من منا لا يذكر أجهزة مُسجّل الكاسيت ذات الجيوب؟
قلة هم الذين يواظبون على دس الأشرطة فيها. فقد بات من السهل القول إن أشرطة الكاسيت انقرضت.
كانت الضربة الأولى منذ أكثر من عقدين حينما هيمنت الأقراص المدمجة (CD) على السوق، ثم احتضرت حينما بدأ التحميل الرقمي المجاني وانتقلت الموسيقى من الخيوط البنية داخل الشريط إلى السحاب الافتراضي.
في بعض الزوايا الخفية، ما زال هناك من يحافظ على هذا التقليد: هم أنصار شرائط الكاسيت. غالبيتهم من كبار السن، وهم يفعلون ذلك كطقس نوستالجي أو أحياناً لعدم الرغبة في تغيير عادة قديمة.
مُلصقات مصفرة وعناوين متلاشية
لم يحرم التوجه الهائل نحو تحميل السمعيات عبر الانترنت أبا سامح، الرجل الخمسيني، من المواظبة على الاستماع إلى أشرطة الكاسيت التي اختفت من الأسواق. ما زال يحتفظ بأكثر من نحو 50 شريطاً لفنانين كبار من أمثال عبد الحليم وأم كلثوم وصباح فخري. يحافظ أبو سامح وهو صاحب مطعم شعبي في غزة، على مقتنياته السمعية بتفقدها بين حين وآخر محتفظاًً بها في أحد أدراجه، تلافياً للتلف، عله يستطيع أن يبقيها أطول مدة ممكنة على قيد الحياة، كما يقول. الحنين إلى تسجيلات الماضي وإلى الكاسيت بصفة خاصة وقف سداً منيعاً وراء عدم إقدام أبي سامح على التخلص من أشرطته التي أصفرت ملصقاتها وتلاشت عناوينها، ورغم ذلك لا يزال يفرق بين محتوياتها بلون الكاسيت وحجم الخدوش على وجهيه، فهو يحفظ أغنياتها عن ظهر قلب.تصليح الأعطال بالقلم وطلاء الأظافر
لا يزال أبو سامح يرى في أدوات السمعيات الحديثة، كبطاقة الذاكرة (Memory)، مثلاً، أدوات سريعة الأعطال، لا يمكن استخدام أي أداة تقع بين اليدين لإصلاحها. بعكس الكاسيت، فإذا انقطع شريطه الداخلي أعاد وصله بمادة طلاء الأظافر كلاصق سريع، وإن تردى صوت الشريط، وضع قلماً في بكرته ليحركه بسرعة بعكس الاتجاه ومن ثم يعود الصوت صادحاً وكأن شيئا لم يكن. يقول أبو سامح أنه يتوه في الأجهزة السمعية الحديثة، لتضمنها مئات المقاطع الصوتية. أما الكاسيت، فهو واضح وبسيط: تجد على كل جهة المعلومات التي تلزمك، اسم المطرب، واسم الشركة، وأسماء الأغاني وملحنيها ومؤلفيها.الأقراص المدمجة سددت ضربة قوية لسوق الكاسيت، ومجانية الانترنت قضت عليه
عالقون في التسعينات، أشخاص يرفضون التخلي عن شرائط الكاسيت
إحراق أطنان الشرائط
يقول فادي كحيل صاحب شركة نيو ساوند للإنتاج الفني، التي كانت أحد المنافذ الشهيرة لبيع الكاست سابقاً، إن التطور التقني الحاصل في مجال السمعيات كان وراء تدني مستوى البيع بشكل كبير جداً. هنا داخل الشركة، تتكدس الأقراص المدمجة فوق الرفوف، تجاوز عمر بعضها العشرة أعوام، بينما لم يتبقَّ إلا ثلاثة أو أربعة أشرطة كاسيت على أبعد تقدير، ترقد في زاوية بعيدة. يشير كحيل، وهو شاب في الثلاثين من عمره، إلى أنه استعاض عن تجارة الكاسيت بالأجهزة السمعية الحديثة والكهربائية وأدوات الإنارة. وقد غطت تلك الأدوات الحيز الأكبر من مساحة مقر الشركة في حي الرمال وسط غزة. يقول نائل كحيل، المالك الأول للشركة التي كانت حاصلة على وكالة شركتين إسرائيليتين مصنعتين للكاسيت في ثمانينات القرن الماضي، إنه اضطر تحت وطأة الخسارة الكبيرة التي تعرض لها، لإتلاف مخزونه من الأشرطة قبل ثلاثة أعوام. لكن شغفه بالكاسيت يدفعه للاحتفاظ بجهاز تسجيل خاص به. قرار إعدام ثلاثة أطنان منها لم يكن سهلاً، فهو ارتبط بالأشرطة على مدى ثلاثة عقود وتكبد خسارة كبيرة. فقد كلفه الشريط الواحد 1.3 دولار، لم يستطع تعويضها، وكأنه أحرقها مع الأشرطة بخيوطها البلاستيكية البنية.التسعينات الذهبية
في التسعينات كان ميدان فلسطين وسط مدينة غزة يعج ببائعي الأشرطة. كان أشهرهم أبو ناجي. وقد شهدت تلك الحقبة ذروة بيع الكحيل للأشرطة. تنوع محتواها أنذاك، بين دروس الدين والقرآن والمحاضرات المختلفة، لكن الأغاني كانت أساس هذه الصناعة، وسبباً في ازدهارها. ساهمت صناعة الكاسيت فى تشكيل جيل من المطربين البارزين على المستوى العربي، من بينهم: كاظم الساهر، وهاني شاكر، وعمرو دياب، وجورج وسوف، وأصالة نصري. وذاع صيت عدد من قرّاء القرآن، أمثال عبد الباسط عبد الصمد، ومحمد صديق المنشاوي، وأحمد بن علي العجمي، وعدد من الدعاة كالشيخ عبدالحميد كشك. يقول الحاج أبو خالد، وهو حلاق ستيني يقيم في مخيم خانيونس جنوب قطاع غزة، إنه يرهن استقراره النفسي بالاستماع إلى كاسيت سورة يوسف مسجلة بصوت عبد الباسط عبدالصمد. وهو يحتفظ بأشرطة أخرى في صالونه ويواظب على سماعها من وقت لآخر. في ميدان فلسطين اختفى ركن أبوناجي وحل محكانه محل لبيع الملابس الرجالية، بعدما توجه هو لبيع العطور وأدوات الزينة والأزياء العسكرية ومستلزماتها. لكن أبو خالد ينتظر مجيء الكهرباء، التي تنقطع عشرين ساعة في اليوم أحياناً، ليشغل جهاز المسجل ويستمع إلى القرآن على شريط كاسيت. لا يعرف اليوتيوب، ولا الساوند كلاود، ولا يبحث عن الآيات خارج نطاق رفيقه المستطيل البلاستيكي.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.