مركبٌ متهالكٌ يحمل على متنه الأمل والموت في آنٍ واحد، أتحدت عليه رغبة الهروب من الواقع الأليم مع حلم الثراء، ليقطع بهما المهاجرون بشكلٍ غير شرعي تأشيرة مرورٍ للآخرة، فالفرار من الحياة المريرة في مصر لا يمنح الشباب فرصة التفكير في المخاطرة والقدر الذي قد ينتظرهم، ولا تشغلهم وحشة البحر الذي قد يتحوّل إلى قبرٍ يبتلع أحلامهم وآمالهم وطموحاتهم، ويدفنها في أعماقه.
لا تزال معضلة الهجرة غير الشرعية من مصر إلى أوروبا صداعاً في رأس الوطن وغصةً في حلق المسؤولين، معضلةٌ لم تحلها القوانين الصارمة التي تفرضها السلطات على الهجرة ومن يساهم فيها، ومحاربة سماسرة الاتجار في البشر، وآخرها القانون رقم 82 لسنة 2016، والذي نصَّ على معاقبة كل من ارتكب جريمة تهريب المهاجرين، أو شرع فيها أو توسط لذلك، بالسجن لمدة لا تقلّ عن سنة، وغرامة تتراوح بين 50 ألف إلى 200 ألف جنيه مصري، هذا وتصل مدّة السجن للمؤبد في حال كانت عملية تهريب المهاجرين بواسطة جماعة إجرامية منظمة، أو في حال لقي المهاجر حتفه أثناء عملية التهريب، أو إذا كان المهاجرون من الأطفال أو ذوي الاحتياجات الخاصة، والمفارقة أن القانون نفسه لم يتطرّق إلى عقوبة الشخص الهارب.
أرقام
لا تكشف الأرقام الخاصة بالهجرة غير الشرعية زيادة الظاهرة أو تقلصها، فالأرقام التي نشرتها صحيفة الوطن هي أشبه بعملية المدّ والجزر، وكانت المنظمة الدولية للهجرة قد قدّرت ضحايا الهروب خارج حدود الوطن إلى أوروبا بشكلٍ غير قانوني عن طريق البحر بـ 587 شخصاً غرقوا في البحر المتوسط في العام 2018، في حين مات 1773 غرقاً في العام 2017، طبقاً للجنة الوطنية لمكافحة الهجرة غير الشرعية والاتجار بالبشر، والتي كشفت أن 58% من المهاجرين غير الشرعيين المصريين هم أطفال دون الـ18 عاماً.
ما تؤكده الأرقام أن السنوات التالية لثورتي يناير 2011 ويونيو 2013، شهدت أكبر عدد وفيات نتيجة الهجرة غير الشرعية من مصر عبر السواحل إلى أوروبا، وبحسب إحصائيات مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الجريمة، كان عدد ضحايا الهجرة غير الشرعية في العام 2014 قد وصل إلى 44 ألف ضحية، وتعتبر سواحل إيطاليا واليونان وتركيا في المراتب الثلاثة الأولى، كمقصدٍ للمصريين الهاربين خارج الحدود بطرق غير شرعية، مع العلم أن إيطاليا وحدها تمثل مقصد 98% من المصريين.
الفرار من الحياة المريرة في مصر لا يمنح الشباب فرصة التفكير في المخاطرة والقدر الذي قد ينتظرهم ولا تشغلهم وحشة البحر الذي قد يتحول إلى قبرٍ يبتلع أحلامهم وآمالهم وطموحاتهم
رحلة الموت
يروي حسين صالح (28 عاماً) من محافظة أسيوط تجربته مع الهجرة غير الشرعية لـ"رصيف 22" بالقول: "هاجرت من مصر عبر البحر المتوسط، من إسكندرية إلى ليبيا ثم إلى إيطاليا في العام 2007، عندما كنت في الخامسة عشر من عمري، عند وصولي إلى ليبيا، التقيت بأشخاصٍ من جنسياتٍ سورية وعراقية رافقوني الرحلة التي حاصرتها المخاطر من كل جانبٍ، وكان الموت يطرق بابها في كل لحظة، وعدت لمصر بعدها بست سنوات".
يكشف صالح أنه قرر السفر في ذلك الوقت، بسبب صعوبة المعيشة، ورغبته في مساعدة أمه المريضة حتى تتمكن من إجراء جراحة مفصل الحوض.
وعن "رحلة الموت" كما يصفها يقول: "كان من الصعب عليّ الهجرة في هذا السن المبكر، كما تألمت كثيراً لترك التعليم وضياع مستقبلي، كنت أعلم أن الهجرة بهذه الطريقة هي رحلة موتٍ متعددة الوجوه، عانيت خلالها من أهوالٍ لا يمكن وصفها"، ويتابع حديثه قائلاً: "لقد مكثت على متن قاربٍ في عرض البحر لمدة عشرة أيام من ليبيا إلى إيطاليا، كنّا 38 شاب تتراوح أعمارهم بين 14و 30 عاماً، لحظة الخروج من ميناء قرب الإسكندرية، مات منّا 7 شباب على متن القارب بسبب البرد والجوع، وخمسة آخرين غرقاً، وحينما وصلنا ليبيا ازداد عددنا إلى حوالي 320 فرداً، إلا أنه ما إن حط المركب رحاله قرب سواحل إيطاليا حتى مات البعض أيضاً خلال السباحة، بسبب ارتداء سترات متهالكة رائحتها عفنة، كان من المفترض أن تكون سترات نجاة".
يشير حسين إلى أن الناجين تفرقوا في المدن الإيطالية بحثاً عن عمل، وبالنسبة إليه فقد نجح خلال ست سنوات في توفير مبلغٍ مالي كبير، مكّنه من إرسال تكاليف السفر للسمسار الذي رتب عملية السفر، والتي بلغت نحو 25 ألف جنيه، تم سدادها على أقساط في مدة أقصاها سنة.
وعن الوضع في إيطاليا، يقول صالح: "تلقيت معاملةً جيدة في إيطاليا أفضل من المعاملة التي وجدتها في بلدي مصر، والسلطات الإيطالية تحترم الأطفال وتحميهم وتوفر لهم حياة كريمة، بخاصة الأطفال الذين يفقدون أسرهم وينزحون إليها عبر البحر، كما تمنحهم فرصة الالتحاق بمدارس مخصّصة للمهاجرين، وتقدّم لهم كذلك مقابلاً مادياً لمساعدتهم في الاندماج أكثر في هذه المدارس وفي الورش الحرفية".
المصير المجهول
صباح فرحات، سيدة في منتصف الأربعينات تعيش في مدينة أبو قير بالإسكندرية، ودّعت ابنها الوحيد "هشام" في منتصف مارس من العام الجاري، وتجهل حتى هذه اللحظة مصيره.
وعن تفاصيل سفر نجلها تقول لـ"رصيف 22": "لقد باع إبني توك توك وترك خطيبته واختفى دون أن يخبر أحداً، علمنا بعد اختفائه بأسبوع أنه سافر على متن زورقٍ إلى إيطاليا مع بعض أصدقائه مقابل 50 ألف جنيه، دفعها لبعض البحارة الذين ينظمون عملية تهجير الشباب".
وتتابع حديثها بالقول: "حتى اليوم لم نتمكن من الوصول إلى هؤلاء السماسرة للاطمئنان على حال هشام، نريد فقط أن نعلم هل مات في رحلةٍ يتقاذفها الموت من كل جانبٍ، أم نجا من البحر وسجن في إيطاليا، أم يعمل حيث هاجر وأستقر به الحال؟"، وتضيف: "إن كان بخير لماذا لم يتصل بنا؟ إحنا ناس غلابة لا نفهم في القانون ونخشى إبلاغ الخارجية والأمن بأمره، إذ نكون قد نصبنا له كميناً ويتم القبض عليه في حال كان حياً، الحزن يفتت كبدنا بخاصة وأننا لم نسمع عن رحلة هجرة تمت بشكلٍ غير شرعي لم يلفظ فيها عشرات الشباب أنفاسهم الأخيرة وهم يصارعون أمواج البحر".
وتوضح الوالدة أن ابنها عاش ظروفاً صعبةً وملَّ من البحث عن عملٍ يوفر لأسرته حياة كريمة ويلبي متطلباتهم، في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة ومصاريف الحياة، فقرر التخلص من هذه الظروف القاسية عن طريق الفرار للخارج، تاركاً أسرته تواجه المجهول.
الاندماج في مجتمعٍ جديد
تعتبر اليونان أيضاً مقصد الهاربين من مصر بطرقٍ غير شرعية، ففي العام 2014 هاجر 400 شاب إلى شواطئ اليونان، عن طريق 12 مركباً صغيراً من أماكن متفرقة، وفي أعماق البحر تم نقلهم جميعاً إلى سفينةٍ واحدةٍ كبيرة أقلتهم بعدها إلى قرب شواطئ اليونان، وتركتهم يواجهون مصيرهم على بعد 10 كم من السواحل، فمات منهم العشرات بينما نجح البقية في السباحة.
أحد الناجين من هذه التجربة هو الشيف إيهاب عمر الذي وصل اليونان منذ 5 سنوات، ويعمل في أحد المطاعم المرموقة.
يقول إيهاب (23 عاماً) لرصيف 22: "السفر من مصر إلى أوروبا يكون عبر 3 محطات في عرض البحر، البداية تكون بمركبٍ صغيرٍ يقلّ المهاجرين إلى داخل البحر، حيث يتركنا السماسرة نذهب لمركبٍ آخر كبير نقضي عليه قرابة أسبوعين، لحين أن نصل قرب سواحل اليونان، حيث ننتظر زوارق صغيرة من البلد الذي نقصده، إلا أن هذه الزوارق لم تتمكن من الوصول إلينا بسبب التشديدات الأمنية من حرس السواحل، فاضطررنا للسباحة كيلومترات حتى وصل من صمد منّا إلى الشاطئ، ومات من خرّت عزيمته ليسقط في قاع البحر".
لكن عمر يستدرك حديثه بالقول: "هذه المعاناة والمخاطر التي نعيشها أهون من هواننا في بلدنا التي ضاق صدرها بنا، أنا هنا أكسب عشرة أضعاف ما كنت أكسبه في مصر، والحكومة اليونانية تتساهل معنا، كما أنني أتعلم لغة جديدة لكي أندمج أكثر في المجتمع"، ويضيف: "لا أفكر في العودة لمصر، لكنني لم أنس أهلي وأرسل لهم مساعدات مادية بين الحين والآخر".
مكافحة الهجرة غير الشرعية
في إحدى مقابلاته، يكشف المحامي الحقوقي محمود البدوي، رئيس الجمعية المصرية لحقوق الإنسان ومساعدة الأحداث، أن هناك 7 مؤسسات في مصر لمراقبة الهجرة غير الشرعية ومحاولة الحدّ منها، مشيراً إلى أنها جهات تعمل في معزلٍ عن بعضها دون تنسيق: "بدليل أن الظاهرة مازالت موجودة وما زلنا ننعي كل يوم شهداء يبتلعهم البحر، فالإشكالية في مصر ليست في وضع القوانين ولكنها في كيفية تطبيقها على أرض الواقع"، على حدّ قوله.
ينتقد البدوي كيفية تناول القوى الناعمة في مصر، المتمثلة في السينما والمسرح والتليفزيون، لمسألة الهجرة غير الشرعية للشباب، وتصوير الهجرة على أنها أقصر طريق للثراء والرفاهية، معتبراً أنه في حال تناول الإعلام المصري والكتاب والأدباء هذه الظاهرة بصورةٍ واقعيةٍ، وقتها كان من الممكن الحدّ من الظاهرة، وأكد المحامي أن الحياة بعد الهجرة ليست رغداً ونعيماً، والغربة ليست جنّة كما يتصوّرها الأبناء، ومهما كانت المصاعب التي يعانيها الشباب في مصر فلا بدّ من رصد صورةٍ متوازنة لحياة الشباب بعد الهجرة، خاصة أن من بينهم من يتم استغلاله في تجارة المخدرات والدعارة الجنسية، ومنهم من يدخل السجون، ومنهم من يُستغلّ بواسطة المنظمات الإرهابية الكامنة في أوروبا، وهو ما أذاعه التلفزيون الإيطالي الرسمي العام الماضي، في تقريرٍ حمل عنوان: "لماذا يهاجرون إلينا؟".
ويكشف البدوي أنّ هناك ثغرة في المادة 286 من قانون الهجرة والجنسية الإيطالية، الخاص بحماية الأطفال والنساء المهاجرين بشكلٍ غير شرعي، بحيث تلتزم الدولة الإيطالية باستقبالهم والتكفل بهم، لكن السلطات هناك تفقد الاتصال بهؤلاء المهاجرين بعد تمكين أوضاعهم وحصولهم على فرص عمل مناسبة، وهي مادة لم تتحرك السلطات المصرية لتعديلها لضمان الاتصال برعاياها من المهاجرين، وفتح حلقة اتصالٍ معهم ومراقبة تحركاتهم من خلال السفارة والقنصلية المصرية في إيطاليا.
الحياة بعد الهجرة ليست رغد ونعيم، والغربة ليست جنّة كما يتصورها الأبناء
ورغم الجدل الكبير حول مخاطر الرحيل وحلم الشباب، كانت قضية الهجرة غير الشرعية من مصر وفشل السيطرة عليها، محور نقاش لجنة فض النزاع والعلاقات الدولية بالبرلمان في 6 أغسطس الجاري، خلال جلسةٍ طارئة شهدت مشاركة 27 وزارة وجهة لمكافحة جريمتي الإتجار بالبشر وتهريب المهاجرين، وتحدثت فيها السفيرة نائلة جبر، رئيس اللجنة الوطنية التنسيقية لمكافحة ومنع الهجرة غير الشرعية عن أهمية اتخاذ اجراءاتٍ تنسيقية مع منظمة الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية والإتحاد الإفريقي، للحدّ من هذه الظاهرة التي تحقق أرباحاً لمافيا المهربين تفوق تجارة المخدرات والسلاح.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...