الحنين عنوان الجلسة التي جمعتني بالفنان طارق العربي طرقان، عودةٌ إلى زمن ماوكلي والكابتن ماجد وريمي ومدينة النخيل وهزيم الرعد وبابار وغيرها من برامج كرتون مازالت شاراتها عالقة في الوجدان والذاكرة.
ليس من المبالغ به أن نقول بأنها ساهمت في تشكيل وعينا وإدراكنا "نحن جيل الثمانينيات والتسعينيات" لما حملته من قيمة فنية وأخلاقية عالية.
مقدمة "ماوكلي" التي تختصر فلسفة إنسانية وحياتية تصلح لكل وقت.
هو زاخر كتجربته وشامل كأغانيه التي صانت اللغة العربية وخاطبت كل من نطق بها، فكانت مرآةً لفنانٍ تجاوزَ حدودَ التصنيف والانتماء، هو جزائريّ الأصل سوريُّ المنشأ مصريُّ الإقامة.
ويحطّ رحاله كل حين في بلد عربي ملبياً دعوة أبنائه -كما يسميهم- الذين خطّوا مسارات حياتهم بناء على ما تشربوا من فنّه، إلا أن البراءة بقيت تفيض من أعينهم كما يقول "هؤلاء الشباب هم أبنائي وليسو جمهوري ولحظة لقائي بهم أرى البراءة والجمال والخير يفيض من عيونهم، حتى أن حماسة أهاليهم لا تقل عن حماستهم وفرحهم باللقاء".
يعبر طرقان عن فرحه بلقاء أولئك الشباب خلال مهرجانات وفعاليات للكوميك والكرتون، مشيراً إلى أنه لم يتوقع أن يكون وفاؤهم عميقاً بهذا الشكل.
يقول لرصيف22: "ذلك الجيل امتلك أذناُ موسيقية تجاوزت الموسيقا إلى الكلمات، وما حملته من قيم وأخلاق وصياغة لغوية، وربطته بالأغنية علاقة مديدة ساهمت في بناء شخصيته، عزّز ذلك الظرف التاريخي فلا وجود للعالم الرقمي أو الفضائيات".
نجح طارق العربي طرقان بالمواءمة بين الكتابة والتلحين في حالة إبداعية أنجزت أغانٍ زارت بيوتنا في طفولتنا، فكيف لنا أن ننسى "في الغابة قانون يسري في كل مكان... قانون أهمله البشر ونسوه الآن" البدايات، موسيقا وميكي وسمير
"ماوكلي" باكورة أعمال طارق العربي طرقان 1991م، بدايةٌ تؤكد أن دخوله عالم الأطفال لم يكن اعتباطاً كما يقول فهي صدفة هيئتها الظروف التي تخللت حياته. نشأ في بيت على درجة من الثقافة والفن، الأم تحمل دكتوراه في العلوم الجنائية وقد امتلكت صوتاً مميزاً، وخاله "سيف الدين مزيان" كان أحد العازفين في أول فرقة موسيقية للتلفزيون السوري، فأُولعَ طرقان بالموسيقا منذ صغره. إلى جانب ذلك كان قارئاً محباً للاطلاع بدءاً من مجلات ميكي وسمير والمغامرون الخمسة وصولاً إلى روايات وإصدارات شملت مختلف نواحي المعرفة، الأمر الذي ساهم في تكوين مخزونٍ فكريّ وفنيّ ثريّ نجح فيما بعد بتوظيفه في إبداعاته. تزامنت مهنة طرقان مع بداية شركة "الزُهرة"، المكان الذي منه انبثقت تلك الروائع، لطالما كان شعار مؤسسيها "نحن نعمل لأولادنا" كما يقول، ساعين لأن تظهر الأعمال في أفضل شكل محمّلة بقيم الخير والحب والجمال. يضيف "كانت الأعمال القادمة من الغرب تخضع للترجمة إلى جانب الكثير من الإعداد والتدقيق لتتوافق وعاداتنا ونمط حياتنا، أما الشارة الأصلية للعمل فكنّا نستغني عنها ونستبدلها بأخرى عربيةَ اللحن والكلمات".شارات الكرتون، لغة وقيمة ومتعة
تجاوزت الشارات التي صنعها طرقان كونها استهلالاً لبرنامج كرتون، لتقدمَ إسقاطاتٍ إنسانية ونفسية أكثر عمقاً، وبرنامجاً أخلاقياً متكاملاً. ففي قوله "سجل أهدافاً لا تيأس لا تخشَ المرمى... كُن حسنَ الخُلقِ مع الخصم فأهدافك أسمى" رسالة رياضية وفلسفية أيقن طرقان أنها ستصل للطفل حتى لو عبْرَ مراحله العمرية إلا أنها ستعلق في لاوعيه منذ اللحظة الأولى. حيث قال: "للطفل مقدرات استيعابية عالية وهو الكائن الأكثر قدرة على التحليل الموسيقي، لذلك دأبت على تقديم أعمال تحمل قيماً ومفاهيم آمنت بها وأيقنت أنها مفيدة له". مشيراً إلى تركيزه على اللغة العربية معللاً أنها "وعاء الفكر وهي الوسيلة لزرع الفضيلة وترسيخها دون أن يعي الطفل ذلك، ومايحدث اليوم من تبسيط للغة هو أمر كارثي من شأنه الحدّ من قدرات الطفل وإبطاء عملية المعرفة". كل ذلك جعل أعماله تتميز بالجدة والتنوع، فكان من الطبيعي أن تأتي ردة الفعل من الأهالي قبل الأطفال معبرين أنهم يتركون أطفالهم أمام شاشة التلفاز مطمئنين لأنهم سيشاهدون كل ماهو ممتع ومفيد.جزائريّ الأصل سوريُّ المنشأ مصريُّ الإقامة، طارق العربي طرقان الذي أثّر عميقاً في ثقافة الطفل في العالم العربي.
شارات الكرتون التي قدّمها طرقان كانت بمثابة أغاني للأطفال، في وقتٍ خلا من التركيز على الطفل.
برامج أطفال القرن العشرين
"بعد عام 2000 تغيرت تركيبة الرسوم المتحركة في العالم وأصبح من الصعب أن نجد أعمالاً تتوافق وأعرافنا وقيمنا، ما أدى إلى انخفاض عدد البرامج التي نشتريها، كما أن أن طبيعة المجمتع الاستهلاكي والمادي اليوم طغت حتى على صناعة برامج الأطفال فبات بعضها لا يتجاوز كونه وسيلة للترويج لشخصية أو للعبة معينة". يؤكد طارق العربي طرقان لافتاً إلى أن حقوق النشر تضمنت مؤخراً استخدام الشارة الأصلية ولم تكن ألحانها متوافقة مع اللغة العربية، ما أدى إلى قلة الأعمال قياساً مع السابق. هنا يعود طرقان للحديث عن الظرف التاريخي، بمعنى الانفتاح الرقمي والتخمة التي سببها الغزو التكنلوجي قائلاً "إن الرقابة على هذه التخمة التي يعيشها أطفال اليوم هي مسؤولية الأهل أولاً، ثم الحكومات التي من واجبها فرض رقابة أخلاقية على المنتجين وتجنب تبسيط اللغة العربية". وأضاف أن على الحكومات "العمل على تكريس اللغة العربية على اعتبار أنها درجة من درجات تطور العقل واتساع مداركه، وبدونها لن يفهم الطفل أيّاً من نواحي الحياة". كان طرقان قد أدرك قدرة الأطفال التحليلية والاستيعابية من خلال أطفاله ديمة ومحمد وتالة، فهم أول المتلقين لأعماله التي شاركوه تقديمها منذ منتصف التسعينيات، ولايزال التعاون بينهم مستمراً حتى اللحظة، ربما كنتيجة طبيعية لأنهم أبناء بيئة فنية بامتياز. يؤكد أنهم يعملون كهواة أغرموا بما يقدمون ومع كل عمل يسعون للجدة والاستمرار بعيداً عن الرتابة والملل.التسامح، وحبّ الغير، واتقان اللغة العربية، بعض مما قدمته أفلام الكرتون في رؤية طارق العربي طرقان.
الضوء هناك، في آخر النفق
على ضفة أخرى أعاد طارق العربي طرقان تقديم عددٍ من الأغاني التراثية كان من أروعها أغنية الفلكلور المغاربي "الله يامولانا" وقد بثت عبر قناة سبيستون. علماً أن طرقان وقبل دخوله عالم الطفولة لحّن وغنّى حوالي 300 أغنية عاطفية لم ينشر منها سوى واحدة عام 1986 حسب قوله، مشيراً إلى أنه لم يرَ نفسه مغنّياً على مسرح ولا ملحناً لغيره. يؤكد طارق العربي طرقان أن شارات الكرتون التي حققها كانت بديلاً لأغنية الطفل في وقتٍ خلا من التركيز على الطفل، آملاً أنْ يُكمل أولئك الشباب السير على خطاه، لعلّ جيل الحرب والشتات يتعلل بالأمل الذي لطالما حثنا طرقان على التمسك به. لأن الضوء حتماً يطلّ في آخر النفق، كما يقول طرقان: "وتهدينا الحياة أضواء في آخر النفق. تدعونا كي ننسى ألماً عشناه. ما دمنا أحياءً نرزق، مادام الأمل طريقاً فسنحياه".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...