لم يكن سهلاً أن يشمل الكتاب المقدّس، إن في اليهودية أو في المسيحية، سفراً لا يأتي على ذكر الرّب، ولا يستدعي غيباً أو وحياً أو ملاكاً، ويخلو من أي معجزة. مع ذلك، فرض "سفر إستير" نفسه في آخر الأمر على المدوّنة الكتابية اليهومسيحية. ورغم أنّ الملكة إستير، الشابة اليهودية في بلاط ملك الفرس أيّام الأخمينيين، تمكّنت من إنقاذ شعبها من مكيدة كانت تحضّر له، بحسب سفر إستير، لكنّها ارتكبت في الوقت نفسه إثماً صعُب على حكماء التلمود تجاوزه دون أخذ وردّ فيما بينهم، وذلك بزواجها مع الملك الفارسي غير المختون. فكيف يسوّغ بعد ذلك ضمّ السفر الذي يروي مأثرتها إلى الكتاب المقدّس؟ وكذلك بالنسبة إلى اللاهوتيين المسيحيين في القرون الأولى. فالعهد الجديد لا يذكر الملكة إستير ومأثرتها بكلمة واحدة. فكيف يبرّر إذاً دمج سفرها هذا في العهد القديم بحسب الترسيمة المسيحية له؟ ولماذا لم يعامل شأنه شأن مرويات كثيرة ذات طبيعة قصصية تعليمية إلى جانب الكتاب المقدّس، بدلاً من ضمّه إلى دفّتي الكتاب؟
نص ديني بلا إله ولا عجائب
بقي أنّ الملكة إستير فرضت نفسها، هي وقصتها التي لا يظهر أنّ هناك عناصر جديّة تسندها في الحقائق التاريخية للعصر الأخميني، في التاريخ الفارسي الذي تتخذه هذه القصة مسرحاً لها. فرضت إستير نفسها كملكة للأدب والفن الشعبيين اليهوديين قبل أي شيء آخر، كقصة ترمز إلى دخول "العناية الإلهية" في طور من "العمل السرّي"، فبدلاً من أن تسرد القصّة كيف يبعث الله بمرسليه لهداية قوم أو لإنقاذ قوم، فإنّها قصّة يتحرّك فيها مرسلو الرّب بشكل سرّي، دون أن تخبرنا هذه القصة عن أي اتصال علني له بهم، أو أي نصح ينقله لهم من خلال ملائكته، أو أي كرامات وخوارق يمنحها لهم، اللهم سوى الحيلة والتصبّر والمجازفة. هذا بالذات ما صنع أهمية نموذج "الملكة إستير" في المخيلة الدينية اليهومسيحية.ملكة جمال الشعب
ثمّة سفران في العهد القديم يحملان إسم إمرأة: "سفر روث" و"سفر إستير". وثمة سفران لا يذكران الرّب مباشرة أيضاً: "نشيد الأناشيد"، و"سفر إستير". لقرون طويلة، نُسِبَ سفر إستير إلى "عزرا الكاتب" في القرن الخامس قبل الميلاد، خلال فترة السبي البابلي. ولا يمكن التسرّع وربط عزرا الكاتب بـ"عزير" الذي يتحدّث عنه القرآن، كما لا يمكن الجزم بتاريخية شخصية عزرا، في حين يمكن اعتبار إستير شخصية من نسج المخيّل الشعبي اليهودي قبل أي شيء آخر. الملكة إستير هي، إن جازت المجازفة، "سندريللا العهد القديم". فالملك أحشويرش، الفارسي الأخميني الذي "ملك من الهند إلى كوش"، يغضب من زوجته الملكة "وشتي" التي رفضت المثول أمامه في مهرجان جمع رؤساء الشعوب، ويقرّر تتويج ملكة جديدة. السبب الذي يعلّل به كبير الخصيان لدى الملك أحشويرش في القصة، لزوم خلع الملكة "وشتي"، لافت، فهي لم تذنب فقط لأنها عصت زوجها الملك، بل لأنّها تكبّرت على جميع الرؤساء وجميع الشعوب، وسوف "يبلغ خبر الملكة إلى جميع النساء، فيحتقرن أزواجهن في أعينهن عندما يقال إن الملك احشويرش أمر أن يؤتي بوشتي الملكة إلى أمامه فلم تأت". يحتاج الملك إذاً إلى ملكة بديلة، "ملكة جمال من الشعب"، كي لا يتخلخل النظام العائلي الاجتماعي "الذكوري" في مملكته.قصة تشبه إحدى قصص "ألف ليلة وليلة" ولكن في الكتاب المقدّس لليهود...
هداسة التي تخفي أصلها
ينجح اليهودي مردخاي بن يائير، المسبي البابلي المتحدّر من أورشليم، والذي يعمل في قصر الملك، بأن يقدّم ابنة أخيه اليتيمة التي ربّاها هو، إلى "المسابقة الملكية"، بعد أن طلب منها أن تخفي قرابتها له، فـ"لم تخبر إستير عن شعبها وجنسها لأن مردخاي أوصاها أن لا تخبر". وإستير هي "هداسة" في الأصل، أما إسمها إستير، فقد اختلفت التفسيرات حوله، بين من ذكّر بأن اليهود في زمن السبي البابلي كانوا يتسمّون بآلهة البابليين، وبالتالي يكون اسم إستير تحويراً لعشتار، وبين التقليد اليهودي الذي أرجع "إستير" إلى "ستاره" بالفارسية، أي النجمة، وتحديداً نجمة الصبح، أو إلى الجمع "أستار"، نسبة إلى دخول النبوّة مع إستير في "دور الستر". وهنا، يتفاوت التراث اليهودي تحديداً في معنى توصيف الملكة إستير بأنها نبيّة أيضاً.هامان الشرير
في مقابل مردخاي وإستير، يظهر في القصة الوزير هامان بن همداثا. يصطدم هامان بمردخاي الذي يرفض أن يجثو أو يسجد له، فيحقد هامان على اليهود، وينجح في إقناع الملك بمشروع تهلكتهم، أولاً لأنهم يتبعون سنناً مغايرة "لجميع الشعوب ولا يعملون سنن الملك"، وثانياً لأن إبادتهم تعود بأطنان من الفضّة إلى خزانات المملكة. اللافت هنا أن "هامان" في العهد القديم اليهومسيحي هو وزير ملك الفرس، في حين أنّه وزير لفرعون في القرآن. تتابع القصة. يدخل مردخاي واليهود الذين علموا بقرار الملك تهلكتهم في مناحة عظيمة، وينقل مردخاي طلبه لابنة أخيه بأنّ عليها أن تبادر وتفعل شيئاً، فيما تذكّره هي بأنها لا تستطيع أن تدخل على زوجها الملك من دون استئذانه، وقد يؤدي دخولها عليه بلا إذن إلى مصرعها، إلا إذا مدّ لها الملك "قضيب الذهب". يتصلّب موقف مردخاي ويحذّر ابنة أخيه من أنها إذا خشيت افتداء شعبها والمغامرة بالدخول على الملك، فإن التهلكة ستصل إليها أيضاً. تقرّر أستير المجازفة لكنها تطلب من مردخاي واليهود، كما من جواريها، الصيام من أجلها، ثلاثة أيام، ليلاً ونهاراً، بلا مأكل أو مشرب. يعطيها زوجها الملك الأمان حين تدخل عليه، فتدعوه إلى وليمة هو ووزيره هامان، وفي الوليمة تدعو الإثنين إلى وليمة في اليوم الثاني. بين الوليمتين، يعود هامان إلى منزله مفتخراً بأنّ "إستير الملكة لم تُدخل مع الملك إلى الوليمة التي عملتها إلا يإاي، وانا غداً أيضاً مدعو إليها مع الملك". ثم يتذكر أمر مردخاي الواقف ليل نهار على باب القصر، متشحاً بالرماد، في انتظار ساعة تهلكة كل اليهود، ويقول إن كل هذا المجد لا يساوي عنده شيئاً كلما تذكر منظر مردخاي هذا. وعندها تحرّضه زوجته على أنّ يعد لمردخاي في الغد خشبة لصلبه عليها.الثأر المرعب
تمضي القصة إلى حيث ينقلب السحر على الساحر، خصوصاً عند الاجتماع في الوليمة الثانية، حين تصارح إستير زوجها بأن هناك من يعدّ لقتلها وأهلها، فيغضب الملك ويطلب أن يعرف من هو هذا المتآمر على الملكة وأهلها كي يعاقبه، فتقول له إنّه هامان. يُصلب هامان على الخشبة التي أعدّها لمردخاي، لكن اللافت في "سفر إستير" هو الثأر اليهودي من زبانية هامان في الأيام التالية، إذ يصل السفر لرقم 75 ألفاً قضوا على يد اليهود بعد الإطاحة بهامان، وتولية مردخاي مساعداً للملك: "فلم يقف أحد أمامهم لأن رعبهم سقط على جميع الشعوب". لعبت قصة إستير ومردخاي دوراً ملهماً للفن الشعبي اليهودي، كما تحوّلت إلى موضوع متواصل في تاريخ الفن التشكيلي الغربي، وبخلفيات وإضاءات مختلفة من رامبرانت حتى شاغال.
زادت أهمية إستير الدينية في الجماعات اليهودية التي حُملت على تبديل دينها ظاهرياً، والحفاظ عليه سراً، بالمارانيين في إسبانيا، والدونمة في الأمبراطورية العثمانية، إذ مثّلت إستير ملهمة لـ"الدين اليهودي السرّي"، حيث أنّه سفر لا يأتي على ذكر الإلهيات والغيبيات والأشياء الدينية.
ليس هناك ما هو "ديني" في سفر إستير سوى "الصوم"، ثم طلب الملكة إستير من شعبها إحياء ذكرى تدخلها لإنقاذه في يوم "القرعة"، يوم "الفوريم"، الذي تحوّل إلى أحد الأعياد الشعبية اليهودية في منتصف شهر مارس، ويسبق صومه، وتلبس فيه الأقنعة، ويحتفل بذكرى "الفوز بالقرعة"، ويشكر فيه "إلهنا الذي حارب عنّا".
رمز للحركة النسائية الصهيونية... وقبرها في إيران
في العصر الحديث، ومع الإقرار بقلّة العناصر التاريخية في "سفر إستير"، وارتباطه بالمخيال الشعبي، كما لو أنه كان قبساً من "ألف ليلة وليلة" ضمن الكتاب المقدّس، إلا أنّ التبرير الذي أعطاه هامان لقتل اليهود اعتبر بمثابة تلخيص لمنطق المعاداة العرقية لليهود، بعد تراجع المعاداة لهم على أساس ديني صرف. بالتوازي، نشأت المنظمة الصهيونية النسائية الأمريكية لتحمل اسم إستير الأصلي، "هداسا"، عام 1912، والتي أنشأت مستشفى هداسا في القدس، كأنّما لم تعد هناك من حاجة لإسم المنفى، إسم "الستر". لكن "إستير" لم تكن فقط إسماً لمنفى، كانت إسماً لنجمة الصبح. وإذا انوجد تقليد يميل إلى تحديد قبر إستير ومردخاي في الجليل، قرب الحدود اللبنانية، فإن التقليد الأكثر شيوعاً، هو زيارة ضريحهما في "بقعة إستير ومردخاي" في همدان بإيران، ولا يزال الضريح في مكانه إلى يومنا، ويمكن مشاهدته في هذا الفيدي:رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع