تُعرّف الطبقة الشعبية في مصر بأنها الفئة التي تلتزم بالعادات والتقاليد والفكر التراثي. ويشعر بعض أبناء هذه الفئة بأن الطب هو المجال الذي تفوّق به مسيحيو البلد، فتتكرر بينهم مقولة "دكتور مسيحي يبقى شاطر"، وقد توارثوها عن آبائهم لتصبح راسخة في معتقدات بعضهم.
تتفاوت الآراء بين متفق ومختلف، مع نسب مهارةٍ أو كفاءةٍ ما لفئة بسبب طائفتها. وفي كل حال، لم يرقَ هذا الشعور ليصبح نمطاً اجتماعياً، أو حتى ظاهرة في بلد يشكل الدين محوراً أساسياً في حياة سكانه واختياراتهم.
لكن، ما هي جذور هذا المعتقد في المجتمع المصري؟
الأقباط والطب
مارس المصري القديم التطبيب وطرق العلاج، ودوَّنها في بردياته الجامعة معظمَ اختصاصات الطب الحديث. فحوَت بردية "إيبرس" على سبيل المثل، عدداً كبيراً متنوعاً من الأمراض المعروفة في الاختصاصات الباطنية والأسنان والعيون والجلد وغيرها. وكانت مهنة التطبيب والعلاج، يقوم بها الكاهن أو رجل الدين أو الرجل المعروف بالصلاح والإخلاص للإله. وتلمّس المرضى في مصر الفرعونية الشفاء في المعابد، ثم تحولوا إلى الكنائس بعد دخول المسيحية إليها، ما يستدل به البعض على أن الطب في مصر متأصل بتأصل المسيحية وقديم بقدمها.هل تعرف "السبع بنات"؟
في محافظة قنا، لم يعرف الوعي المجتمعي الطب إلا من خلال ممارسة مسيحية يقوم بها فريق من الراهبات يحمل اسم "السبع بنات". "كنا نُدهش في طفولتنا، في قرية نقادة، حين نسمع أن هناك أطباء مسلمين، حتى كبرنا وعرفنا أن الطب يُدرّس في كلية خاصة يدخلها المسلم والمسيحي على حد سواء"، يقول ابن قنا، المسلم محمد أبو شنب (40 سنة) الذي يعمل مهندساً مدنياً. ويضيف: "كان المريض يذهب مباشرة إلى البنات، وهو فريق راهبات ضمن الإرسالية التبشيرية الفرنسية، يتكون من 7 راهبات متمرسات في الخدمة العامة، والتوعية الصحية، وهن موجودات في كل قرى مصر تقريباً". أنشأت الإرسالية الفرنسية ثلاث مدارس كاثوليك فرنسية، كانت الأولى من نوعها في مصر في عهد محمد علي، وهي: مدرسة الراعي الصالح بون باستور للبنات، مدرسة فتيان الإحسان عام 1845 ومدرسة اللعازريين عام 1846.في بلاد الشرق يُرد النجاح الإنساني في أي مجال مرداً دينياً، فيشعر البعض أن الطبيب المسيحي أفضل بسبب عقيدته
تتكرر بين الفئات الشعبية في مصر مقولة "دكتور مسيحي يبقى شاطر".. شباب يحاولون تفسير أصول هذا المعتقدامتد هذا النشاط إلى مدن الصعيد وقراه، حتى أنه لم تكن هناك قرية صعيدية تخلو من مركز طبي يعمل فيه الرهبان والراهبات الفرنسيسكان. وتطورت فرق راهبات "السبع بنات" في قرى مصر ومحافظاتها، إلى مستشفيات أو مُستوصفات صغيرة، تشبه وحدات الطوارئ الطبية وتحمل الاسم عينه. فنجد مثلاً مستشفى السبع بنات في منطقة العتبة بمحافظة القاهرة، وآخر يحمل الاسم نفسه في منطقة اللبان بمحافظة الإسكندرية، وثالثاً في محافظة الإسماعيلية. وتُعرف تلك المستشفيات بين العامة بـ "مستوصف السبع بنات" أو "مستوصف الراهبات". ويؤكد أبو شنب أنه تداوى على أيدي راهبات مستشفى البنات في صغره من مرض ألمَّ بعينيه وآخر بأذنيه. وتعالج في المكان نفسه في الماضي والده وجده، واعتادت العائلة التداوي على أيدي الراهبات المسيحيات وطب الكنيسة بشكل عام.
الدين، وليس العلم، أفيون الشعوب
تتفاوت الآراء بين متفق ومختلف مع إقبال الطبقة الشعبية في مصر على الطبيب المسيحي أكثر من المسلم، فهناك من يرى أن لا فرق في الجدارة سببه الدين، وأن الحَكَم بين طبيبين هو الخبرة العملية والسمعة الطيبة. يرى المحامي المسلم أحمد ي. (35 سنة) من محافظة أسوان أن الطبيب المسيحي لديه "نفحة إلهية" خارجة عن إرادته وترتيبه، وعن إرادة المسلم كذلك، وأقوى من الخبرة الدراسية والمهارة الحرفية في الطب. يصفها بأنها نفحة "السيد المسيح" الذي كان يبرئ الأعمى والأبرص بإذن الله، فَسَرَت المنحة والقدرة من المسيح إلى أبنائه، والذي اختار منهم أن يداوي المرضى ويمتهن الطب تجري بركة المسيح بين يديه فلا يبارحه المريض حتى يشفيه. بينما يعتقد روماني صبري (29 سنة)، كاتب ومخرج مسيحي، أننا في بلاد الشرق نردّ النجاح الإنساني في أي مجال إلى الدين. ويؤصل المجتمع هذه الفكرة في أذهان الأطفال والمراهقين، فنرى كثراً من المراهقين المسيحيين يُلخِّصون نجاح سير مجدي يعقوب، في أنه "ابن المسيح" وأنه شرف للمسيحية في العالم وليس شرفاً للعلم. فيما يظن أن كثراً من المسلمين يسحبون الصفات العكسية على د. أحمد زويل، كأنما هو يمثل الإسلام في العالم ولا يمثل العلم. ويضيف: "هذه فكرة عنصرية صنعناها بأيدينا، لكنها لا تثبت أي شيء للمسيحية أو للإسلام، لأنهما بالفعل ليس لهما دخل في أي مجال كديانتين". من ناحية أخرى، يرى روماني أن الأسرة المسيحية قليلة العدد في ما يخص الأطفال، ويرجع ذلك إلى الالتزام بالزوجة الواحدة، ما يجعل في إمكانها مادياً الإنفاق على تعليم الأبناء، وربما ينعكس ذلك نجاحاً في مجالات كثيرة كالطب. على عكس ذلك، تقول د.هالة منصور، الأستاذة في علم الاجتماع في جامعة عين الشمس، لرصيف22، أن الأسر المسيحية بمعظمها تتجه إلى زيادة عدد الأبناء، وأن الاعتقاد بأن الأسرة المسيحية قليلة العدد في ما يخص الأبناء، هو اعتقاد خاطئ، ولا يمكن تعميمه أو إيجاد سند أو إثبات علمي له. وقد بلغ عدد المسيحيين في مصر عام 2015، حسب التقرير الرسمي الذي أصدرته الكنيسة الأرثوذوكسية، 15 مليوناً."الدكتور المسيحي طبعاً أشطر"
تقول الحاجة زينب (78 سنة): "الدكتور المسيحي طبعاً أشطر... خدي عندِك المستشفى القبطي، تدخليها كأنك داخلة قصر بياض ونضافة ومعاملة حلوة ووشوش بتضحك زي الملايكة، قارنيها كده بمستشفى حكومي عادي، هتلاقي فرق كبير". وتضيف أنها شعرت بالراحة والأمان حين أودعت زوجها المستشفى القبطي في شارع رمسيس نجيب بالقاهرة. كان زوجها يعاني من آثار جلطة في المخ، وقد تحلى موظفو المستشفى بالضمير المهني والإتقان، الأمر الذي تعتبره الحاجة زينب صفة عامة في المسيحيين، وليس في الأطباء فحسب. وتعزو زينب ارتياحها إلى الطبيب المسيحي إلى أن عدد الأقباط في مصر أقل من عدد المسلمين، وهذا قد يكون دافعاً لهم للتميز. فيجتهدون ويبذلون جهداً أكبر، ليصبحوا مميزين. بينما لا يبذل المسلم المجهود نفسه، لأنه حتى إذا حاول، فسيصطدم بعدد كبير من المنافسين المسلمين. أما الحاجة ماجدة (63 سنة) التي ولدت ونشأت في حي شبرا بالقاهرة وتسكن الآن في حي المنيل، فلا تعرف ذاكرتها سوى مستشفى السبع بنات، ولم تصطحبها والدتها خلال طفولتها للتداوي إلا فيه. اليوم، لا تعلم ماجدة ما إذا كان المستشفى لا يزال قائماً، لكنها لا تعالج أحفادها إلّا في "مستشفى الرهبان" في شارع "الفرنساوي" وسط القاهرة، وهو المركز الطبي التابع للكنيسة القائمة هناك.رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون