"لا تستغربنَّ قارئي العزيز إذا ما صادفتَ أحد هؤلاء الأولياء يركض عارياً كما خلقه الله في الشارع العام، فلا تنتفض النساء لرؤيته، ولا يَغضُضنَ الطَّرف، بل يُبجِّلنه ويذهبن إلى حدّ مضايقة هذا التَّعِس والتَّحرُّش به على عينك يا تاجر، ولا تعتبر الطَّبقات الدنيا في المجتمع مثل هذه الأعمال مُشينة مُخزِيَة".
هكذا تحدَّث إدوارد لين في كتابه "عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم"، عن المجاذيب في مصر أوائل القرن السابع عشر.
وإذا ما ذهبتم إلى قرية مصرية ستجدونهم حتماً مُلتفِّين حول أضرحة الأولياء، وبحسب خُبراء تحدَّثنا معهم فإنّ المجاذيب، وهم نوعان العاديون، ويتمتَّعون بإدراك وحكمة عالية مصاحبة لزهد وتقشّف، وتخرج منهم كلمات غامضة يُسمّيها المُتصوِّفة "شطحات"، والثَّاني المجذوب العاري، فاقد عقله، ولا يدرك ما حوله، حتى أنَّه لا يدرك وجوده.
هناك الكثير من الحكايات الشائعة عن المجاذيب حيث أسكن في قرية بجوار الأقصر، مثل معظم أصدقائي القادمين من القرى والأرياف، فيحكون مثلاً أنَّه كان في قرى أسوان مجذوب عارٍ، ومعظمهم لا يعرف الناس لهم أسماء، يجوب الحواري والأزقَّة، رأته امرأة، فشدَّته إلى بيتها، وحمّمته، وعطَّرَته، ومارست معه الجنس، وكانت المرة الأولى فشغف بالحميمية، وراح يبحث عنها بعدها، وصادف مروره أمام سرادق عزاء للنِّساء، رآها، دخل السَّرادق وراح يُشير إلى "لِباسه" المنتفخ من فرط الإثارة الجنسية.
يحكون في قرى أسوان عن مجذوب عارٍ، كان يجوب الحواري والأزقَّة، رأته امرأة، فشدَّته إلى بيتها، وحمّمته، وعطَّرَته، ومارست معه الجنس، ثم راح يبحث عنها بعدها، ووجدها في سرادق عزاء، فراح يُشير إلى "لِباسه" المنتفخ من فرط الإثارة الجنسية.
"آلهة" الفراعنة، و"أولياء" الفلاحين
ألقاب كثيرة تدور حول التعظيم والتمجيد أطلقها فلاحو مصر وساكنو قراها على المجذوب، يُسمُّونه "الشيخ"، ويُنادونه بـ"مولانا" و"سَيِّدنا"، و"واصل" و"بتاع ربنا" وغيرها.
يُفسِّر الروائي والباحث في التراث الشعبي أحمد أبو خنيجر سرّ تلك الألقاب المُبجَّلة: "وجدت الجماعة الشعبية "ساكنو القرى" بعض البشر في درجة أقلّ من العقل والإدراك، ولا يستطيعون العمل، وهم أبناؤهم وأُخوتهم أيضاً، وليسوا أغراباً، ولا يريدون أن يهينهم أحد، وتلمّسوا الحِيَل ليتقبَّلوا أفعالهم الخارجة عن الضبط الاجتماعي، يمشون عرايا لأنَّ إطار العقل غير موجود، لذلك تمَّ وضعهم في مكانة أعلى من آليات الضبط الاجتماعي، فسمّوه شيخ ومولانا ومجذوب وبتاع ربنا".
ويرسم الدكتور سميح شعلان، عميد المعهد العالي للفنون الشعبية، لوحة لهؤلاء المجاذيب كما يراها ساكنو القرى المصريين: "هؤلاء المجاذيب يُمثِّلون آلهة صغيرة في المجتمعات الريفية، وهم دليل الوصول للإله، تماماً كما كان يفعل المصريون القُدَمَاء، فقديماً كان المصريِّون يعتبرون هذه الآلهة الصغيرة مدخلاً للإله الرسمي، أو بمعنى أدقّ هو الوسيط الذي يأخذه للإله، وهو نفس الدور الذي يمارسه المجذوب حالياً".
"المجاذيب يُمثِّلون آلهة صغيرة في المجتمعات الريفية، وهم دليل الوصول للإله، تماماً كما كان يفعل المَصرِيُّون القُدَمَاء"
ويقول شعلان، محاولاً وضع المجذوب في سياقه الاجتماعي: الموضوع أنَّ المجاذيب لديهم خلل حقيقي، ولا يملكون الرشد العقلي الحاضر، المجاذيب هم ضمن سياق المجتمع، لذلك فمن الطبيعي تماماً أن تُعيده الجماعة الشعبية لحضنها بصورة تُعدِّل الوضع لكي يتم القبول على الوجه الأكمل، حتى أنَّ الناس أضفوا عليهم هالة من الصفات الخارقة، فهم يتخيَّلون أنَّ غضبهم يُؤدِّي لغضب الله، لذا عليك أن تستقبله، وتحتضنه، ولا تصدَّه أو ترفضه إطلاقاً.
أما أحمد أبو خنيجر فيلمح إلى وجود سبب إنساني لتقبّل تلك المجتمعات للمجذوب: " الجماعة الشعبية لها قواعد تحكمها، وهم يعلمون أنه ليست هناك مؤسسات تعولهم، فاضطروا لإيجاد البدائل، لذلك قاموا بعمل النظم الخاصة بهم طوال فترة الفقر من بعد الفراعنة إلى الآن، احتووا المجذوب العاري تماماً مثلما ابتكروا آليات أخرى لمواجهة الفقر، مثل نظام التكافل الاجتماعي، ومن ضمن هذا التكافل "النقوط" المنح المالية في الأفراح للعروسين، وبناء السّدود في الفيضانات، واجتماعات الأهل والجيرة في المواسم للأكل مع بعضهم في مناسبات معينة".
أساطير المجذوب
يؤمن الكثير من أهل الصعيد في كرامات المجذوبين، ويروون الكثير من الحكايات، ومنها أن أحدهم كان ذاهباً للصلاة فرأى المجذوب يمشي في الطرقات، ولا يُلبِّي نداء الله، وبعد الصلاة أدرك أنَّ المجذوب ظلَّ خارج المسجد، ولم يُصَلِّ الجماعة، فقال لمن حوله وهو يشير إلى المجذوب: "بيقولوا عليه شيخ وماشيخش ومادخلش يصلي الجماعة.. دول احنا اللي عملناهم شيوخ"، فنظر إليه المجذوب صامتاً، وفي الصباح استيقظ الرجل الذي تكلم في حق "الشيخ" وعلى وجهه أمارات الفزع، وقال إنَّ المجذوب زاره في المنام وبيده عصى، وأشار إليه قائلا: "أنت مالك باللّي بيصلّي واللي ما يصليش، ماتخليك في نفسك"
ويتذكر أبو خنيجر موقف له مع مجذوب: ذات مرة أحد هؤلاء المجاذيب رمانا بالأحجار فقمتُ لأنهره، فنهرنا عمّي، وقال لنا "يفعل ما يشاء".
يعلق الباحث في التراث الشعبي الدكتور فارس خضر أنَّ المجذوب العاري هو جزء لا يتجزأ من تلك المجتمعات، وفي ذات الوقت هو مُتحرِّر من أخلاقياتها، وهناك تواطؤ اجتماعي على ذلك، فالعقل هو مناط العقاب، وإن كان فاقداً للعقل فلا عقاب، حتى في ممارسة الجنس، يمكن للمجذوب أن يرغب ويستجيب لرغباته.
"كان يُنظر للمجذوب على أنه مَمسُوس، تُسيطر عليه كائنات فوق طبيعية، وكلّ تصرّفاته وإن بدت خارجة إشارات ورسائل، وبمرور السين بدأ يُعامل كمريض نفسيّاً"
ويضيف شعلان: أنَّ من يُعاقَب ليس المجذوب أبداً، ولكنه السوي، فلكي تُعاقِب المجذوب يجب أن يمتلك عقلاً، وهو الامر الذي يفقده، وبالتالي يُعاقَب صاحب العقل والتفكير، مُنوِّهاً إلى أنَّ المجذوب حين يُضبط في مثل هذه الوضعيات فإن هذا سيُقلِّل من بركته عند المجتمع الشعبي، حتى مع عدم امتلاكه الوعي.
ليس ذلك فقط، فالمجذوب يتمتع بالكثير من الهيبة في مجتمعه، واختُلقت له كرامات عديدة لتدعيم مكانته الاجتماعية، والتي قد تكون غير موجودة في الواقع، يقول شعلان.
ولكن هناك جانب مظلم في تعامل أهل القرى والريف مع المجذوب، ليس الجميع سواء في تبجيله وتقديسه.
يشير شعلان إلى أنه على الرغم من عدم تعرضهم لعقاب في مجتمعات شديدة المحافظة إذا ما ثبت عليهم ممارسة الجنس، إلا أنهم أحياناً يتعرضون للاستغلال الجنسي، والإيذاء البدني، أي أن يُفعل به لأنَّه لا يملك وعياً يُمكّنه من الدفاع عن نفسه.
وفي هذا السياق يقول أحمد أبو خنيجر: يتعرَّض المجذوب لبعض الانحرافات كأن يضربهم الأطفال أو يتم الاعتداء عليهم جنسياً، أو يتم إغواء المجذوب من قِبَل سَيِّدة ترى فيه متنفساً غريزياً، لأنَّ هذا يتم في إطار الانحرافات الاجتماعية، وبالتالي يتم التَّكَتُّم بقوَّة على هذه الأمور، وفي بعض الأحيان يتم فضح الفاعل ولكن المجذوب لا يمكن لومه.
ويوجز خضر ما تعرض له المجذوب من القداسة قديماً، إلى وصمة الجنون حديثاً: في المعتقد الشعبي أنّ المجذوب ممسوس أو بمعنى أدقّ تسيطر عليه كائنات فوق طبيعية، وكل تصرّفاته وإن بدت خارجة فهي إشارات ورسائل وما إلى ذلك، وكان له حضور في المدن أيضاً، ولكن بمرور السنين وتطوُّر المجتمعات أخذ المجذوب يُعامل على أنَّه مريض نفسياً، ويُودَع المصحَّات أو يُطرد تماماً، أو يعامله البعض بقسوة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين