أثناء وجودي في لندن، بدعوة رسمية لجمع المادة العلمية الخاصة بأطروحة الدكتوراه، لفتني عدد من الشباب المصريين المقيمين في لندن، إن بشكل قانوني أو غير قانوني. تعرّفت إلى كثير من هؤلاء في المحالّ والمقاهي وأماكن مختلفة يعملون فيها، وجمعني ببعضهم مسكن واحد، فتقربت منهم وتعرّفت على تفاصيل حياتهم: كيف جاؤوا إلى لندن، كيف عاشوا فيها، كيف نجحوا في الحصول على عمل، ولماذا ترك بعضهم دراسته وتفاصيل أخرى كثيرة سأسرد بعضها هنا.
محمد بدوي
محمد بدوي، شاب مصري من مواليد الإسكندرية. يبلغ من العمر 24 عاماً. كان طالباً في كلية دار العلوم، جامعة الفيوم الفرقة الرابعة. ترك دراسته بعد السنة الثالثة، وكان وقتذاك عمره 19 عاماً، وباشر رحلة البحث عن الذات في الخارج. لماذا فكّر في الخروج من مصر؟ يجيب محمد بلا تردّد: "هي مصر فيها إيه عشان أقعد فيها". ويضيف أن قرار سفره إلى الخارج جاء بإيعاز من أحد أصدقائه المقربين، الذي أقنعه منذ أكثر من خمس سنوات، بترك مصر والبحث عن فرصة عمل في الخارج.
ترك محمد دراسته فترة مؤقّتة حتى تمكن من السفر. ثم جاء إلى لندن بعد إتمامه دراسة السنة الثالثة. ولأن الحصول على فيزا مباشرة إلى بريطانيا صعب جداً، سافر مع بعض أصحابه إلى اليونان ومنها إلى فرنسا، حيث قضى فترة من الوقت. تعرض هناك لكثير من المواقف الصعبة، التي هدّد بعضها حياته، ولكنها مكنته من اكتساب الخبرة وعززت شخصيته فنجح في التعامل مع الغربة وظروف الحياة الجديدة.
وبعد سفر كثير، انتقل من فرنسا إلى لندن في عبّارة كبيرة تحمل شاحنات وعربات، وقد كُشِف أكثر من مرة في موانئ فرنسا، لكنه تمكن من الخروج منها وهو لا يملك جنيهاً واحداً. بدأ حياته الجديدة وهو في الحادية والعشرين، وكان لا يجيد اللغة الإنجليزية إجادة تامة، ولا يعرف الكثير عن ثقافة البريطانيين.
أمضى محمد ليلته الأولى في حديقة هايد بارك، حيث نام حتى الصباح، ليبدأ بعدها بحثه عن عمل في أي مطعم أو مقهى. وجد وظيفة متواضعة في مطبخ أحد المطاعم، وبدأ بالتدرج فيه. كما عمل في توصيل الطلبات في سلسلة مطاعم دومينوز بيتزا، وهذا ما ساعده على نسج علاقات واسعة، ومعرفة العديد من الأماكن والشخصيات في شارع العرب ادجوار رود Edgware Road.
تزوّج بريطانية مطلقة، وهي أمٌّ لطفلين، فنجح في الحصول على الإقامة. وهو الآن يسكن ويعمل في لندن. حياته مستقرة نسبياً ويسعى لاستكمال السنة الرابعة في كلية دار العلوم بمصر، لنيل شهادته الجامعية، لكنه لا يستطيع أن يزور مصر إلا في فترة الامتحانات، بفعل شروط الإقامة، التي تمنعه من الابتعاد عن لندن أو الاتحاد الأوروبي أكثر من ثلاثة أشهر.
محمد علي
محمد علي مصري يسكن في محافظة المنوفية، وعمره 34 عاماً. جاء إلى بريطانيا مبتعداً للمرة الأولى عن عائلته، وطامحاً إلى بناء مستقبل زاهر. بدأ حياته في لندن باحثاً عن عمل، لكنه لم يوفق، فرحل إلى برايتون، وعمل فيها نحو سنتين. تزوّج هناك ثم انتقل للعمل في مطعم بميدان راسل في لندن، وانتقلت زوجته معه أيضاً. وبذلك بدأ مرحلة جديدة من حياته في الغرب، وصار همه إنجاز معاملات الإقامة. صودف أن أخاه تعرض لحادث في القاهرة، فاضطر إلى ترك كل ما يحلم به في لندن والرجوع إلى مصر. فبرغم كل ما يعانيه المصريون من جراء العمل في الغربة، تربطهم علاقة قوية بذويهم.
عاد محمد علي إلى مصر. وبعد الاطمئنان إلى صحة أخيه عاد مجدداً إلى لندن، ولا يزال يعمل اليوم نادلاً في مطعم كبير فيها. بعد حصوله على الإقامة، طلّق زوجته البريطانية. وبعد ذلك بسنتين تزوج قريبة له في المنوفية حيث رُزق طفلةً منها.
حسين المصري
تخرّج حسين من كلية الآداب، قسم الفلسفة، ومذّاك غادر مصر، وعمره 21 عاماً، إلى النمسا، تمهيداً للسفر إلى إيطاليا. دخل إيطاليا في العام 1990، واستقر فيها وحصل على الإقامة وفقاً للقانون الإيطالي بعد 4 سنوات. بعد ذلك بأربع سنوات أيضاً استحق الجنسية الإيطالية، وذلك كله من دون أن يضطر إلى الزواج بإيطالية بغرض تسوية أوراقه القانونية. فقد تزوج مصرية وأنجب ثلاثة أولاد.
عاش في إيطاليا عشرين عاماً، واكتسب صنعة الشيف في البيتزا والمعجنات. ولكن برغم كل ما تقدم، ترك إيطاليا وقدم إلى بريطانيا لبدء حياة جديدة. فالوضع في ايطاليا أصبح ضاغطاً إلى حد ما، كما أن مستوى تعليم الأولاد في لندن أعلى من مستوى التعليم في إيطاليا.
يطمح حسين اليوم إلى إقامة مشروعه الخاص في لندن، وهو أمر يحتاج إلى تمويل. وإذا كان يمتلك جزءاً منه، فإنه يعمل في مطعم صغير حتى يتمكن من التغلب على ارتفاع الأسعار في لندن التي تُعدّ واحدة من أغلى مدن العالم.
لا يتمالك حسين نفسه من البكاء عندما يُسأل هل هو نادم على الفترة التي عاشها في الغربة. يقول، والدمعة تبرق في عينيه: "خسرت عمري هنا، ويكفي أن والدتي وأخي ماتا ولم أستطع حضور جنازتهما. هذه الأيام كانت أصعب أيامي في الغربة. أنظر إلى حالي الآن، لم أتقدم خطوة في حياتي العلمية، بعد تركي مصر. أصدقائي اليوم في مناصب كبيرة نسبياً في القاهرة، أحدهم أستاذ جامعي في كلية الآداب، وآخر محاسب، وثالث صحافي ورابع مستشار. أما أنا فأعمل في مطعم. ولو عادت بي الأيام إلى الوراء، لعدت إلى بلدي بعد بضع سنوات فقط من الغربة، وأسست هناك مشروعاً خاصاً بي."
يرى حسين أن انتقاله من إيطاليا إلى لندن انتقال من غربة قديمة إلى غربة جديدة. ففي ميلانو، كان لديه أصحاب كثر، وكان يعرف ظروف الحياة، أما في لندن، فهو يحاول أن يبدأ من الصفر، كل همّه تعليم أولاده وتربيتهم بشكل سليم، هذا في نظره الاستثمار الحقيقي والمكسب المنتظر. لا ينسى حسين شيئاً من الأحداث التي عاشها خلال 25 عاماً من غربته. كما لا ينسى الذكريات السابقة عليها، خصوصاً منها وجوه أهله وأقربائه وأصدقائه الذين فقد تقريباً علاقته بهم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...