يأتي هذا المقال ضمن الملفّ المُعدّ لشهر أكتوبر 2019, في قسم "رود تريب" بـ"رصيف22" والمعنوَن: "بصحتك يا ساقي... بارات عربية لا بدّ من زيارتها".
الساقي الأنيس كشبّاكٍ خشبيّ
سنطلب "سانغريا". قالا، ثمّ عزفا عن ذلك. هذا الشراب يحتاج إلى أندلس، وإلى أنفاس راقصة فلامنكو في الكأس الحمراء، وإلى "خيل على وتر من سراب وماء يئنّ".
في البار الصغير الذي يتوسط زحمة من البارات، اختارا "إيفيس"، بيرة الأتراك، ثم فجأة كعادة إسطنبول استسلمت المدينة لهطل ثلجيّ مفاجئ، فكانت الفودكا. لا يحبها الاثنان بالأناناس والبرتقال، بل بالليمون وخيار مقسم طولياً ونعناع، وشريحة بنزهير.
أمسى البار الذي لم يحفظا اسمه، محفوظاً عن ظهر قلب، لا لشيء سوى أن الساقي كان عائليّ الترحيب. اللطف الزائد عن حدّه يثير الريبة. ربما لأنهما قادمان من رواية "شرق المتوسط" لعبد الرحمن منيف. أيّ مبالغة حتى في اللطف تستحضر صورة الفخّ. أما هذا الساقي، فكان ذا عاطفة غير باهظة، أنيساً مثل شبّاك خشبي.
غادر الشابّ المدينةَ. وقعت في أيلول الماضي هزة أرضية قوية تحت إسطنبول المزدحمة بالبارات. اطمأنّ على البنت، وبعد مقدمة اعتذارية سألها عن بارهما الصغير في "تقسيم": "هل تضرر؟ أعني اسمي واسمك وقلب حبّنا على الجدار."
لا تعتذر عن شأن صغير عمّا تظنه صغيراً. قالت البنت: ما زال الجدار مزدحماً بأسماء العشاق والقلوب المرسومة. إسطنبول واقفة، وأضافت مازحة: الزلزال مع الجماعة رحمة.
بار بيترو في عمّان
لا يعرف بار "بيترو" في عمّان إلا الضالعون في ما خلف الأزقة. يبدو أنه كان ذا صيت حين تأسّس في 1953 لبيع الخمور على بضعة رفوف، وساندويشات المرتديلا. لكنّ عقوداً تالية ستجعله أثراً بعد عين. مات صاحبه وسقطت اللافتة المكتوبة بخط اليد اليمنى.
غير أنكم لن تنتبهوا إلى "بيترو". لا توجد علامة واضحة. قال صديقي وهو يدفع الباب: سندخل هنا. دخلتُ، وإذ بمكان لا يتسع لأكثر من ثمانية أشخاص
في بيت السيدة الطهرانية، شربنا خمراً يُشترى غالباً من الطائفة الأرمنية هناك، في كؤوس صغيرة. وإذ نشرب في طهران، كان بيننا وبين الشارع المحروس بتقاليد الدولة حوش صغير
لا يمكن للعابرين أن ينتبهوا إليه. ثمة، على مقربة بار "الأوبرج" الشهير بأباريق العرق مع صواني اللحمة، أو مع طلبيات السمك من مطعم سارة على بعد أمتار. يمكنكم أن تصطدموا اصطداماً رفيقاً بـ"فلافل فؤاد"، أو بقالة الوحمة التي تبيع النساء الحبالى فواكه مبرّدة في غير موسمها، أو بائع جوارب، أو جمهرة حول عامل مصري يغنّي مواويل بلدية، وصوته من خامة المقرئ الطبلاوي.
أمسى البار الذي لم يحفظا اسمه، محفوظاً عن ظهر قلب، لا لشيء سوى أن الساقي كان عائليّ الترحيب. اللطف الزائد عن حدّه يثير الريبة. ربما لأنهما قادمان من رواية "شرق المتوسط" لعبد الرحمن منيف
غير أنكم لن تنتبهوا إلى "بيترو". لا توجد علامة واضحة. قال صديقي وهو يدفع الباب: سندخل هنا. دخلتُ، وإذ بمكان لا يتسع لأكثر من ثمانية أشخاص. ثلاثة أمتار في مترين. هذا هو المتاح. ولأنه كذلك، فإن زبائنه لا يبدون زبائن. كل واحد منهم، ربّ البيت.
وقع ذلك في الصيف الماضي، ولذلك كانت المازة عنباً وجبنة فيتا للزبون الذي يعادل ربّ البيت. دعانا بودّ. شكرناه وشربنا مع الفول السوداني.
لا أثر للمرأة هنا
أبلغني صديقي حسام أنه عثر على بار رخيص. يمكنكم هنا أن تشربوا الفقاع (البيرة) وتلعبوا بلياردو وتشاهدوا على شاشة البروجكتر أهداف كرة قدم تمزّق الشباك، ورجلاً خلفنا من أميركا اللاتينية يناقش بحدّة على الموبايل شخصاً أو شخصة.
يسأل حسام بصوت فحيح: كلّ من هنا رجال، لا أثر لامرأة واحدة. قلت: أين المشكلة؟ قال: هذا ضدّ الطبيعة. قلت: إن أسوأ ما في حضور النساء إلغاء ملَكة الخيال. نحن في العشر الأواخر من الراتب ليس لنا إلا أن نتخيل.
مع همنغواي
في فيلم Midnight In Paris يرحل الرومانسي "غيل" من الزمن الحاضر إلى بداية القرن العشرين، ويقابل أرنست همنغواي في بار.
وبتوتّر يقول "غيل" لهمنغواي إن لديه رواية مخطوطة من 400 صفحة، وهو فقط يطلب أن يطلع عليها، ويقول رأيه.
همنغواي: رأيي أنني أكرهها.
غيل: ولكنك لم تقرأها بعد.
همنغواي: إذا كانت سيئة فسأكرهها، وإذا كانت جيدة سأشعر بالحسد، وأكرهها أكثر. الكتّاب متنافسون، وأنت لا تحتاج لرأيِ كاتب آخر.
لكن غيل جادل بحذر، بأن لا بأس في تبادل الرأي حول كتابات بعضنا البعض.
هنا خبط الملاكم همنغواي الطاولة خبطة أفزعتني، وأنا أحمل كرتونة بيض، وقال: إذا كنت كاتباً اعتبر نفسك الأفضل.
هذا سينما. أما الواقع، فيقول إن إزرا باوند حرّر، وشطب صفحات من رواية "العجوز والبحر" بطلبٍ من همنغواي.
لكنني أثق بالسينما، خصوصاً أن همنغواي كان في البار يسكرُ بصدق.
في طهران
كانت صديقتي الطهرانية (نسبة إلى طهران) ترتدي وشاحاً يلبّي تقاليد النظام الإسلامي. ولا بارات في المدينة الشاسعة. وكما هي حال الوشاح المرخى لعموم النساء ما عدا المتديّنات حرفياً، يجري الالتزام بغياب البار في الحيز العام، والتمرّد عليه في الحيز الخاص.
تنزل الدركات إلى تحت ثمّ تصعد الدرجات. أنت إذن في أحد المطاعم التي تتبارز في أنواع المشاوي. تسأل عن هذه المطاعم العريقة التي تحت، فيأتي الجواب: إنها كانت صالات ديسكو في زمن الشاه، وبعد الثورة الإسلامية أصبحت فقط مطاعم، ولا تقدّم من المشاريب إلا العصائر والألبان.
قد تبقى من ذك الزمن بضعة عازفين كبار في السن. عرفوا أننا ضيوف عرب، فعزفوا لنا "أم كلثوم". كان الكمنجاتي والعوّاد وضارب الدف يستعيدون ذكرى قديمة، ولكنها الآن مع عصائر وألبان بمذاقات مختلفة كالنعناع والكمون.
في بيت السيدة الطهرانية، شربنا خمراً يُشترى غالباً من الطائفة الأرمنية هناك، في كؤوس صغيرة. وإذ نشرب في طهران، كان بيننا وبين الشارع المحروس بتقاليد الدولة حوش صغير.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومينتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه