زاخرٌ هو الأدبُ العربيّ بأوصاف النبيذ ومجالسه وأدوات شربِه وأحواله، وعشرات الأبيات سطرتْها أقلامُ الشعراءِ العربِ في "الشعر الخَمري" ابتداءً من الشعر الجاهليّ الذي صدح فيه طرفة بن العبد "فَمِنْهُنَّ سَبْقي العاذِلاتِ بِشَرْبَةٍ/ كُمَيْتٍ متى ما تُعْلَ بالماءِ تُزْبِدِ"، واضعاً الخمرةَ إلى جانب المرأة والفروسية، لتكون أركان لذّته الثلاثة في الحياة، ولتغدو "الخمرياتُ" سنّةً شعرية مستمرة حتى في العصور اللاحقة.
حرّم الإسلامُ شربَ النبيذ، فتجنّب الشعراء عن نظم "الخمريات" في صدر الإسلام، رغم أن حسّان بن ثابت الملقّب بـ"شاعر الرّسول" قد قال عنها: "ونشربُها فتتركنا ملوكاً". ثمّ عاد الشعرُ الخمريّ في العصر الأموي، وتطوّر في العصر العبّاسيّ ليصبح نوعاً أدبياً بارزاً، لاسيّما على يدِ أبي نواس الأهوازي الذي لُقّب بـ"أبي الخمريات" و"شاعر الخمر"، وجهَر بحبّه المخلص للنبيذ في معظمِ شعرِه، فما زال صوته يأتي من خلف الأزمنة والأراضي منادياً: "ألا فاسقِني خمراً، وقل لي هي الخمرُ".
أما الأدب الفارسيّ فلا منازع فيه لعمر الخيّام الذي جعل نفسَه عبداً للحظة التي يقول له الساقي فيها: خذ قدحاً آخر، وهو لا يستطيع (من فرط النشوة)، وقد دخلت رباعياتُه التي يدعو فيها إلى الابتعاد عن هموم الحياة واغتنام اللحظة واللوذ بالرحيق، مجرّةَ الأدب العالميّ ولمعت فيه، ومَن منّا يمكنه نسيان تلك الأبيات الحرّةَ الخيّامية بترجمتها الجميلة إلى العربية، والتي أنجزها "أحمد رامي"، وكَسَتْها بحلّة السِّحرِ والفتنة كوكبُ الشرق؟: "هبّوا املأوا كأسَ المنى قبل أن/ تملأ كأسَ العمرِ كفُّ القدَر".
أما الأسماء التي وهبها العربُ للخمر فهي سجلّ اهتمام وألفة عريقين، ولا يضمّ القاموس اللغويّ العربيّ عديداً من المفردات للخمر، بل تشغل هذه المفردات سطوراً من المعاجم العربية؛ الرحيق، الخِندريس، القُرقُف، الرّاح، الرّحيق، القهوة، الطِّلاء، الكُميت، الحُميّا، السلسبيل، المُدامة، البِكر، العروس، الزّرقاء، البابلية، السامرية، وليلى، والصافية، إلخ، وكلّ اسم منها يُطلق على نوع محدد من النبيذ وفق مصدره ووقته ولونه، وعوامل أخرى.
ورغم أن ما يسمى بالعصر الذهبي في التاريخ العربي والإسلامي (منتصف القرن الثامن لغاية القرن الرابع عشر والخامس عشر الميلادي)، شهد ازدهارَ الحديث عن الرّاحِ ووصفِ المدامة وأوانيها وأحوالها ومجالسها كجزء من ترفٍ اجتماعي وأرستقراطية وبذخ، إلا أن الخمرة اتّسعت تآويلها في ما بعد ليخرجَ المرادُ بها من إطار ذلك السائل الجميل الذاهب بالوعيِ والواهب النشوةَ إلى رمز للحبّ الإلهي والمعرفة والشوق على يدِ المتصوفة، والحانات إلى المكان الذي هو نقطة اتصال المحبّ بالحبيب (الإله) وكلّ ما يتعلق بالنبيذ إلى دلالات عرفانية، وقد بلغ ذلك قمّته في القرن الثامن الهجري، ما جعل التراث الأدبيّ العربيّ والفارسي يشهد رونقاً معرفيّاً مازال يُثنى عليه عالميّا، ابتداءً من الشيخ الأكبر ابن عربي حتى رابعة العدوية، والسهرورديّ، والعطار النيشابوري، والرومي، وحافظ الشيرازي، حتى ابن الفارض الذي أعلن: "شرِبنا على ذكرِ الحبيبِ مدامةً/ سكرنا بها من قبلِ أن يُخلقَ الكرْمُ".
في عصرنا الحاليّ، سواء إن كنا من شاربي الخمرِ أم لم نكن، فهو جزء من واقعنا وحياتنا، بكلّ ما يتعلق به من طرق الشّرب وأنواعه وأماكنه، ابتداء من الأصدقاء المحبين له إلى الإعلانات التجارية والحانات المنتشرة في كثيرٍ من المدن، سواء في المدن التي نقطن فيها أم نسافر إليها، فهذه الحانات لم تعد مكاناً للسُّكر فقط، بل هي في كثير من الأحيان مراكز ليتعرّف المسافرون فيها على أسلوبِ حياةٍ وثقافةٍ وتكوين اجتماعي في المدن التي تحتويها، إضافة إلى أجوائها التي تُشعر المسافرين ببهجةٍ، وتجعلهم يشاركون الروّادَ نشواتهم وإن كانوا لا يشربون؛ وهذا ما يجعل المسافر/المسافرة يتجه/تتجه في بعض الرحلات إلى حانة حميمة برفقة الأصدقاء رغم أنه/أنها لا يشرب/تشرب، مثلي أنا، كاتبة هذه السطور التي تهتمّ بهذا التراث لغنائه ومجاله الواسع رغم أنها لا تشرب!
في الملفّ المُعدّ لشهر أكتوبر في قسم "رود تريب" بـ"رصيف22" والمعنوَن "بصحتك يا ساقي... بارات عربية لا بدّ من زيارتها"، تسافرون معنا إلى عدة مدن عربية أو مدن من دول الجوار لتشاركونا قصصَ باراتها وأجواءَها، دفئاً لبداية الخريف، ومشاركةَ نشوته معاً.
يضمّ هذا الملفُّ بارات من البحرين إلى الجزائر وتونس، ومن مصر إلى إسطنبول إلى مدن وبلدان أخرى، بالإضافة الى بعض البحوث التي تتعلق بالخمر والنبيذ في تراثنا العربيّ والشرقيّ؛ فبصحكتم كلّ نشوة ستعتريكم من قراءة كلّ مقال!