كسر الصمت المخيم على الشارع المظلم صوتاً منكسراً. سمعه يوسف، الشاب الجامعي ابن العشرين عاماً، ووجده يستعطفه أن يتريث في مشيته. توقف ونظر إلى مصدر هذا الصوت، ليجد رجلاً في العقد الخامس من عمره، يرتدي بدلة سوداء، ممسكاً هاتفاً محمولاً ثمنه مرتفع.
أناقته لم تستطع أن تمحو نبراته الخاضعة وهو يقول: "أعتذر عن هذا الموقف لكني فقدت حافظة نقودي وأحتاج إلى عشرة جنيهات فقط (0.6 دولار) لأصل إلى بيتي، وعذراً أطلب منك رقم هاتفك لأتصل بك لإعادة المبلغ".
لم يفكر يوسف طويلاً قبل أن يتخذ القرار، فالرجل الذي يبدو عليه الوقار والأناقة من الصعب أن يكون كاذبًا خاصة أنه تعهد رد المبلغ.
على الفور أخرج يوسف من جيبه عشرين جنيهاً (1.2 دولار) وأعطاها للرجل، وذهب كل إلى حاله، ولم يعتقد يوسف إلى هذه اللحظة أن هذا الرجل "متسول".
الأسلوب المنمق الذي أجبر يوسف على أن يعطي هذا المتسول أكثر مما طلب، دفعنا إلى محاولة اختراق هذا العالم الغامض، للتعرف على أبرز مظاهر التطور في فن التسول القديم والمتجدد، لنسأل كيف نجح رواد هذه المهنة في مواكبة تطورات العصر لتحقيق مكاسبهم؟
التنوع حسب الجمهور
يشير الدكتور سعيد صادق، أستاذ علم الاجتماع بالجامعة الأمريكية بالقاهرة، إلى أن أساليب التسول تختلف من شخص لآخر حسب نوعية الجمهور المستهدف. فلو كان المستهدف رجل دين يتم تغير الخطاب باسم الصدقات والثواب، ولو كان رجل أعمال يكون الدعاء بالبركة والنجاح والتفوق، ولو كان غير مصري تتغير اللغة والهيئة. وهكذا. وأضاف أن التسول في مصر يعد "بيزنس" ذا أرقام باهظة، إذ إن المحصلة اليومية للمتسول تفوق راتب وكيل وزارة أحياناً. وهو ما يغري الكثيرين من القابعين تحت مظلة البطالة في ظل الظروف الاقتصادية المتردية التي يعيشها المصريون هذه الأيام.من "الملابس المهلهلة" إلى "الأناقة"
أول مظاهر التطور في أساليب وفنون التسول، هو اللباس. التحول واضح من الطريقة التقليدية التي يرتدي فيها المتسول جلباباً مهلهلاً ممزقاً يستعطف من خلاله الزبون إلى ارتداء الملابس الأنيقة كـ "البدلة" للرجال أو "التايير" و"الفستان" للنساء. يعمل سالم، وهو ليس اسمه الحقيقي، مدير شؤون العاملين بأحد المستشفيات المصرية في أوقات الدوام الرسمية. ثم يمتهن عملاً آخر: التسول. تحدث مع رصيف22 مبرراً ذلك بأن راتبه لا يتجاوز 1400 جنيه (77 دولاراً) وعنده 4 أبناء، ثلاثة منهم في مراحل التعليم المختلفة. ارتداؤه للبدلة يدفع الناس للتعاطف معه، خاصة بعد أن يستقر في يقينهم أنه غير ممتهن للتسول، ولكن الظرف الذي تعرض له، أو ما أخبرهم به، هو الذي دفعه لذلك.من "الاستجداء" إلى "الصمت"
ثاني مظاهر التحول في وسائل التسول هو الانتقال من الاستجداء والعطف عبر العبارات التي يستهدف بها المتسول مخاطبة الجانب الإنساني لدى الزبون، إلى التسول الصامت، إذ يمتنع عن الكلام نهائياً، وله عدة أنواع. منها أن يقف المتسول على أحد جانبي الطريق مطأطئاً رأسه وماداً يديه دون أن يتحدث، وهو ما يفسره المارة بـ"تعفف" المتسول، ما يدفعهم لإعطائه بعض النقود. كذلك قد يكتفي المتسول بكتابة عبارة على ورقة تشرح ظروفه الأسرية أو الصحية وتسأل المساعدة.من الملابس المهلهلة إلى الأناقة ومن العبارات الرثة إلى اللغات الأجنبية، المتسولون في مصر يواكبون العصر
التسول الصامت والمقنع والتسول بالإنجليزية وانتحال الشخصية السورية... عن مهارات أكثر من مليون متسول في مصر
من "الشيوخ" إلى "الأطفال"
التطور الثالث في مسيرة التسول تمثل في التحول من استخدام الشيوخ وكبار السن لاستجداء عطف الناس، إلى استخدام الأطفال والرضع، وهو ما أثبت تعاطفاً أكثر. وهذا ما يفسر الأعداد الكبيرة في نسبة الأطفال من إجمالي المتسولين في مصر. ومن الملاحظ أيضاً أن بعض الأطفال المتسولين لا يقفون في الشوارع والطرقات للحصول على المساعدة، بل يلجئون إلى عدة طرق أخرى، منها أن تجد الطفل منكباً على وجهه ممسكاً بيديه كتاباً أو كشكول مدرسياً، وكأنه يقوم بأداء الواجب المدرسي، وهذا ما يثير شفقة الناس ويدفعهم للتعاطف معه وإعطائه المال.من "المباشر" إلى "المقنع"
كان في السابق يلجأ المتسول إلى العلانية في التسول واستخدام الطرق المباشرة، كأن يطلب مساعدة بصورة واضحة دون غموض أو مواربة. أما اليوم فالبعض يلجأ إلى طرق مقننة غير مباشرة، كأن تجد فتاة أو امرأة أو شيخاً يجلس وأمامه بعض السلع الخفيفة كـ"المناديل" أو "علب الكبريت" التي لا تدر دخلاً في الأساس، لكنها تصدّر صورة للناس مفادها أن هذا الرجل يسعى للحصول على المال من طريق العمل.من "اللغة الرثة" إلى "اللغات الأجنبية"
في ظل الظروف الاقتصادية الطاحنة التي يواجهها المصريون بات البحث عن زبائن جدد لري نهر المتسولين في مصر مسألة حيوية. وهو ما دفع البعض إلى تعلم اللغات الأجنبية لا من أجل العمل لكن لتيسير عملية التسول، خاصة أن الزبون المستهدف هذه المرة أجنبي وليس مصرياً. مسعد السيد، مرشد سياحي بمنطقة أهرامات الجيزة، أشار لرصيف22 أنه لاحظ في العامين الأخيرين وجود بعض الشباب الذين لا تتجاوز أعمارهم الثلاثين، يقفون أمام مخارج الأهرامات أو في مناطق الحسين والأزهر وأمام مداخل القلعة وغيرها من المناطق التي يرتادها السائحون، من أجل التسول عبر شرح ظروفهم المعيشية وحاجتهم للطعام والشراب. أرجع المرشد السياحي نسبة كبيرة من تفشي هذه الظاهرة إلى تراجع السياحة الأجنبية بسبب الظروف السياسية والأمنية، وهذا ما دفع الكثيرين من العاملين بهذا المجال إلى البحث عن أي مصدر رزق ولو بالتسول.العزف على وتر " التعاطف مع السوريين"
يتعاطف المصريون كثيراً مع السوريين الذين نزحوا إلى مصر هربًا من الحرب، وهو ما دفع بعضهم إلى اللجوء إلى التسول في مصر بعد أن ضاقت بهم السبل. لمى، وهو ليس اسمها الحقيقي، فتاة سورية تبلغ من العمر 16 عاماً، تجلس أمام أحد المساجد بمحافظة الشرقية وبرفقتها أخوها الرضيع، سائلةً المساعدة. تشرح لرصيف 22 دوافع ذلك قائلة إنها جاءت إلى مصر منذ عامين تقريباً وحاولت الالتحاق بأي عمل آخر، لكنها تعرضت للمضايقات، فلجأت إلى طلب المساعدة عبر التسول. وأوضحت أن تعاطف المصريين مع السوريين دفع بعض الفتيات المصريات إلى ارتداء "نقاب" وتقليد أصوات السوريات في السؤال والتسول، وهو ما تم كشفه أكثر من مرة، مؤكدةً أنها في إحدى المرات كادت تتعرض للضرب والإيذاء من قبل شاب اتهمها بأنها مصرية تنتحل شخصية فتاة سورية، لكنها أرته جواز سفرها فتركها وشأنها.مليون متسول في مصر
تتباين الإحصاءات بشأن عدد المتسولين في مصر، ففي دراسات حديثة للمركز القومي للبحوث الاجتماعية تأرجحت الأرقام بين 220 ألف ومليونَين، وهو ما فنده صادق، مشيراً إلى أنه لا يمكن لأي جهة في مصر أن تحصيهم، لأن أعدادهم متغيرة وليست ثابتة. ومن المتوقع ازدياد أعدادهم في ظل تردي المستوى المعيشي وغياب تطبيق القانون. فبالرغم من تجريم هذه الظاهرة قانونًا فإن العقوبة لا تطبق على من يمارسونها. كما أضاف أن هناك نوعين من المتسولين: متسول دائم، وهو الذي يمتهن التسول الدائم، ومتسول موسمي يلجأ للتسول في المواسم السنوية، كشهر رمضان مثلاً. الفقر، برأي صادق، ليس الدافع الوحيد للتسول. فهناك من هم على قدر كبير من الغنى، ويتسولون، معتبرين أن التسول مهنة أو وظيفة.ثقافة مصرية متأصلة
"التسول في مصر ثقافة طبيعية أصيلة"، يقول صادق لرصيف22، مؤكداً أنها تحولت إلى ظاهرة مجتمعية عامة لا يمكن إنكارها. ويرى أن المجتمع بميادينه وإعلامه بات ساحة لاستعراض فنون التسول ومظاهره التي تتطور بين الحين والآخر. وقد بات التسول أسلوباً تستخدمه مئات البرامج التلفزيونية باسم التبرعات والمساعدات الخيرية. وأضاف أن هناك محاولة لتسويق شخصية المتسول وكأنها شخصية عادية ضمن النسيج المجتمعي، غير ملفوظة كما هو الحال في الدول الأخرى. فالعديد من الأفلام السينمائية تطرق إلى هذه الظاهرة منذ عقود مضت، مثل فيلم "جعلوني مجرمًا" و"مملكة الشحاتين" و"المتسول" وكل هذه الأعمال تصب في إطار الاعتراف بالمتسول كمواطن له الحق في أن يمارس ما يريد دون مساءلة أو نبذ مجتمعي.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين