كانت الساعة تشير إلى الخامسة والنصف صباح يوم الأربعاء 22 آذار 2017، وهو تاريخ تذكره جيداً هنادي أبو رموز (33عاماً).
استعد زوجها للخروج من المنزل في منطقة بيت حنينا بالقدس ذاهباً إلى عمله، ثم حصل ما لم تتوقعه العائلة. قُرع باب المنزل قرعاً سريعاً ومرتفعاً، تلاه اقتحام أعداد كبيرة من القوات الخاصة التابعة للجيش الإسرائيلي.
"هجموا علينا كأنا عاملين جريمة"، تذكر أبو رموز تلك اللحظات لرصيف22.
انتشرت القوات الخاصة من الجيش الإسرائيلي داخل المنزل، أمسكوا زوج أبو رموز وقيدوه، وبدأوا يصرخون: "البيت للهدم البيت للهدم".
فزع أطفالها الخمسة من نومهم، كان أصغرهم عمره 3 أعوام.
تتابع أبو رموز لرصيف22 قائلة :"قالوا لي، ولا إشي تحمليه، ولا إشي تمسكيه، ويلا برا البيت".
بعد جدال مع الجنود، طلبت من أبنائها حمل حقائبهم المدرسية وكتبهم، وأخذت أوراقهم الثبوتية وخرجوا من المنزل للمرة الأخيرة وهم يرتدون ملابس النوم.
تفاجأت بالعدد الكبير للقوات الخاصة التي تحاصر البيت والحي خوفاً من ردة فعل المواطنين.
صمتت أبو رموز لبضع ثوانٍ وكأنها تستعيد في ذاكرتها لحظة الهدم، ثم قالت بصوت مختنق: "دخلوا عمال البلدية طلعولنا أكم غرض رموهم فوق بعض، واقتربت آلة الهدم، غرزت كفها في وسط سقف منزلنا إلي لسا ما انتهينا من سداد ديون بناءه، وهدمته وإحنا واقفين نراقب هدم حياتنا بأكملها".
تراخيص البناء المستحيلة
إن كنت فلسطيني مقدسي وتعيش في مدينتك، فحياتك ستكون صعبة جراء بعض ممارسات مؤسسات الدولة الإسرائيلية تجاه العرب. هدم المنازل هي إحدى هذه الممارسات التي تأتي تحت غطاء قانوني، لكن هدفها برأي بعض السكان والقانونيين إخلاء المدينة من العرب وجعل حياتهم فيها مستحيلة. كمعظم مدن العالم، يتطلب تشييد منزل في القدس استصدار تراخيص للبناء. إلا أن تعقيد إجراءات التراخيص واستغراقها لسنوات طوال، في ظل ارتفاع أسعار الإيجار، يدفع بعض المواطنون للبناء على الأراضي التي يمتلكونها دون الحصول على ترخيص. ثم تتفاقم المشكلة، فبمجرد إتمام البناء يأتي رجال البلدية، يُآزرهم عناصر من الشرطة، وتُفرض عليهم غرامات وقرارات بالهدم. وقد أوضحت دراسة نُشرت في مؤسسة المقدسي لتنمية المجتمع تحمل عنوان "البناء في القدس إجراءات وتعقيدات"، أن استصدار التراخيص يتم بناءاً على قانون التخطيط والبناء الإسرائيلي الصادر عام 1965م، والذي يعتبر أداة لفرض سيطرة إسرائيل على الأرض واستملاكها للمنفعة العامة.بداية المشكلة
بدأت المشكلة مع أبو رموز وأسرتها قبل سبع سنوات، عندما شيّدت مع زوجها منزلهما الصغير الذي لا يتجاوز الـ80 متراً مربعاً، على قطعة أرض يملكونها، وهي صالحة للبناء وفقاً لمخططات البلدية. لم تحصل أبو رموز على الترخيص، فأوقفت الشرطة البناء بأمر من بلدية القدس، وطالبوها باستصدار رخصة ودفع غرامة مالية بقيمة 80 ألف شيكل، أي ما يعادل 21 ألف دولار. وبالفعل باشرت الأسرة الإجراءات بمساعدة محامي قسط لهم المخالفة، ريثما يتم إصدار الرخصة، تحت إشراف مكتب هندسي ساعدهم في وضع المخططات اللازمة. تقول أبو رموز لرصيف22: "كنا نرسل للمحامي مخططات هندسية وكان يطلع فيها عالمحكمة ويعمل على التأجيل لحد ما نستكمل الرخصة وسكنا بيتنا على هاد الأساس". وقد أكد المحامي المختص بقضايا الهدم في القدس، محمد دحلة لرصيف22 عبر مقابلة هاتفية أن المحامين يقومون بالتدخل لدى المحكمة في مثل هذه الحالات. "نطلب من المحاكم مهلة إذا كان بالإمكان لسنة أو سنة ونصف للحصول على ترخيص، وهنا تبدأ إجراءات محاولة ترخيص المبنى كي ننقذه من الهدم، بعد صرف مبالغ كبيرة على بناءه"، يضيف لرصيف22. ازدادت الضغوط الإسرائيلية على عائلة أبو رموز خلال العام الأخير قبيل الهدم، فلم تعطهم المحكمة المزيد من مهل التأجيل أو تقبل انتظار الحصول على الرخصة. وبدأت البلدية بتصوير المنزل، وإرسال رسائل للعائلة تقول فيها "هذا المنزل سُيهدم". حتى جاء اليوم الموعود.إن كنت فلسطيني مقدسي وتعيش في مدينتك، فحياتك في منزلك معرضة للهدم
هدم اسعيد منزله بيديه ليتفادى التكاليف، لكن البلدية لم تعترف بالهدم وفرضت غرامة بقيمة 7000 دولار
عقبات الحصول على تراخيص
إستصدار رخصة بناء في القدس بات في غاية الصعوبة، فهو يستغرق بين 3 إلى 5 سنوات، ويكلف أكثر من عملية البناء ذاتها، حيث تتجاوز تكلفة الرخصة 50 ألف دولار. المشكلة الأخرى أنه حتى وإن توفر المبلغ، فإصدار التراخيص أمراً معقداً بسبب الشروط والأوراق الثبوتية التي تطلبها اللجان والبلدية. يقول دحلة لرصيف22 بأن بلدية القدس التابعة للحكومة الإسرائيلية تفرض على المواطنين عند التقدم للحصول على ترخيص للبناء، جملة من الشروط أهمها "أن تمتلك أرضاً ليست مصادرة وتكون معدة للبناء وفق المخطط البلدي الهيكلي". و اعتبر دحلة جميع الشروط السابقة عقبات أمام المقدسيين بسبب مصادرة جزء كبير من أراضيهم منذ بداية الاحتلال قبل عقود، والمصادرة أثناء الأعوام الماضية لإقامة المستوطنات والبنى التحتية والجدار الفاصل. ولم تتوقف العقبات التي يواجهونها عند ذلك الحد، فوفقاً للقانون، هناك لجنة محلية ولجنة لوائية للتنظيم والبناء تتكونان من الإسرائيليين فقط. يقول دحلة: "هذه اللجان لا تعتني ولا تهتم بدرجة كبيرة بمصالح الفلسطينيين ومخططاتهم العمرانية واحتياجاتهم إلا اهتمام ضئيل، قد يكون الهدف منه رفع العتب أو الظهور أمام العالم أنهم يخططون للفلسطينيين". ويضيف أن البلدية منحت في السنوات الأخيرة القليل من تراخيص البناء للفلسطينيين ولكن ليس بالقدر المطلوب، أو بالدرجة التي تعطى فيها تراخيص البناء للإسرائيليين.مخالفات ما بعد الهدم
انتهى الهدم، وأصبح المنزل بكامل محتوياته وعفشه كومةً من الركام، ممّا اضطر أبو رموز وأسرتها إلى مغادرة مدينتها وحيّها إلى منزل عائلتها خلف الجدار الفاصل خارج مدينة القدس، في مخيم قلنديا. لكن المدفوعات لم تنتهي، فاليوم تطالبهم البلدية بدفع غرامة بقيمة حوالي 50 ألف شيكل، أي ما يعادل 14 ألف دولار، وهي تكاليف هدم المنزل، وفي حال لم يتم الدفع فتقرر عقوبة الحبس. ويتحمل صاحب العقار قيمة إيجار آلات الهدم ومصاريف عمال البلدية والشرطة، بالإضافة لتحمله مسؤولية تنظيف الهدم أو دفع مخالفات أخرى. تقول أبو رموز أن الهدف الحقيقي وراء وضع العراقيل وتصعيب الحصول على التراخيص هو تقليل عدد السكان الفلسطينيين في القدس. ذلك أنّ كلف الإيجارات باهظة، وقد تصل تكلفة إيجار منزل صغير إلى أكثر من ألف دولار شهرياً، فهي ليست بديلاً متاحاً للبقاء في المدينة بعد هدم المنزل، ويصبح من الاستحالة الاستفادة من العقار الذي تمتلكه الأسرة.تهوييد القدس
بدأت مشكلة البناء برأي أحمد الرويضي، الخبير القانوني الفلسطيني في مقال له نشر في موقع الجزيرة، في القدس الشرقية. فقد بقيت تحت الحكم الأردني حتى عام 1967 حينما احتلت إسرائيل كامل القدس. تم آنذاك اصدار وتعديل مجموعة من القوانين الإسرائيلية الخاصة بالإدارة والتنظيم العمراني، وتم اعتبار العديد من الأملاك على أنها أملاك غائبين، كما يوضح الرويضي في مقاله. يقول يعقوب عودة، مراقب حقوق الإنسان والسكن في مركز أبحاث الأراضي التابع لجمعية الدراسات العربية بالقدس، بما يتعلق بتقسيم المدينة لرصيف22: "القدس 54% منها منطقة مصنفة خضراء، بمعنى أنه ممنوع على أصحاب الأرض الفلسطينيين استخدامها". ويبين أن الأراضي الخضراء تنقسم إلى خضراء غامق، يمنع على صاحبها الانتفاع منها نهائياً، وهناك أخضر فاتح ويعني إمكانية زراعتها بمزروعات لا يزيد طولها عن متر، إلى حين تصنيفها لأراضي صفراء لإقامة المستوطنات عليها. بحسب قوله، 34% من القدس هي مستوطنات صودرت بشكل مباشر، حيث لم يبقى حالياً للفلسطينيين سوى 12% فقط من مساحة المدينة. وتقع ضمن هذه المساحة الصغيرة المباني والمساجد وجميع المنشئات، ما يعني أنه يبقى فقط قرابة الـ 4% للسكن، وهي مساحة ضئيلة جداً على السكان.هدموا بأيديهم
لدى داوود اسعيد (47 عاماً) سبعة أبناء، بنى غرفتين وحمام ومطبخ على الطابق الرابع في أعلى عمارة عائلته القديمة، في منطقة باب حطة القريبة من المسجد الأقصى، وما أن انتهى من التشييد حتى فوجئ بالبلدية تطلب منه الهدم أو استخراج رخصة بناء. ذهب للبلدية لتقديم طلب الرخصة فقوبل طلبه بالرفض. أخبرته إحدى الموظفات، كونه يعمل موظفاً على سيارة لنقل النفايات في البلدية وله علاقات جيدة مع الموظفين، أنه يهدر وقته وماله للحصول على أمر لن يتم، حتى وإن دفع المبلغ المطلوب. يقول اسعيد : "قالت لي، إحنا فعلياً ما بنصدر تراخيص بناء، وحرام على الوقت وحرام على المصاري إلي بدك تدفعهم". تكدست المخالفات حتى بلغت قيمتها الـ15 ألف دولار، وصدر قراراً بهدم منزله وإزالة الركام خلال 48 ساعة. هدم اسعيد عام 2013 منزله بيديه، ليتفادى التكاليف. ساعده في ذلك أصدقائه وأقاربه. إلّا أنه تفاجأ بعدم اعتراف البلدية والمحكمة بالهدم، وفُرض غرامة بقيمة 7 آلاف دولار لأنه ترك سوراً صغيراً في حيط بسطح العمارة. عاد وهدم السور بيده.تزايد العنصرية
يقول عودة لرصيف22 أن هناك أكثر من 35 حالة هدم مساكن في مدينة القدس لمواطنين فلسطينيين، إضافة إلى هدم أكثر من 110 من المنشآت التجارية والزراعية والحيوانية خلال الثلاثة شهور الأولى من العام الحالي. وأشار إلى أن المواطنين يدفعون غرامات باهظة تتجاوز الـ40 ألف دولار، بسبب البناء بلا ترخيص في مدينة تعتبر فقيرة مقارنةً مع المدن المجاورة. "بحسب التقدير الإسرائيلي فالقدس من المدن الفقيرة في إسرائيل، وإذا هي مدينة فقيرة بالنسبة لإسرائيل ومن نظر الإسرائيليين فما بالكم بالفلسطيني المقدسي"، يضيف عودة. برأي دحلة فإن هناك تفرقة في المعاملة من لجان التنظيم والبناء بين الإسرائيليين والفلسطينيين. فعلى الرغم من أن القانون لا يميز بينهم حرفياً ويبدو وكأنه يُطبق على الجميع، لكنه يعطي اللجان المختصة صلاحيات واسعة للتصرف. "عندما وضعت لجان التنظيم والبناء الرؤية الهيكلية لعام 2020 للقدس قبل قرابة الـ 10 سنوات، ذكرت أهداف سياسة التخطيط الإسرائيلية في المدينة وهدفها الرئيسي هو تهويد المدينة، وكان هدفها الاستراتيجي هو عدم ازدياد عدد المقدسيين عن 30%من مجمل سكان القدس الشرقية"، يضيف دحلةظروف أصعب من السابق
عماد جابر (41 عاماً) من بيت حنينا بالقدس. سكن في منزله ذي الـ85 متر مربع لسنوات ثلاث مع زوجته وأبنائه الخمسة، ثم أرسلت له البلدية قراراً بهدم منزله لعلة عدم امتلاكه رخصة بناء. لجأ إلى القضاء، وبعد مداولات وتأجيلات، صدر قرار الهدم، وتم تخييره إما أن تهدم له البلدية ويدفع 70 ألف شيكل (قرابة 19 ألف دولار) تكاليف الهدم أو أن يهدم منزله بيديه. كاسعيد، اختار جابر في شهر أيلول 2016 هدم منزله بيديه ليوفر التكاليف التي لا يستطيع دفعها بسبب حالته المادية الحرجة. "بعد قرار الهدم، لم يكن هناك وقت للتفكير، كان الوقت عبارة عن ساعات فقط، وإما الهدم ودفع التكاليف أو أهدم بإيدي"، يقول جابر. و يتابع متنهداً: "أنا كنت ساكن في بيت ملك على أرضي وظروفي المادية كانت صعبة، ولكن الآن أنا اضطريت للعيش في بيت إيجار والظروف صارت أصعب".رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...