا يفارقنا إلا من باحة "السلام" فسلامٌ عليه، وفي الداخل لافتة صغيرة تنصح المصلّين بالحفاظ على أحذيتهم الغالية خوفاً من السرقة، بالتأكيد كلما دخل العرّاب هنا للصلاة، كانت تثير سخريته فكرة أن هذا اللصّ ترك كلّ بقاع الدنيا ولم يختر لنفسه ضحايا، إلا مرتادي بيت الله، كما يثير ضيقه الأخطاء النحويّة التي حَوَتها، متندّراً على حاله، كرجلٍ جاهد لنشر الوعي النحوي واللغوي في مصر كلّها، فإذا به يضربه في مقتل بمسجد قريته، بالتأكيد لم يطالب بتغييرها بسبب طبيعته الخجولة الانطوائيّة دائماً، واكتفى بتجاهلها كلّما عبر البوابة الخشبية السميكة طلباً للصلاة.
حُفرت في جوف الجامع قِبلة صغيرة أوَت إلى جانبها تابوت ألمنيوم، احتضن منذ عامٍ جثمان أديب الشباب، في وقت لم يكن لأحدٍ أن يُصدِّق أنه فعلها ومات دون إذننا، حتى أنني ضبطت واحداً أو اثنين وضعوا آذانهم فوق غطاء هذا التابوت، خلال جنازته، علّهم يسمعون منه صرخة استغاثة، فيخرج منه سليماً من غير سوء، الكلّ كان يأمل في أن يستخدم العجوز إحدى التعاويذ التي لطالما حفظ بها حياة أبطاله، لكنها ضنّت عليه وعلينا. أسأل أحد المصلّين عن المكان الذي كان يجلس به أحمد خالد توفيق حين يأتي إلى هنا ويستمع لخطبة الجمعة، فيجيبني بدهشة "مين دا؟!".
ماذا فعل الكاتب أحمد خالد توفيق ليرثيه أولئك الآتون من كلّ فجٍّ عميق، بهذا الشكل الشعبي الذي كدنا ننساه؟
هنا قصتي على أرض العرّاب أحمد خالد توفيق ووسط جماهيره: اخترتُ أن أسير حرفياً على هَدْي خطاه النهائيّة، في آخر يومٍ له بمدينته الأثيرة. أزور قبره، وبيته ومقهاه المفضل
من المسجد أستقلُّ التاكسي في طريقي إلى مقابر القرية، "ترب أبو قحافة"، كما يسمّونها، تتوغّل السيّارة المتهالكة في شارع طويل محاذٍ للنيل، مسار اختار المشيّعون أن يسيروه كاملاً، وهم يحملون نعشه إلى مرقده الأخير، يستشرف السائق غربتي، فيسألني بفضول عن هويّتي وسبب القدوم، أردّ عليه باقتضاب "بزور حدّ عزيز عليّ"، يسألني بإلحاح عن اسمه، فأجيبه "دكتور أحمد خالد توفيق"، يصدمني بقوله "الأستاذ دا كان بيشتغل إيه؟!".
طوال الوقت، أتطلع يميناً ويساراً في جنبات المدينة، محاولاً معرفة إجابة على سؤال عصيّ: ما الذي أحبَّه أحمد خالد فيها؟ لماذا تمسّك بها لهذا الحدّ؟ القمامة تتراصّ جبالاً على الجانبين، المباني كالحة بائسة، النيل هُتك عرضه إهمالاً، كلما توغّلنا في الشوارع العتيقة كلما اتضح بؤس معيشة أهلها، حتى التاكسي الذي ظللتُ أتقافز بداخله ذو لون غامق كئيب، تنتهي الرحلة والسؤال ظلَّ بلا إجابة، بل زامله سؤال آخر: كيف أبدع الرجل وسط هذه الأجواء البائسة، أم أنها كانت ملهمته الأولى لخيمة التشاؤم التي أظلّت أعماله الأخيرة؟
أصلُ إلى المقابر التي تشابهت عليّ، المنطقة بأسرها مكعبات إسمنتية من دورٍ واحد، متناثرة في أرضٍ جرداء، أتساءل في حيرة: كيف أبلغ وِجهتي وسط هذه الغابة من بيوت الوداع الأخير؟ لم يكن الأمر صعباً كما تصوّرت، سؤال واحد لأحد أهالي المنطقة عن مكان قبر العرّاب، أرشدني الرجل باعتيادية كأنما سُئل عن هذا الأمر ألف مرّة، على خطى إرشاداته سِرت بين ممراتٍ ضيّقةٍ متشابهة، حتى لاح لي من بعيد، قبر مورق كرواية دسمة، رحب كمائدة رمضانية، حنون كنظرات توفيقيّة، من نظرة واحدة علمتُ أني وصلت.
لم يكن مظهر القبر غريب عنّي، طالعتُه مراراً من قبل في عشرات الصور التي تمّ تداولها لواجهة المقبرة وقد تغطّت كاملة بالأقاصيص، بعضها رسائل وداع، وأخرى قصائد رثاء، بعضها مقتبسات من رواياته، فيما فضّل أحدهم أن يقتطع صفحات كاملة من بعض أعماله ويُودّعه بها، إحداهنّ استودعته مصحفها البمبي ذا السمت الأنثوي، وآخر نعاه برسمة كاريكاتور، رحمه الله، عاش من أجل الورق، وصنع شهرته العارمة بالورق، ولمّا مات، لم يجد مشيّعوه أقدس من الورق يؤنس وحدته، فغمروه به، ولو اتسع بهم الخيال قليلاً، ربما لخاطوا كفنه من الورق، قبل أن يغلقوا عليه باب قبره.
من شتّى بقاع الأرض انهالت عليه رسائل الوداع: غزة، تونس، لبنان، الجزائر، المنيا، السويس والإسماعيلية. شاهدةٌ صخرية مُستطيلة ثُبِّتت في مكعب الإسمنت، حملت اسمه وعبارة "جعل الشباب يقرأ"، لم تطربني هذه العبارة كما كنت أتوقع، لو علم واضعوه حجم تأثير الرجل في جيلنا حقّاً لأضافوا لها "جعل الشباب يقرأ ويكتب ويثقّف ويثور ويعيش" تُرى أي شاهدة قبر، مهما بلغت مساحتها، تكفي لتستوعب نعياً يُخلِّد كل ما غرسه ابن طنطا في نفوس قرّائه؟ والآن فلأكفَّ عن الأسئلة كي أتفرّغ للبكاء. لم أودّع المكان إلا بعد أن مزجتُ عَبَراتي بعِباراتي وأضفتُ إلى سجلّ المشيعين ورقةً من دمياط.
الطريق إلى منزله كان أكثر صدمة، لم يكن الوصول إلى شارع "حسن رضوان" صعباً فهو أحد معالم المدينة، تلقى أهل العرّاب وعداً كاذباً في أجواء تعاطف ما بعد الوفاة، من محافظ الغربيّة، بأن يحمل الشارع اسمه تكريماً، وهو القرار الذي لم يُنفّذ، ويبدو أنه لن يفعل أبداً. لم أكن أعلمُ بِدِقّة، في أي طريق متفرّع من هذا الشارع، كان يعيش أحمد خالد، والمفاجأة أن أحد لا يعلم!، بعد دستة من إجابات "معرفوش"، "مين دا؟!"، "إنتَ متأكد إنه عايش هنا" وصلتُ أخيراً إلى المنزل، لا يميّزه هذه المرّة أي شيء عن جيرانه، ولا حتى لافتة تكريميّة للرجل تخبرنا أنه عاش يوماً بيننا.
يقول عم ثروت، صاحب محل البقالة المواجه للمنزل عنه: "هو ساكن هنا من زمان جداً، وكنت أحبّ أقرأ قصصه" أما عن التعامل معه: "تحسّ إنه خياله واسع، تحسّ إنه ماشي بيفكّر في حاجات تانية، دايماً سرحان".
وعن شكل علاقته به أضاف "كان يعتبر محلّي كأنه ملك له، لا يشتري شيئًا من أي مكان آخر طالما يعلم أنه عندي".
في ظلّ عدم رغبة أسرته في التواصل مع أي وسيلة إعلاميّة، لم يعد بالإمكان جمع معلومات أكثر، فكانت الوجهة الثالثة والأخيرة هي مقهاه المفضل، والذي يقع على مسيرة 10 دقائق على الأقدام من منزله.
المكان ملائم جدّاً لذوق العرّاب، هادئ، منعزل، كلاسيكي، في ركن بعينه اعتاد أن يجلس هنا بصحبة تلامذته الذين حظوا بدعمٍ أبوي أبدي، بحكم منصبه كعميد للأدب الطنطاوي، حتى شقَّ بعضهم مسيرته في مجالات الكتابة كالروائيّة شيرين هنائي والكاتبة نورا ناجي والشاعرة مروة مجدي وغيرهم.
اخترتُ أن أجلس على نفس المقعد الذي لطالما انتقاه لنفسه وهو يتوسّط الحضور، تقول مروة، إن هذه الجلسات كانت منارة ثقافيّة في طنطا، فلطالما احتشد بها الشباب الصغار حول العرّاب، يتلمّسون رأيه ويتحسّسون نصائحه فيما يقرأه لهم.
ولا تنسى مروة أبداً أنها عرضت عليه أوّل قصيدة كتبتها، عندما كانت لاتزال فتاة صغيرة بالثانوية العامّة، ولم تتوقّع منه أن يردّ عليها، لكنها فوجئت به يجيبها ويُثني على مستواها ويشجّعها على المزيد.
تحكي أن هذا التصرّف كان حافزاً كبيراً لها كي تُكمل محاولاتها في الأدب، حتى خرج ديوانها الأوّل إلى النور، والذي أعدّت نفسها لأن تمنحه إحدى نُسخه هدية، عطّلتها ظروف السفر قليلاً، حتى حرمها القدر منه للأبد.
"زمايلي كانوا بيحبّوا الكتابة، وكانوا بيكتبوا قصص قصيرة وهو كان بيشجّعهم وبيقعد معهم".. هكذا بدأت الدكتورة إسراء صقر، التي درست في كلية الطب بطنطا، وتتلمذت على يد الدكتور أحمد، حديثها معنا، وأكّدت بعدها أن أفراد دفعتها كانوا مرتبطين به بشدّة، وإذا رغبوا في تنظيم حدث جماعي، يكون أوّل مَن يفكّرون به ليكون موجوداً بينهم.
وأضافت: "كان إنسان بشوش ومحترم، أنا كنت بنبهر به، اتأثّرت به جدّاً، وقرأت كل مقالاته، كان بيعبّر عننا بأسلوب إحنا مش عارفين نعبّر عنه".
تتابع: "يوم وفاته اتصدمت، وافتكرت مقولته (لا يوجد عمر يكفيني)، وأنا بقول فعلاً مفيش عمر يكفي دكتور أحمد عشان يشوف محبتنا له".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين