كتب الأديب المصري الراحل نجيب محفوظ عن "الفتوة" مستلهماً أبطالاً لرواياته من حياة الفتوات الذين كانوا يأخذون إتاوات من جميع سكان ودكاكين الحارة مقابل حمايتهم وعدم التعرض لتجارتهم. ومَن كان منهم يُظهر أمارات الاعتراض، كان يجد ضربات النبوت والسكين في أنحاء متفرقة من جسده فيذعن ويدفع الإتاوة المطلوبة.
اختلف شكل "الفتوة" القديمة مع فرض الدول العربية سيادتها على أراضيها وإنشائها مؤسسات نظامية وأجهزة أمنية تحتكر فرض القانون. ولكن جرت العادة على أنه كلما تخلصنا من شيء سيئ يأتي ما هو أسوأ منه. فظهر مصطلح البلطجة في أبشع صوره، وصار كل شيء مباحاً بقوة السطوة والسلاح لانتزاع أكبر قدر من المال من الناس باستخدام كل أساليب الترهيب والعنف والإكراه.
في مصر، تظهر أشكال مختلفة من البلطجة وهي تحدث بشكل يومي وفي وضح النهار في ظل غياب وتجاهل من الأجهزة الأمنية يصل إلى التواطؤ، فلا يجد المواطن مَن يجيره من سطوة البلطجية.
بلطجية الكارتة
حين تأخذك قدماك إلى أي موقف ميكروباصات في مصر، أمعن النظر جيداً في أنحاء وجنبات الموقف، تجد رجلاً مسؤولاً عن أخذ مقابل مادي من كل سائق يتأهب للسير بعد أن تمتلئ سيارته بالركاب. هذا الشخص يسمى الـ"الكارتجي" ويأخذ كارتة مقابل كل دور لسيارة الأجرة.
وتختلف الكارتة على حسب فئة الأجرة التي يدفعها الركاب، لكن متوسط ما يدفعه كل سائق يراوح بين ثلاثة وخمسة جنيهات عن كل دور لتحميل الركاب من الموقف.
يقول سعيد محمود، سائق على خط الجيزة - إمبابة، إن السائقين لا يستطيعون رفض دفع الكارتة لأن البلطجي الذي يأخذ من السائقين الكارتة ليس شخصاً وحسب بل هو مؤسسة متشابكة، "مصلحة كبيرة والكل بياكل منها"، والسائق الذي يرفض الدفع لا يدخل الموقف ولا يُسمح له بتحميل السيارة بل يتعرض للتعدي عليه لفظياً وجسدياً.
ويروي: منذ شهرين، في ميدان الجيزة، جاء إلي الكارتجي ليأخذ "إتاوته" فقلت له: "خليها الدور الجاي علشان لسة ساعة استفتاح". رأيته يشاور أمين الشرطة الذي يحمل دفتر المخالفات، وتقدم الأمين وطلب رخصتي ووبخني وهددني بكتابة نمرة السيارة فاضطررت إلى الدفع و"حسبنت ربنا عليهم".
في مصر تختلف أشكال البلطجة.. والأمن بين متجاهل ومتواطىء
في مصر تتجلى البلطجة في أبشع صورها، من بلطجية الكارتة الى بلطجة السليس
وعادةً يكون الكارتجي شخصاً "حبسجياً قديماً" (سجين سابق) وعليه العديد من الأحكام والقضايا ويقف في الموقف ومن حوله يقف بعض تابعيه الذين يستدعيهم إذا رفض أي سائق دفع الكارتة.
ومن أشهر الكارتات في محافظة الجيزة كارتة الكوبري الخشب - تقاطع شارع السودان وشارع التحرير، ويعتبر أكبر موقف لتحميل عربات فيصل وبولاق وأرض اللواء وإمبابة. ونظراً لطول شارع السودان يوجد كارتة أخرى في منتصفه قبل مزلقان أرض اللواء.
"خطف" السيارة وبدء المفاوضات
تبدأ الحكاية في أغلب الحالات بعد الثانية عشرة من منتصف الليل بأحد الطرق المظلمة بعد أن تكون قد تركت حدود القاهرة والجيزة وأنت في غاية الاستعداد والتركيز لتصل إلى وجهتك آمناً.
يحكي لنا المحامي محمد الأشقر وهو من ضحايا سرقة السيارات على طريق قليوب المؤدي إلى مدينة شبين القناطر بمحافظة الغربية، أن نقطة انطلاق رحلته كانت من حي السيدة زينب بالقاهرة ووصل إلى منتصف طريق قليوب في الواحدة إلا ربعاً ليلاً، فسمع دوي رصاص مصاحباً لشرر ناري على الأسفلت أمام سيارته، فعزم ألا يقف وزاد السرعة ولكنه اكتشف أن هناك كميناً تم إعداده جيداً من قبل أفراد عصابة من ستة أشخاص يقفون على مسافات متباعدة في محيط 500 متر. وبدأوا يطلقون النار حتى أصابوا الإشارات الضوئية الخلفية للسيارة في إشارة منهم إلى أن الخطوة المقبلة ربما تكون تصفيته وتفجير السيارة.
رضخ في النهاية وتوقف وإذ بثلاثة من الملثمين يخرجونه من السيارة ويأخذون كل متعلقاته مع نهره إذا نظر تجاه أعينهم. واعتدوا عليه بـ"ضربات تأديبية" لعدم توقفه منذ أول طلقة وجهت نحوه.
أخذوا منه السيارة وتركوه على الطريق حتى وجد سيارة شرطة (انتشار سريع) ولكن عناصر الشرطة أكدوا له أنهم لم يسمعوا شيئاً ونصحوه بالذهاب إلى بيته حتى يبدأوا التفاوض معه.
وبالفعل طلبهم على هاتفه الذي استولوا عليه وبدأت رحلة التفاوض التي استمرت حوالي ست ساعات وكانت خلاصتها دفعه 8000 جنيه بدلاً من 20 ألفاً لاستعادة سيارته.
محدش كبير على التثبيت
التثبيت مصطلح شعبي في مصر ويعني السرقة بالإكراه وتحت تهديد السلاح، وللأسف ليس هناك أي إجراءات احترازية يمكنها أن تجنبك من خطر التثبيت في أي وقت ومكان.
تثبيت الأشخاص في مصر له عدة أشكال، فإذا كنت تركب ميكروباص ليلاً في طريق العودة إلى منزلك توقع أن يتم وضع سكين على رقبتك من الشخص الجالس خلفك، وأخرى في جانب بطنك من الشخص الذي يجلس بجانبك وذلك بالتنسيق مع السائق. لا ينصح بأن تظهر الشجاعة فالوضع أعقد مما يتخيله أحد وربما تلقى حتفك إذا قاومت.
وما يحدث في الميكروباص قد يحدث في التاكسي والتوكتوك مع اختلاف السيناريو ونوع الأسلحة.
كاتب هذه السطور تم تثبيته على كوبري الجامعة المؤدي إلى حي المنيل بمحافظة الجيزة وجرى إعداد كمين ذكي جداً من أجل أن ينجز البلطجية مهمتهم بأسرع وقت، فالمكان مكشوف إلى حد كبير: اثنان كانا يقفان في محيط 50 متراً أحدهما يتكلم على الهاتف والآخر يحاول تصليح شيء في دراجته النارية. وبمجرد أن عبرت من الأول ووصلت إلى محاذاة الثاني احتضنني الأول من الخلف وفي أقل من ثلاث ثوان اقتربت دراجة نارية كانت تقف في الجانب الآخر من الطريق وعليها اثنان راحا ينكزانني بالسكاكين بطريقة عشوائية حتى يستوليا على هاتفي الخلوي.
وعندما حاولت ضرب أحدهم لكي أجري كان تصرفي خطأ فادحاً إذ انهالوا علي بالضرب وجُرحت في يدي اليمنى أسفل الكف بجانب الشريان مباشرة، فقرر أحدهم أن ينهي الأمر وأخرج "مقروطة" من سرواله، والمقروطة هي عبارة عن مسدس خرطوش محلي الصنع أمامي ليؤكد لي جديته، وبالفعل كانت القشة التي أنهت كل ما تبقى من محاولات مقاومة، وعدت بدون هاتفي مع ثلاثة غرز.
ادفع ونسيبك تبيع
تنتشر هذه النظرية في العديد من الأسواق والمحلات التجارية في مختلف مناطق محافظتي الجيزة والقاهرة. لكل منطقة عدة بلطجية ذائعي الصيت ولا يعملون، يفرضون إتاوات شهرية على بائعي الخبز والخضروات والملابس الذين يفترشون الأرض وتراوح قيمتها بين 200 و400 جنيه.
وأكد أحد الباعة بمنطقة ميدان الدقي أن هناك شخصاً من عزبة أولاد علام، حي صغير بقلب منطقة الدقي، هو المسؤول عن حماية عدة أكشاك وباعة جوالين يعرضون بضائعهم بجوار محطة المترو بالميدان نظير مقابل يومي حتى لا يطردهم أو يؤذي تجارتهم.
هناك نوع آخر من الباعة يستخدم البلطجة ضد أصحاب الأراضي والعقارات، فمثلاً هناك بعض باعة الخضروات في شارع سليمان جوهر بحي الدقي في محافظة الجيزة كانوا يفترشون بضائعهم أمام أرض فضاء واستغلوا مساحة من الأرض كسكن لهم حتى أنهم بنوا بعض الغرف الخشبية ووضعوا أجهزة كاسيت وتلفزيون، وعندما شرع أصحاب الأرض في بناء برج سكني، قرروا ألا يبرحوا أماكنهم إلا بعد الحصول على شقة أو محل في تلك العمارة من منطلق أنهم في هذا المكان منذ عشرين عاماً ولهم أحقية في ذلك.
بلطجة "السايس"
وإذا سألت أي مصري يمتلك سيارة عن أكثر نوع بلطجة يؤرقه ويتعرض له أكثر من مرة يومياً فستكون الإجابات واحدة وهي بلطجة "السايس" الذي "يتطوع" لركن سيارتك مقابل الحصول على خمسة جنيهات حتى إذا تركت سيارتك عشر دقائق فقط وإذا لم تدفع فلن تجد مكاناً لسيارتك، وإذا وجدت فستجدها مجروحة، وخلف هذا "السايس" مكتب كبير يدير المنطقة بعلم من أجهزة الشرطة.
تنزيل الأسطوانة مقابل الشحن
هناك مراكز خاصة لعلاج الإدمان فى مصر يعمل بها المتعافون بعد تلقي علاجهم هناك، ليقوموا بعد ذلك بعمل "سبوبة" تجلب لهم الكثير من الأموال. يقول أحد المشرفين فى هذه المراكز والذي فضل عدم ذكر اسمه: يذهب المتعافي الى أهل صديق له كان يشرب معهم قبل أن يتعافى ويقوم "بتنزيل الأسطوانة" ومعناها أن يحكي لهم أن ابنهم مدمن ويحتاج إلى علاج و"شوفوا منظره بقى عامل ازاي وبيصرف فلوسة فين" وينجح فى إقناعهم بـ"شحن صديقه"، أي اقتياده عنوة إلى مركز علاج الإدمان.
تسعيرة الشحنة 500 جنية فضلاً عن 3000 جنيه مصاريف المركز العلاجي كل شهر. ويؤكد المشرف أن هناك حالات لا تحتاج أكثر من شهر ولكن يتم وضعهم نحو سبعة أشهر ليحصلوا كل شهر على مبالغ كبيرة.
الدفع مقابل البناء
هذا ما يعاني منه سكان مشروع "ابني بيتك" بمنطقة 6 أكتوبر. وحكى لنا محمود حسن، أحد سكان المنطقة، أن مجموعة كبيرة من الأشخاص يقطنون في هذه المنطقة ويقومون بهدم الأسوار وسرقة مواد البناء، ومطالبة أصحاب العقارات بدفع مبلغ شهري للحراسة.
ويلفت حسن إلى أن هؤلاء يضعون تسعيرة لكل من يريد البدء في بناء أي بيت ولكل مستوى في البناء مقابلاً، فالحفر له ثمن وكذا الأساسات وللدور الثاني تسعيرة تتجاوز الـ2000 جنيه ومَن يعترض يُهدد بالقتل وهدم الأساسات.
وتسجل شكاوى لدى جهاز مدينة 6 أكتوبر وتُحال إلى مديرية أمن الجيزة، ولكن دون جدوى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين