"عدو عدوي صديقي"، ومع احتلال فرنسا وبريطانيا للعالم الإسلامي، من إندونيسيا إلى الجزائر، لم يكن مستغرباً أن تتعاطف أطياف من شعوب هذه المنطقة وقادتها مع رحلة صعود ألمانيا النازية. ألمانيا بدورها سعت إلى الاتصال بالحكام والنشطاء العرب والمسلمين، في إطار صراعها الدولي مع بريطانيا وفرنسا منذ الحرب الألمانية الفرنسية (1870-1871) مروراً بالحربين العالميتين الأولى والثانية. حين جرى تقارب بين قياصرة ألمانيا والدولة العثمانية وحارب كلاهما في فريق واحد خلال الحرب العالمية الأولى، انتشرت في العالم العربي شائعة مفادها أن القيصر فيلهلم الثاني، أمبراطور ألمانيا مسلم سراً، ليصبح لقب الحاج غليوم هو اسمه بين العامة العرب. وبعد ذلك بأعوام قليلة، بثت الدعاية النازية في الدول الإسلامية أن هتلر أسلم سراً وأصبح اسمه الحاج محمد هتلر، كما جاء في كتاب "الرايخ الثالث والمشرق العربي" للمؤرخ البولندي لوكاز هيرزويز، وترجمه إلى العربية المركز القومي للترجمة في مصر بعنوان "ألمانيا الهتلرية والمشرق العربي". وكان الهدف من ذلك استقطاب الدول العربية والإسلامية للأجندة الألمانية، وهو مخطط لم تستطع ألمانيا الاستفادة منه في الحرب العالمية الأولى التي انتهت باستسلام برلين وتقسيم وانهيار الإمبراطورية الألمانية. وفي هذا الإطار، بدأت الاتصالات الألمانية بالحكام والنشطاء العرب منذ عام 1930، أي قبل تولي هتلر السلطة عام 1933، ولكن مع بدء الحقبة النازية تطورت الاتصالات بشكل غير مسبوق، بحسب المصدر السابق.
مفتي فلسطين وهتلر
يمكن القول بلا جدال إن الأب الروحي للعلاقات العربية الإسلامية مع ألمانيا النازية كان الشيخ أمين الحسيني مفتي القدس، وكان في زمانه أبرز زعيم فلسطيني. ويكشف المؤرخ الألماني كلاوس جينسك Klaus Gensicke في كتاب "النازيون ومفتي القدس أمين الحسيني" (مترجم عبر مطبوعات دار الشعب في مصر) الذي يعد المرجع الأول للعلاقات النازية العربية - الإسلامية، أن الاتصالات بين هتلر والحسيني بدأت عام 1933، وأن الحسيني قاد سلسلة من المراسلات السرية بين هتلر وعدد من القادة العرب.
ويوضح المؤرخ أن هتلر دعم الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939) من أجل إثارة اضطرابات في المستعمرة البريطانية على أمل أن تمتد الاضطرابات إلى عموم المنطقة العربية.
ويكشف الكاتب والمؤرخ رزق الله بطرس، أول من قدم الوثائق النازية للمكتبة العربية في كتاب بعنوان "العالم العربي في وثائق سرية ألمانية 1937 - 1941"، عبر مراسلات الخارجية الألمانية أن برلين كانت بالفعل ضد فكرة قيام دولة يهودية في فلسطين، وكانت ترى أن المستعمرات اليهودية في فلسطين يجب أن لا تقوم لها إدارة موحدة بل يجب أن تبقى منفصلة باعتبارها بلديات أو مدن صغيرة ذات أغلبية يهودية دون أن تؤلف دولة في ما بينها، لأن هكذا دولة سوف تصبح دفعة استثنائية لـ"اليهودية السياسية"، وهو أمر مرفوض.
وتكشف تلك الوثائق أن ألمانيا النازية حين كانت تسمح لليهود الألمان بالهجرة إلى فلسطين، ظلت تراقبهم في الأراضي العربية، وعارضت دمج مستعمرات اليهود الألمان في الكيان الصهيوني المزمع إعلانه، وأنه حتى لو حدث وقامت بريطانيا بإعلان قيام دولة إسرائيل، فإن يهود ألمانيا في فلسطين لن يُسمح لهم أو لمستعمراتهم بأن تنضم إلى الدولة الصهيونية.
مع بدء الحقبة الهتلرية بثت الدعاية النازية في الدول الإسلامية أن هتلر أسلم سرا وأصبح اسمه الحاج محمد هتلر
"عدو عدوي صديقي" وفق هذا المبدأ تعاطفت شعوب المنطقة العربية وقادتها مع رحلة صعود ألمانيا النازية وهتلر
الملك فاروق: درس التنحي بعد هزيمة هتلر
في تلك الأثناء، كانت التظاهرات تخرج في شوارع مصر ضد الاحتلال البريطاني رافعة شعارات "إلى الأمام يا روميل" في إشارة إلى القائد الألماني أرفين روميل الذي قاد الجيش الألماني إلى هزيمة البريطانيين في ليبيا ثم اندفع داخل الأراضي المصرية إلى معركة العلمين الشهيرة. الهوى الشعبي المصري حيال ألمانيا النازية واكبه هوى ملكي ونخبوي. في كتابه "كيف سقطت الملكية في مصر؟ فاروق بداية ونهاية" رصد المؤرخ المصري محمد عودة اتصالات غير مباشرة بين هتلر وفاروق، بموجبها اتفق على أن يقدم العاهل المصري خدمات لوجستية وسياسية للقوات الألمانية بحال نجحت في دحر الجيش البريطاني من أجل عبور سلس لوادي النيل إلى قناة السويس ثم منابع النفط في الخليج العربي وإيران. وعقب هزيمة هتلر وانتحاره، اكتأب فاروق واعتزل شؤون القصر لفترة من الوقت، وقد درس فكرة التنحي عن العرش بعد أن أيقن أن الصوت الأوروبي القوي في وجه بريطانيا قد خمد. وجرت اتصالات ألمانية بعدد من أقطاب النخبة المصرية، مثل الفريق عزيز المصري الأب الروحي لتنظيم الضباط الأحرار، وكان يفترض أن يقود المصري جهوداً عسكرية حال وصول روميل إلى القاهرة من أجل ضبط الأداء العسكري لقوات تنزل إلى مصر للمرة الأولى. كذلك الأمر بالنسبة للسياسي الداهية علي ماهر رئيس الوزراء الأسبق، الذى يعتبر من أهم الشخصيات التي أمسكت باللعبة السياسية في مصر في مرحلة ما قبل يوليو 1952، بالإضافة الى تكوين خلايا نازية ضمت الضابط في الجيش المصري محمد أنور السادات وفقاً لكتاب "السادات... الحقيقة والأسطورة" للكاتب الصحافي موسى صبري. ويشير وزير الثقافة الأسبق د. محمد صابر عرب في كتابه "هجوم على القصر الملكي... حادث 4 فبراير 1942" إلى أن بريطانيا حينما أرسلت رتلاً من الدبابات لمحاصرة قصر عابدين، وعرض سفيرها على فاروق تكليف مصطفى النحاس رئيس حزب الوفد تشكيل الوزارة أو التنحي، كانت تدرك الميول الألمانية لفاروق وأن وزارة حسين سري مجرد دمية في يده. وكانت المطالبة البريطانية بالنحاس رئيساً للوزراء بسبب اتصال بريطاني بالنحاس، تلقت لندن على أثره ضمانات من زعيم الوفد بإبقاء مصر في الفلك البريطاني دون الجنوح إلى ألمانيا النازية.الشام النازي
ربما يجهل أبناء جيلنا اليوم أن سوريا ولبنان وقعا تحت الحكم الألماني ما بين عامي 1940 و1941، حين أعلنت سلطات الانتداب الفرنسي في دمشق وبيروت الولاء لحكومة فيشي، وهي حكومة فرنسية من صنيعة برلين حكمت أجزاء من فرنسا عقب الاحتلال الألماني - الإيطالي للجمهورية الفرنسية الثالثة عام 1940، ولم يكن لحكومة فيشي استقلال سياسي يذكر أمام برلين. وفي عام 1941، عينت ألمانيا بواسطة الانتداب الفرنسي خالد العظم رئيساً لسوريا، وألفريد جورج النقاش رئيساً للبنان. ثم قررت بريطانيا شن حملة عسكرية على الشام من أجل طرد القوات الفرنسية الموالية لألمانيا، وبالفعل دخلت بريطانيا دمشق في 24 يونيو 1941 ثم بيروت في 15 يوليو 1941. وبطبيعة الحال، أتى اختيار الشخصيات التي تحكم سوريا ولبنان بسبب هوى نازي لديهم وإلا لكانت سلطات الانتداب اختارت غيرهم.الملك غازي: من التعاطف إلى الرحيل
وفي العراق تواصلت ألمانيا سراً مع الملك غازي قبل تولي هتلر أو غازي الحكم، وكلاهما أتى إلى السلطة عام 1933. وحين توفى الملك فيصل الأول، ونظراً للهوى الألماني لولي العهد غازي، حاول رجل بريطانيا الأول في العراق نوري السعيد تسمية زيد بن الحسين باعتباره أخ العاهل الراحل، ولكن رئيس الوزراء رشيد عالي الكيلاني قاد عملية دستورية لتسمية غازي ملكاً للبلاد، وفقاً لما كتبه المؤرخ العراقي حامد الحمداني في كتابه "تاريخ العراق الحديث - الكتاب الأول". كانت بغداد تعاني من الاحتلال البريطاني، وأرسلت ألمانيا إلى الملك محطة إذاعية بتكنولوجيا ألمانية متطورة نصبها في قصر الزهور وكرس بثها لمهاجمة بريطانيا والدعاية لألمانيا. وفي صباح 5 أبريل 1939 فوجئ الشعب العراقي ببيان رسمي يعلن وفاة الملك غازي في حادث سيارة بالقرب من أحد القصور الرئاسية، ولم يكن الشعب العراقي جاهلاً عن مسعى ملك البلاد في التحرير من الاحتلال البريطاني، فاندلعت انتفاضة شعبية وقتل المتظاهرون القنصل البريطاني في الموصل مونك ميسن بعد اقتحام القنصلية. وفي سبعينيات القرن العشرين، كشف طبيب الملك الدكتور صائب شوكت رائد الجراحة العراقية في مقاله الشهير "هكذا كانت البداية" أن الكشف الطبي الذي قام به يوضح أن الملك توفي بضربة بآلة حادة على رأسه. وهكذا تخلصت بريطانيا من العاهل الشاب المناوئ لها والمتعاطف مع ألمانيا النازية. وتقرر تعيين الطفل فيصل الثاني ملكاً للبلاد على أن يصبح الأمير عبد الإله بن علي وصياً على العرش، ما يعني أنه أصبح الملك الفعلي للبلاد.ثورة رشيد عالي الكيلاني
وفي عام 1940 أرسل هتلر الشيخ أمين الحسيني إلى العراق، ففتح باب المفاوضات السرية بين برلين ورئيس الوزراء رشيد عالي الكيلاني، وكان للأخير لوبي داخل الجيش يؤيده سمي تنظيم العقداء الأربعة. ووفقاً للمؤرخ الحمداني، أجبرت بريطانيا الكيلاني على الاستقالة، ولكن الوزارة الجديدة سعت إلى تقليم أظافر العقداء الأربعة، وهنا وقع انقلاب عسكري في 1 أبريل 1941 وعُيّن رشيد عالي الكيلاني رئيساً للوزراء وخلع عبد الإله بن علي من الإمارة وعيّن الأمير شرف بن راجح حاكم إمارة الطائف السابق (آخر أمراء الطائف من الأسرة الهاشمية) وصياً على العرش. فأرسل السفير البريطاني كورنوليس برقية إلى رئيس وزراء بريطانيا ونستون تشرشل قال فيها: "إما أن ترسلوا جيشاً كافياً إلى العراق أو انتظروا لتروا البلاد في أيدي الألمان". كان واضحاً الهوى الألماني لانقلاب أبريل 1941، فأرسلت بريطانيا جيشاً من الهند بالإضافة إلى الفيلق اليهودي، وهم شباب من صهاينة أوروبا حاربوا مع الحلفاء، والفيلق العربي، وهو جيش الأردن تحت الإدارة البريطانية، وتم ترحيل الرعايا البريطانيين وتهريب العملات من البنوك على أيدي البريطانيين والموالين لهم.
ونفّذ الطيران البريطاني غارة حربية على قاعدة عسكرية بجوار بحيرة الحبانية في 2 مايو 1941 وردت حكومة الكيلاني بطلب المساعدة رسمياً من ألمانيا النازية، وبالفعل أرسلت ألمانيا في 18 مايو 1941 بعثة عسكرية جوية ضمت 5 طائرات حربية، بالإضافة إلى أطنان من السلاح عبر سوريا التي كانت تحت سيطرة حكومة فيشي، وأعلن الكيلاني الانسحاب من منطقة الإسترليني البريطاني.
ولكن الزحف العسكري البريطاني كان أسرع من المساعدات الألمانية، ولما أصبح الانجليز على مقربة من بغداد فر رشيد عالي الكيلاني وأمين الحسيني وشرف بن راجح إلى خارج البلاد في 29 مايو 1941 لتعيد بريطانيا عبد الإله إلى عرش العراق في 1 يونيو 1941 وتسقط الثورة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...