لا يرغب بدر في الشفاء. فقد بات مرضه مصدر دخله الرئيسي.
ولو صدق المثل القائل: تفاحة في اليوم تبعد الطبيب، لرمى التفاحة والدواء، كي يبقى الطبيب في حياته. فبدونه، ينقطع الرزق.
عُمر بدر، وهذا ليس اسمه الحقيقي، قارب الـ65 عاماً. بشرته سمراء، لحيته بيضاء قصيرة وجسده نحيل. قضى حياته بلا عمل ثابت. تعلم بعض الحرف اليدوية، ليقصده من يحتاج تصليح شيء متعلق بالكهرباء أو النجارة أو الحدادة.
عاش مع عائلته مُعدماً، يحاول كسب رزقة يوماً بيوم ليطعم أولاده الأربعة وأحفاده الخمسة عشر الذين لم يجد أباؤهم عملاً.
خلّف الجهد وكبر السن لديه العديد من الأمراض، فهو يعاني من السكري ومرض في الكبد وخلل في الجهاز المناعي.
بحث في المستشفيات الحكومية والتعليمية عن علاج مجاني لأمراضه فاكتشف أن ثمة فرصة لكسب الرزق فيها.
فالكليات والمستشفيات التعليمية بحاجة لمرضى يضعون أنفسهم تحت تصرفها ليشخص حالاتهم تلاميذ الطب ويدرسوها بشكل عملي. وقد وجد المرضى في هذه المستشفيات باباً خلفياً للرزق: حاجة الطالب للنجاح في الاختبار العملي، واستعداده لدفع المال لقاء ذلك.
قل لي ما مرضك لأعطيك المال
تتضمن امتحانات كليات الطب جانباً عملياً يختبر قدرة الطالب على تشخيص المرض بناءً على ما يصفه المريض المتطوع له من أعراض. تدريجياً يصبح المريض على خبرة تامة بالتوصيف العلمي لمرضه، بعدما يكرر الأطباء والتلاميذ المصطلحات أمامه، فيبدأ في مساومة الطلبة الجدد بأن يعطيهم الإجابات مقابل مبلغ من المال. بدايةً، كان الطلبة يعطون بدر مالاً على سبيل الشفقة، وفي أحيان أخرى لمساعدتهم إذا عجزوا عن تشخيص المرض. اليوم بات هو الذي يحدد التسعيرة مقابل هذه المساعدة. وأمثاله كثر.أمر معتاد بالنسبة للطلبة
منى، وهو وليس اسمها الحقيقي، طالبة في العام الخامس في كلية الطب بجامعة عين شمس. ترى أن متاجرة المرضى الفقراء بمرضهم، ليست ظاهرة غريبة بالنسبة لتلاميذ الكلية. "نحن نحتاجهم في كل الأقسام العملية، سواء تلك التابعة للكلية أو تلك التي نأخذها في الدروس الخصوصية"، تقول منى لرصيف22 وهي تقف عن مدخل جامعتها وتؤكد أن الطالب يحتاج كثيراً لمساعدة المرضى في الامتحانات قائلةً: "هم يجيدون التشخيص العلمي لحالتهم أكثر من أي طالب في الدفعة من كثرة ما سمعوا من الأساتذة". تقَسم منى المرضى، بحسب خبرتها إلى قسمين: المريض المتفرغ، وهو الذي يستطيع الوجود بالمستشفى التعليمي دائماً. والمريض غير المتفرغ، وهو الذي يقيم في أحد الأقاليم خارج القاهرة، ما يمنعه من الدوام بشكل كامل. في أحيان كثيرة، بحسب منى، يكون علاج بعض الأمراض سهلاً ولا يحتاج لأكثر من عملية جراحية غير مكلفة، لكن المرضى يرفضون ذلك لكي يستمر مورد رزقهم.الفقير في مصر: إذا أردت أن تكسب مالاً لا تحافظ على صحتك
جنيهات قليلة يكسبها الفقير في المستشفى بسبب مرضه تجعله يرفض الشفاءحيث يجني المريض نحو 500 جنيه في الأسبوع، أي ما يعادل 27 دولار. وقد يتجاوز ذلك أو يقل بحسب الأسعار التي يفرضها المريض وإصراره عليها. وهو ما يعادل تقريباً الدخل الأسبوعي لموظف الحكومة، بحسب صحيفة اليوم السابع. فعلياً، لا تكفي الـ500 جنيه الأسبوعية لتوفير أكثر من الطعام وبعض مستلزمات الحياة، وهو ما دفع بعض النواب للمطالبة برفع الحد الأدني للأجور في مصر. لكنها رغم ذلك "نعمة" لا غنى عنها بالنسبة للمرضى.
الدروس الخصوصية
بعد ساعات الدوام في المستشفى، وبالإضافة للأساتذة وغش الامتحان، يمكن للمريض أن يعمل في حلقات التدريب الخاصة، والتي يعدّها الأساتذة للطلاب مقابل مبلغ مالي، كدروس خصوصية، لتعويضهم عما يفوتهم في المحاضرات المكتظة والتي يصعب الفهم خلالها. وفي هذه الحلقات، يضاعف الأستاذ أجر المريض ليصل إلى ثلاثين جنيهاً (2 دولار) من ثلاثين طالباً في كل درس، لكون وجوده محورياً وليضمن الطبيب مواظبة المريض على الحضور.السعر ثابت ولا مجال للمساومة
تقول هبة، وهو ليس اسمها الحقيقي، والتي تدرس الطب في جامعة حلوان، إن دور المرضى في الامتحانات العملية لا يقتصر على المساعدة في تشخيص المرض فقط، ولكنه يمتد في أحيان كثيرة ليقوم المريض بحل ورقة أسئلة الطالب بيده. وقد أصبح بعض المرضى خبراء في وصف مرضهم بدقة قد يعجز عنها الطالب، بحسب هبة التي تقول: "لا نتعجب عندما نجد المريض يُطعم إجابته ببعض الكلمات الإنجليزية التي سمعها عن حالته من الأساتذة، وبعض المصطلحات الطبية التي تكون معقدة علينا". خلال الامتحان يخرج الطبيب من الغرفة تاركاً المريض مع التلميذ، وقد ينجم رفض الطالب الغش والدفع أن يعطيه المريض معلومات خاطئة عن مرضه وأعراضه، تجعله غير قادر على تشخيصه. لذا يدرك المريض تماماً حاجة التلميذ له. فيحدد التسعيرة كما يشاء. يراعي بدر حالات الطلاب الاجتماعية، ويدرك أن بعضهم فقير، فيقيم السعر وفقًا لملابس الطالب، ويطلب مبلغاً يراوح بين خمسين ومئة جنيه (3 إلى 6 دولارات) مقابل المساعدة. لكن هناك من يرفضون المساومة والتفاوض، وهناك من يضعون مطالب صعبة. وهذا ما تعلمته هدى بعدما ساومت مريضة طلبت منها 100 جنيه مقابل حل الأسئلة، فرفضت وطلبت تخفيض السعر. فما كان منها إلا أن وافقت، ومن ثم أعطت بعض الإجابات الخاطئة قاصدةً أن تخسر هدى 10٪ من الدرجة، أو ما يساوي تقريباً المبلغ الذي خسرته هي بسبب المساومة. يذكر مثلاً محمود صلاح، طالب الطب في جامعة حلوان، أن مريضة طلبت من إحدى زميلاته أن تعطيها الخاتم الذهب الذي ترتديه. وهددتها بإعطائها معلومات خاطئة عن حالتها إذا رفضت. وبذلك لا تستطيع حتى الاعتماد على نفسها في الإجابة. وهو ما اضطر الطالبة للرضوخ لرغبة المريضة، وبات شائعاً بين الطالبات أن لا يرتدين مجوهرات أيام الامتحان.هل ينشأ أطباء؟
تخَرج من كليات الطب المختلفة في مصر العام الماضي حوالي 12ألف طبيب. من الصعب طبعاً معرفة عدد الذين اجتازوا امتحانتهم العملية بمساعدة المرضى. ومن الصعب تحديد حقيقة كفاءتهم بتشخيص الأمراض. يعلم صلاح وزملاؤه، أن منظومة الدفع للمريض التي باتت عرفاً بين الطلاب تُعيق تعلمهم. لكن سطوة المرضى باتت بالغة لدرجة يصعب معها الانفكاك من شروطهم. كما أنه يعتقد أت هدف الطالب المصري المباشر، أياً كان مجال دراسته، هو تجاوز الامتحان "وبعدين يحلّها الحلّال". المرضى من جانبهم مُعدمون. طحنتهم الأوضاع الاقتصادية في مصر ولم تترك أمامهم سوى صحتهم ليتاجروا بها لتأمين بعض أساسيات الحياة لعائلتهم. وإن خيروا بين الشفاء والمرض، لاختاروا الأخير لأنه باب الرزق الوحيد للكثيرين منهم. "هذا العمل لا يرتضيه أحد"، يقول بدر لرصيف22، لكن ليس أمامه خيار آخر. أمنيته اليومية ليست الشفاء، بحسب قوله، فراحته الوحيدة، برأيه، في الموت الذي يخلصه من ألمه ومن همه ومسؤولياته.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...