ذات يوم توجّه الملك الفارسي جمشيد إلى رحلة صيد، فرأى في بعض الجبال كرمةً وعليها عنب، فظنّها من السموم، فأمر بحملها حتى يجرّبها ويُطعم العنب لمن يستحق القتل. فحملها خادموه، وكُسَّرت حباتها، فعصروها وجعلوا ماءها في ظرف، فما عاد الملك إلى قصره إلا وكان العصير قد تخمر. فأحضر رجلًا وجب عليه القتل، فسقاه من ذلك فشربه بكرهٍ ومشقة، فنام نومة ثقيلة، ثمّ انتبه فقال: اسقوني منه، فسقاه أيضًا مرارًا، ولم يحدث إلا السرور والطرب.
تلك القصة هي المرجع الرئيسي التي يستند إليها الكثيرون في نسبة نشأة الخمر على يد أهل فارس، كما يروي سراج الدين بن الوردي، في كتابه "خريدة العجائب وفريدة الغرائب"، الذي يبحث فيه عن غرائب البلدان والبحار والتاريخ، كما هو مدوّن على صدر مؤلفه.
بعد قرون من اكتشاف جمشيد لذلك السائل المُسكر، وأثره الجالب للسرور والطرب على نفس شاربه، جاء من نسل فارس رجل أجاد وصفَ الخمر حتى صار العمدة في ذلك، بل أنه جعلها الداء والدواء، ولا تنزل الأحزان ساحتها أبدًا، ولو مسّها حجر مسّته سرّاء. إنه شاعر الخمريات الأشهر الحسن بن هانئ بن عبد الأول بن صبّاح الحكميّ بالولاء، المعروف بأبي نواس (لذؤابتين من الشَعر كانتا تنوسان على عاتقه).
الزعيم في كنفِ أستاذه والبة بن الحباب
تضاربت الأقوال في تاريخ مولد أبي نواس، فقيل سنة 136 هـ، وقيل في 154 هـ، وآخرون يشيرون إلى أنه ولد عام 148 هـ، وغيرهم يؤكدون أنه سنة 149 هـ؛ لكن هناك إجماع على أن مسقط رأسه بالأهواز، ونشأته بالبصرة، ثم رحيله إلى بغداد التي اتصل فيها بالخلفاء من بني العباس، وخرج إلى دمشق، ومنها إلى مصر، ثم عاد إلى بغداد، وتوفي على أراضيها، وفق ما ذكره خير الدين الزركلي في "الأعلام"، بينما يروي ابن عساكر أن أباه كان دمشقيًا من جُند مروان بن محمد، وانتقل إلى الأهواز، وتزوّج امرأة من أهلها تُدعى "جلبان"، فولدت له ولدين، أحدهما أبو نواس.
التضارب الموجود في سنة مولده نجده كذلك في وقت وفاته، كما يشير الكاتب علي فاعور في مقدمة شرحه لديوان أبي نواس، فهناك من يقول إنها كانت عام 195هـ، وآخرون يؤكدون أنها بعد ذلك بعامين.
وكان أستاذه وراعيه والبة بن الحباب، قد تنبأ له بغواية أمة محمد، قائلًا: "رأيت فيما يرى النائم كأن إبليس أتاني فقال: تُرى غلامك الحسن بن هانئ؟ قلت: ما شأنه؟ قال: إن له شأنًا، والله لأغوينّ به أمة محمد، ثمّ لا أرضى حتى أُلقي محبته في قلوب المرائين من أمّته
لم ينعم أبو نواس بطفولة هانئة، فما إن مات أبوه، حتى صرفته الأمّ إلى عطّار ليعمل عنده في أسواق البصرة، وكان ذلك سببًا في بداية صلته بأحد أشهر شعراء الخمريات في العصر العباسي الأول، وهو والبة بن الحباب الأسدي، القائل: "قلت ﻟﺴﺎﻗﻴﻨﺎ ﻋﻠﻰ خلوة/ أدن كذا رأسك من رأسي/ ونَم على وجهك لي ساعة/ إني امرؤ أنكح ﺠﻼﺴﻲ".
ويقول علي فاعور، إن والبة قدِم من الأهواز إلى البصرة ليشتري بخورًا، وكان أبو نواس طفلًا يبري الأعواد لدى العطار، فما إن رآه ابن الحباب حتى كاد عقله يذهب، "فلم يزل يختدعه حتى صار إليه، فحمله إلى الأهواز، وقدِم به الكوفة، فشاهد معه أدباءها في ذلك الوقت وتأدب بأدبهم".
إبليس يُغوي بأبي نواس أمة محمد!
رحل أبو نواس من البصرة إلى بغداد، بعد خروجه سنة كاملة إلى البادية ليقوّم لسانه على العربية الفصيحة، فاتّصل بالبرامكة وآل الربيع، ومدح الرشيد، الذي لم يلبث أن سجنه، فتوجّه حينئذ إلى مصر، ومدح واليها الخصيب؛ لكنه لم يقم عنده طويلًا، بل هجره وهجاه، وقفل عائدًا إلى بغداد، ولما وصل الأمين إلى الخلافة، انقطع الشاعر العباسيّ له، وأصبح شاعره ونديمه؛ حتى سجنه هو الآخر عقب احتدام الخلاف بينه وبين أخيه المأمون.
تلك الرحلة أثقلت تجربة أبي نواس الشعرية، وبشّرت بميلاد زعيم الخمريات، بحسب تعبير طه حسين في "حديث الأربعاء"، الذي قال: "لا نعرف من يُقدّم أحدًا على أبي نواس في وصف الخمر والافتتان بها، ولقد كان بعض الرواة يغلون في ذلك، فيزعَم أن أبا نواس قد وصف الخمر وصفًا لو سمعه الحسنان لهاجرا إليها، ولعكفا عليها (يريد الحسن البصري وابن سيرين)".
خمريات أبي نواس دُوِّنت بشأنها العديد من الدراسات البحثية، لأنها بحسب الباحث الإيراني الدكتور يوسف هادي بور "مشرقة منيرة دائمًا، تضيء أينما وُجدت في البيت أو ألحانه
وكان أستاذه وراعيه والبة بن الحباب، قد تنبأ له بغواية أمة محمد، قائلًا: "رأيت فيما يرى النائم كأن إبليس أتاني فقال: تُرى غلامك الحسن بن هانئ؟ قلت: ما شأنه؟ قال: إن له شأنًا، والله لأغوينّ به أمة محمد، ثمّ لا أرضى حتى أُلقي محبته في قلوب المرائين من أمّته، وقلوب العاشقين، لحلاوة شعره".
خمريات أبي نواس دُوِّنت بشأنها العديد من الدراسات البحثية، لأنها بحسب الباحث الإيراني الدكتور يوسف هادي بور "مشرقة منيرة دائمًا، تضيء أينما وُجدت في البيت أو ألحانه: ترى حيث ما كانت من البيت مشرقا/ وما لم تكن فيه من البيت مغربا/ يدور بها ساقٍ أغن ترى له/ على مستدار الأذن صُدغ معقربا".
والخمر عنده وسيلة للفخر، يبذل فيها الدر والياقوت: "إني بذلتُ لها لما بصرت بها/ صاعاً من الدر والياقوت ما ثُقِبا/ يا قهوة حُرّمت إلا على رجلٍ/ أثرى فأتلف فيها المال والنشبا".
وللصورة الشعرية عند أبي نواس موقع هامّ في خمرياته؛ فنجده يصف بدقة مشهد زيارته للحانةِ في جُنح الليل برفقة أصدقائه، قائلًا: "يا رُبَّ منزل خمر أطفتُ به/ والليل حُلّتُه كالقار سوداءُ/ فقام ذو وفرة من بطن مضجعه/ يميل من سُكره والعين وَسناءُ/ فقال: من أنت في رفقٍ/فقلت له: بعض الكرام ولِي في النعتِ أسماء"، وتكتمل لحظة الذروة عنده كأديب بارع، فينظم: "قلت: إني نحوتُ الخمر أخطبها/ قال: (الدراهم) هل للمهر إبطاءُ؟ لما تبين أني غير ذي بُخل/ وليس لي شُغل عنها وأبطاءُ/ أتى بها قهوة كالمسك صافية/ كدمعة منحتها الخد مرهاء".
لم يفتح سراويله لحرامٍ قطّ
اشتهار أبي نواس بالخمريات وتزّعُمِه لمنهج التجديد في الشعر، من حيث اللغة والأسلوب والمضمون، أو ما يسمّيه طه حسين "عدم الكذب على النفس" ساهم في تكوين صورة ماجنة عنه، خاصة بعد نظمه أبياتًا تمدح الغلمان وليس التغزّل في النساء فحسب؛ لكن الشاعر ذاته يُنكر اقترابه من الحرام بقوله: "والله ما فتحتُ سراويلي لحرام قط"، وفقًا لرواية ابن عساكر، ويروي ابن منظور أيضًا أن الجمّاز دعاه للتوبة، فأجابه: "يا أبا عبد الله ما أشركتُ بالله طرفة عين قطّ".
ويروي ابن كثير في "البداية والنهاية": "قال له محمد الأمين بن الرشيد: أنت زنديق. فقال له أبو نواس: يا أمير المؤمنين لست بزنديق وأنا أقول: أصلّي الصلاة الخمس في حين وقتها/ وأشهد بالتوحيد لله خاضعًا/ وأُحسن غُسلي إن ركبت جنابة/ وإن جاءني المسكين لم أكُ مانعا/ وإني وإن حانت من الكاسِ دعوة/ إلى بيعة الساقي أجبتُ مسارعًا/ وأشربها صرفا على جنب ماعز/ وجدي كثير الشحم أصبح راضعا/ وجواذب حواري ولوز وسكر/ وما زال للخمار ذلك نافعا/ وأجعل تخليط الروافض كلّهم/ لنفخة بختيشوع (طبيب الخلفاء) في النار طائعا. فقال له الأمين: ويحك! وما الذي ألجأك إلى نفخة بختيشوع؟ فقال له: به تمّت القافية. فأمر له بجائزة".
وعُرف عن أبي نواس أنه ختم حياته بالزهد، فيروي أبو البركات الأنباري، في كتابه "نزهة الألباء في طبقات الأدباء": "عن أحمد بن يحيى، عن محمد بن رافع، قال: كأن أبو نواس لي صديقًا، فوقعت بيني وبينه هجرة في آخر عمره، ثمّ بلغتني وفاته؛ فتضاعف عليّ الحزن، فبينما أنا بين النائم واليقظان؛ إذ أنا به، فقلت: أبو نواس! فقال لات حين كنية! قلت: الحسن بن هانئ؟ قال نعم، قلت: ما فعل الله بك؟ قال غفر لي بأبيات قلتها، هي تحت ثني الوسادة، فأتيت أهله؛ فلما أحسوا بي أجهشوا بالبكاء، فقلت: هل قال أخي شعرًا قبل موته؟ قالوا: لا نعلم، إلا أنه دعا بدواة وقرطاس، وكتب شيئًا، لا ندري ما هو، فقلت: أتأذنون لي أن أدخل؟ فدخلتُ إلى مرقده، فإذا بثيابه لم تُحرّك بعد. فرفعت وسادة فلم أرَ شيئًا. ثمّ رفعت أخرى؛ فإذا أنا برقعة فيها مكتوب: يا ربّ إن عظمت ذنوبي كثرة/ فلقد علمتُ بأن عفوك أعظم/ إن كان لا يرجوك إلا مُحسن/ فبمن يلوذ ويستجير المجرم؟/ أدعوك ربِّ، كما أمرتني، تضرعا/ فإذا رددتَ يدي، فمن ذا يرحم؟".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...