كانت صحراء عريضة.
اكتُشف النفط عند ساحلها الشرقي، وخلع لتوه ساحلها الغربي العباءة العثمانية.
كان كل شيء جديد في الدولة السعودية التي تأسست عام 1932 وبدأت في وضع قواعد مجتمعها المدني.
أطياف العائلات تعطي ظهرها للصحراء لتنتقل نحو أقرب مدينة، فيما تجمع المساجد والكتاتيب بخجل الصغار لتعليمهم. ثم وُضعت في الأربعينات بذور التعليم الرسمي بتأسيس مديرية المعارف، لتهتم بإدارة مدارس "البنين" للذكور. أما البنات فلم يجدن طريقهن للتعليم النظامي. حاولت التقاليد اختطاف أحلامهن، وما بقي منها تكفلت به الفتاوى المحرمة. بدى لوهلة أن مستقبل النساء في البلاد سيرتبط بالأميّة للأبد. لكن، وبعد حوالي عقد على تأسيس مديرية المعارف الخاصة بالأولاد، دخل أول فوج من البنات إلى المدرسة. ففي عام 1955 وقفت 30 طالبة في المرحلة الابتدائية في ساحة مدرسة دار الحنان في جدة، والتي أسستها زوجة الملك فيصل، الملكة عفت الثنيان آل سعود، لينشدن: "بدار الحنانِ يُضيُ النشيد"، ولتكون أول مدرسة للبنات في السعودية.
عفّت تسأل: أين التعليم؟
عندما سقطت الدولة السعودية الأولى عام 1818، على يد إبراهيم باشا ابن محمد علي الوالي العثماني على مصر حينها، قام محمد علي باشا بإرسال عبد الله بن ثنيان، جد عفت إلى تركيا تحت الإقامة الجبرية. وُلدت عفت في اسطنبول عام 1915، درست في المدارس التركيّة وشهدت سقوط للدولة العثمانية وتأسيس الجمهورية الجديدة على يد أتاتورك. بعد وفاة والدها، كتبت إلى الملك عبد العزيز، مؤسس الدولة السعودية الثالثة والحالية، تطلب منه الإذن لأداء فريضة الحج، الأمر الذي رحب به وكلّف ابنه ونائبه على الحجاز الأمير فيصل أنذاك، والذي أصبح ملكاً عام 1964، باستقبالها. تقول عفّت في لقاء لها أنها التقت بالملك فيصل بحكم القرابة، وشعر كلاهما بالانسجام مع الآخر. جذبتها شخصيته، ونشأ بينهما حديث وكلام من خلال مترجم حتى تعلمت العربية. لم يتوقف الكلام، و توّجت العلاقة بينهما بالزواج وهي في الـ16. انغمست عفّت في المجتمع السعودي، وتعلمت اللهجة السعودية، وكان التعليم هو أول ما لفت نظرها. ويقال أن من أول أسئلتها قولها: "أين المدارس؟ أين التعليم؟"التعليم في السعودية والبلدان المجاورة
في الوقت الذي بحثت فيه عفت عن المدارس، كان التعليم الشعبي موجوداً في الكتاتيب بصورته البدائية، وكانت معلمة الفتيات في الحجاز تُسمى بالفقيهة وغالباً ما تخصص غرفة في منزلها لتعليمهن. كما عُرفت بعض العائلات الحجازية بفتح بيوتها لتعليم الفتيات، لكن لم يكن فيها تعليم منظم ومدارس. لم تتعرض المملكة العربية السعودية لاحتلال أو انتداب، بخلاف البلدان العربية الذي تعرّفت من خلاله على التنظيم التعليمي من خلال المدارس أوالإرساليات التبشيرية. فقد كانت الإرسالية الانجلية أول مؤسس لمدرسة في مصر عام 1835، وكان الطابع التعليمي فيها متوافقاً مع الجاليات الأجنبية، فلم تجذب العديد من المصريات إذ تخوّفت أسرهن من تأثير التعليم الأجنبي عليهن. أما في دول الخليج فشهدت البحرين سابقة في افتتاح أول مدرسة للبنات، مدرسة الهداية الخليفية عام 1919 رغم تعالي أصوات المعارضة حينها والتي رفضت تعليم البنات. بعد إعلان توحيد السعودية عام 1932 اجتمع الملك عبد العزيز مع وجهاء الحجاز وأبدى موافقته على إقرار تعليم الفتيات، وكان ذلك اعترافاً بالدور الذي لعبه المجتمع في تكوين كتاتيب تعليمية لكنها لم تكن كافية. بدأت الخطوة الأولى في أربعينات القرن الماضي حينما قررت عفت افتتاح قسم لتعليم البنات إلى جانب قسم تعليم الأولاد في مدرسة الطائف النموذجية. وافق زوجها فيصل وحدث الافتتاح بالفعل، وألحقت عفّت بناتها بالقسم لكن إقبال الأهالي على إلحاق بناتهن كان ضعيفاً وسط معارضات اجتماعية شديدة، أُغلق على إثرها القسم بعد 4 سنوات. افتتحت آخراً في قصرها أشرفت على التعليم فيه بنفسها، وقررت أن تنتظر الوقت المناسب.دار الحنان: البداية الصعبة
جاء عام 1955 في جدة، وكان ذلك هو الوقت المناسب. تحكي ابنتها، الأميرة لولوة الفيصل، خلال خطاب ألقته في المدرسة ونُشر في كتاب "دار الحنان" لرانيا سلامة، أنها استيقظت ذات صباح ووجدت حركة لافتة في المنزل. "أحضرت والدتي آلات الخياطة وأقمشة متنوعة من البفتا والدانتيل وأدوات تطريز، وجلست بيننا مع صديقاتها يعملن على حياكة الزي المدرسي والمفارش والستائر التي ستزين بها جنبات الدار". غيّرت عفّت استراتيجيتها في حث المجتمع على التعليم، فقدمت مدرستها كدار لرعاية اليتيمات لتُدخل التعليم لاحقاً. لم تحبذ عفّت كلمة "اليتيمات" وكان ذلك السبب لاستبدالها بمسمى: دار الحنان. كان المجتمع المحيط ينظر للمكان الذي أسسته كمأوى لليتيمات أو الفتيات المحتاجات فلم يلحقن بناتهن به. وهنا قررت عفّت أن تعلن عن إلحاق بناتها وبنات الأسر التي تعرفها بالدار، كي تشجع الجميع على ذلك.تأسست دار الحنان كمأوى لليتيمات، حتى قررت الملكة عفّت أن تلحق بناتها للدراسة فيها كي تشجع المجتمع
في عام 1955 وقفت 30 طالبة في جدة لينُشدن في أول مدرسة للبنات في السعودية: مدرسة دار الحنانوصل العدد إلى 30 طالبة في العام الأول، وقفز إلى 100 طالبة في العام الثاني وازداد حماس الأهالي وطالبوا بأن يشاركوا في رسوم الدار، فأقرت رسوم 30 ريالاً يخصص ريعها لدار رعاية اليتيمات التي لم تتوقف عن عملها بعد إدخال التعليم. بعد عام واحد من بدء عمل الدار، تحوّلت "دار الحنان" إلى مدرسة نظامية بالكامل تشرف عليها وزارة المعارف.
أوّل الخريجات
بعد خمس سنوات تخرّجت أوّل دفعة طالبات من التعليم الابتدائي، وهو العام الذي وافق إصدار المرسوم الملكي الذي يقرّ تعليم البنات الحكومي بعد أن تأسس أهلياً، ومنه بدأ تأسيس مدارس البنات في العاصمة الرياض وفي مكة وغيرها من المدن والضواحي.
واصلت دار الحنان نموها، وقررت استيعاب خريجاتها من المرحلة الابتدائية بافتتاح المرحلة المتوسطة، وأسندت لها الحكومة مهمة الإشراف على جميع اختبارات مرحلة الكفاءة لجميع المدارس الأهلية عام 1963، ثم مركزاً لاختبارات المرحلة الثانوية.
طالبات وسعوديات في التعليم
دخلت دار الحنان مرحلة جديدة من عمرها حينما تولت إدارتها السيدة سيسيل رشدي، ذات الأصول المصرية، في بداية ستينات القرن الماضي. كان أسلوب التعليم حينها بدائياً، تعتمد فيه المعلمة على نقل ما تعلمته بطريقتها، وهو ما عملت رشدي، والتي درست علم الاجتماع في مصر، على تغيره. وقد كانت أول من سعى لإدخال معلمات سعوديات إلى عالم التدريس. كان لها خبرة في العمل التعليمي وإطلاع على المناهج الحكومية، وحاولت سد ثغراته بالأنشطة التعليمية والتربوية. أسست مساحات لم تكن متاحة للفتاة في المدارس السعودية أو حتى في المجتمع: مختبرات لدراسة العلوم وفصول للرسم وأول صالة رياضية وأول مكتبة مدرسية، وبدأ كذلك نشاط الكشّافة للبنات.كما عقدت اتفاقية مع القنصليتين الفرنسية والبريطانية لتزويدها بمناهج لتدريس اللغتين، ودرّست الفتيات مادة الجيولوجيا وتاريخ عصر النهضة الأوروبية، وهو ما تم إلغاؤه بعدما انضمت المدرسة لمؤسسات التعليم الرسمية، واكتفت بتدريس تاريخ الدول العربية.
اعتمد طاقم التدريس في دار الحنان حينها على معلمات من دول الجوار العربية التي كان التعليم فيها قد ازدهر كمصر وسوريا وفلسطين، وقد كان هذا حال معظم مدارس المملكة الجديدة أنذاك.
شعرت الإدارة في دار الحنان حينها أنه من الضروري تسخير مكان للسعوديات ليعملن في المدرسة، وهو ما أصبح متاحاً أكثر بعدما تخرجت طالبات المدرسة منها.
وهنا أخذت الدار مهمة الانتقال إلى مرحلة جديدة، وهي تدريب الخريجات من الثانوية للعمل في تعليم طالبات المراحل السابقة، لسدّ العجز الهائل في المعلمات. وهي المرحلة التي تحولت فيها دار الحنان إلى نظام إداري أكثر احكاماً، وأنُشئت ملفات لكل طالبة لمتابعة العُمر والأداء التعليمي.
كانت فايزة كيّال إحدى الخريجات، وقد قررت إكمال تعليمها الجامعي، ثم عادت والتحقت بدار الحنان للعمل كمراقبة وعُينت لاحقاً مديرة مدارس دار الحنان.
فايزة كيال
تذكر رفيف فؤاد زهران، خريجة المدرسة عام 1985 والتي تقوم بإدارة مجلس خريجاتها، تلك الحقبة والأنشطة التي ملأت عالم التلميذات. تصفها بأنها كانت مختلفة عن ما قدمته باقي المدارس في البلاد للفتيات وسباقة في رسم نموذج لشكل الفصول والمساحات المدرسية.
خطوات نحو الكلية
تزايد الإقبال على المدرسة وكان لابد من الانتقال إلى مقر مساحته أكبر. وفي عام 1986 انتقلت دار الحنان بكافة مراحلها إلى مكان جديد: مساحة أرض 89 ألف متر مربع بتكلفة 220 مليون وبدأت أكثر مراحلها ازدهاراً. ثم اتخذت عفت الثنيان في عام 1988 قرار إنشاء مركز الخدمة العامة والتعليم المستمر، أو التدريب المهني، لتقترب من حلمها الأكبر في إنشاء كلية تعتبر امتداد لمدارس دار الحنان. كان المركز منقذاً للطالبات اللاتي لم يستطعن إكمال تعليمهن الجامعي، ويعطي برامجاً دراسية وتدريبة في تخصصات كالتمريض والحاسب الآلي واللغة الانجليزية والفرنسية، بإشراف وزارة التربية الفرنسية. وتحول في عام 1999 إلى كلية حملت اسم مؤسستها، كلية الملكة عفت للبنات، وأصبحت جامعة أهلية مرخصة.مشوار العمر يحترق
مع توسّع تعليم البنات وارتفاع مستوى المعيشة في السعودية إجمالاً وفي جدة تحديداً، ظهرت مدارس أهلية وحكومية ودولية منافسة جذبت أعداداً من الطالبات، انخفضت معها معدلات التعليم في دار الحنان. حتى انتصفت التسعينات ميلادية وتعرضت جدة إلى أمطار غزيرة وعواصف رعدية، وسُمعت صفارات الانذار منطلقة في مدارس دار الحنان. اشتعل المبني بحريق كبير، أُغلقت المدرسة على أثره لفترة ثم عاودت نشاطها بانخفاض ملحوظ نتج عنه إغلاق مدارس دار الحنان كلياً في العام 2005، بعد خمسين عاماً من تأسيسها، وبعد وفاة الملكة عفت بخمس سنوات. ثم عادت المدرسة والكلية لتفتح أبوابها عام 2009 بثلاث كليات 13 قسماً مع برامج للدراسات العليا، تركز تخصصاتها على الهندسة والأعمال. واليوم، تعيش المدرسة مشروعاً جديداً يسعى إلى تحويلها إلى مدرسة خضراء صديقة للبيئة، فيما تشارك الطالبات والمعلمات وحتى الخريجات في ذلك. استطاعت دار الحنان وكلية عفت أن تخرج سيدات فاعلات في مجتمع جدة، والمجتمع السعودي بشكل عام، تربطهن علاقة من خلال مجلس الخريجات الذي ترأسه زهران. "أنا خريجة عام 1985 وحتى الآن نقوم في المجلس بتنسيق المناسبات الثقافية والترفيهية لندعم المدرسة لتبقى "شعلة في الزمان"، تقول زهران لرصيف22.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...