شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
هوس الحب الأول: خواطر شعرية ووهم أم نقطة ضعف القلب؟

هوس الحب الأول: خواطر شعرية ووهم أم نقطة ضعف القلب؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الثلاثاء 21 مارس 201706:59 م

أبيات شعرية جميلة يتناقلها الناس إلى يومنا هذا، تحكي قصص الشعراء وأشواقهم لحبهم الأول ومعاناتهم في الحفاظ عليه. ذلك الحب الجارف العاصف الذي يجتاح القلب، ويأتي في ريعان الشباب. لم يتفق الشعراء في وصفهم للحب الأول. منهم من صوره نزوة عاطفية ووهماً شبابياً، يمكن للمرء نسيانه في حال وجود حب آخر في حياته. ليردّ أبو تمام الطائي في أبيات شعرية تصف الحب الأول بالحب الأزلي، الذي لا يمكن لحب آخر أن يحمل سحره وتأثيره. حب سيبقى محفوراً في ذاكرته مهما طال الفراق. فيقول: نَقِّلْ فُؤَادَكَ حَيْثُ شِئْتَ من الهوى             مَا الْحُبُّ إِلاَّ لِلْحَبِيبِ الْأَوَّلِ كَمْ مَنْزِلٍ فِي الْأَرْضِ يَأْلَفُهُ الْفَتَى              وَحَنِينُهُ أَبْدًا لِأَوَّلِ مَنْزِلِ. يوافقه بذلك الكثير من الشعراء والأدباء، الذين وصفوا سحر الحب الأول ومكانته في قلوبهم. مثل قيس بن الملوح في حبه لليلى. فهو رغم تزويجها من غيره بقي يحبها إلى أن أعياه المرض ومات حزناً على فراقها. يقول: بِرَغمي أُطيلُ الصَدَّ عَنها إِذا نَأَت             أُحاذِرُ أَسماعاً عَلَيها وأَعيُنا أَتاني هَواها قَبلَ أَن أَعرِفِ الهَوى            فَصادَفَ قَلباً خالِياً فَتَمَكَّنا ويرى الشاعر داوود الأيوبي أن الإنسان يعيش دوماً مع حبه الأول ولا يألف العيش بدونه، إلى أن يفرقهما الموت: فطرتُ على حبِّي لها وألفتُهُ            ولا بدَّ أن ألقى بهِ اللَه معلنا ويؤكد ابن زيدون في شعره أن الخصام والبعد لا يمكن لهما إطفاء جمرة الحب في قلوب المحبين، ولا التخفيف من بريقها. ورغم انفصاله عن محبوبته لم ينسها، وظل يحاول استمالتها بشعره كما ورد في نونيته الشهيرة أضحى التنائي: بِنتـم وبنـا فمـا ابتلـت جوانحُنـا               شوقًـا إليكـم ولا جفـت مآقيـنـا.  نكـاد حيـن تُناجيكـم ضمائـرُنـا                يَقضي علينا الأسـى لـولا تأسِّينـا.  حالـت لفقدكـم أيامـنـا فَـغَـدَتْ                سُودًا وكانـت بكـم بيضًـا ليالينـا.

صورة الحسن تتلخص بالحبيب الأول

وهب بعض الشعراء والفقهاء إلى أبعد من ذلك في وصفهم لتأثير الحب الأول على الحياة العاطفية للإنسان. فأشاروا إلى أن الإنسان إذا أحب صفة في محبوبه لم يستحسن بعدها صفة تخالفها وإن كانت أفضل وأجمل. فمعايير الجمال باتت لدى المحب تتلخص بصفات المحبوب الأول.

في كتابه "طوق الحمامة في الألفة والآلاف" يحدثنا ابن حزم الأندلسي عن تجربته الشخصية مع الحب الأول، فيقول: "وعني أخبرك أني أحببت في صباي جارية لي شقراء الشعر، فما استحسنت من ذلك الوقت سوداء الشعر ولو أنه على الشمس أو على صورة الحسن نفسه، وإني لأجد هذا في أصل تركيبي من ذلك الوقت لا تؤاتيني نفسي على سواه، ولا تحب غيره البتة".

ويروي ابن حزم حكايات عن الحب الأول عرفها بنفسه: "وإني لأعرف من كان في جيد حبيبه بعض الوقص (أي قصر في رقبته) فما استحسن أغيد ولا غيداء بعد ذلك. وأعرف من كان أول علاقته بجارية مائلة إلى القصر، فما أحب طويلة بعد هذا. وأعرف أيضاً من هوى جارية في فمها فَوَهٌ لطيف (أي اتساع في الفم) فلقد كان يتقذر كل فم صغير ويذمه، ويكرهه الكراهة الصحيحة". ويروى أن قوم جميل لاموه في حبه لبثينة، وقالوا له ما هي إلا فتاة سمراء قصيرة وهناك من هي أجمل منها، فقال لهم خذوا عينيّ وانظروا لها تجدوها أجمل النساء.

الحب للحبيب الآخر

من الشعراء من كان على النقيض، ورأى أن الحب الأول وهم لا يلبث أن يزول سريعاً ويُنسى، ما خالج القلب حب آخر أكثر نضجاً وقوة. ولعل أبرزهم ديك الجن الحمصي أستاذ أبي تمام، الذي خاض تجربة حب فاشلة جعلته ينكر الحب الأول، ولا يعترف به. وشبهه بالخراب والأرض المقفرة. وقال عندما سمع شعر أبي تمام: كذب الذين تحدثوا عن الهوى           لا شك فيه للحبيب الأول ما لي أحن إلى خراب مقفر            درست معالمه كأن لم يوهل أرغب عن الحب القديم الأول          وعليك بالمستأنف المستقبل نقل فؤادك حيث شئت فلن ترى           كهوى جديد أو كوصل مقبل ويؤيده بذلك العلوي الأصبهاني الذي يرى أن الحب الحقيقي هو الحب الأخير، القادر على مسح الحب الأول وتغييبه: دع حب أول من كلفت بحبه           ما الحب إلا للحــــــبيب الآخر ما قد تولى لا ارتجاع لطيـبه          هل غائب اللذات مثل الحاضر ومن الشعراء من يعترف بالحب الأول ويخلص لذكراه، ولكنه يرى أن لا مهرب أو مفر من حب آخر يحيي القلب والهوى في النفس. ويقول أحدهم في أحد بيوت الشعر من كتاب "المستطرف في كل فن مستظرف": قلبي رهينٌ بالهوى المقتبلِ          فالويلُ لي في الحبِّ إن لم أعدِل أنا مبتلى ببليَّتين من الهوى         شوقٌ إلى الثاني وذكرُ الأول فهما حياتي كالطّعام المشتهى         لا بدَّ منه وكالشّراب السلسلِ قسم الفؤاد لحرمةٍ وللذَّةٍ            في الحبِّ من ماض ومن مستقبلِ إني لأحفظُ عهد أول منزل            أبداً وآلفُ طيبَ آخر منزل في حين يرى آخرون أن الحب ليس فيه أول ولا آخر، إنما يعيش في قلب المحبوب ساعة حبه وينسى مع غيابه وفقده: الحُبُّ للمَحبوبِ ساعةَ حُبِّهِ            ما الحبّ فيه لآخِرٍ ولأوَّل

حقيقة أم خيال؟

يبقى الحب مفهوماً نظرياً في فكر الإنسان إلى أن يعيش تجربة حبه الأول. مشاعر حب وإعجاب تخالجه في بداية حياته العاطفية تجاه شخص ما يراه مثالياً، وسواء كان الحب من طرف واحد أو من طرفين، وكللت قصة الحب بالنجاح أو باءت بالفشل، ستبقى ذكرى الحب الأول خالدة في فكر العديد من الناس ولا يمكن نسيانها. في حين يرى آخرون أن الحب الأول ليس حقيقياً إنما مغامرة عاطفية تفرضها تغيرات فيزيولوجية نفسية على الإنسان في مقتبل حياته، والحب الحقيقي هو الحب الناضج القادر عل مواجهة صعوبات الحياة. فهل الحب الأول هو الحب الأخير في حياة الإنسان؟ أو هو مجرد وهم يعيشه الانسان فترة المراهقة لا يلبث أن يزول عند إيجاد حب آخر حقيقي؟ وهل الإنسان قادر على أن يحب في حياته أكثر من حب حقيقي؟

سامر طرقجي، مهندس كهرباء ثلاثيني متزوج، يرى أنه لا وجود للحب الأول، فكل حب حقيقي يتسم بالقوة واندفاع المشاعر هو حب أول. ويقول: "أؤمن أن الإنسان قادر على أن يخوض أكثر من تجربة حب حقيقية دون أن تؤثر عليه أي تجربة فاشلة، فالشخص الذي يعيش بذكرى حبه الأول هو شخص لم يذق طعم الحب الحقيقي، يخيل له أنه تمكن من النجاة من حبه الأول بتجربة جديدة قد يراها ناجحة ولكنها بكل تأكيد فاشلة. الحب الحقيقي ينسي الإنسان أي تجربة حب سبقته، يهيمن على القلب والمشاعر و لا يسمح لأي ذكرى حب قديمة أن تشوبه". بينما علي محمد (29 عاماً)، يقول: "لا أؤيد من يقول إن الحب الأول هو وهم وثورة مشاعر كاذبة ينقصه النضج العاطفي بل هو حب حقيقي. لم يوافق أهلي على تزويجي من حبي الأول لصغر سني، والآن وعلى الرغم من اتفاقي مع زوجتي وحبي لها، أشعر دوماً بالحنين لرؤية حبي الأول. تهاجمني الذكريات كلما سمعت أغاني فيروز، وكلما شاهدت فيلماً كنا قد شاهدناه سوياً أو تكلمنا عنه. ويخفق قلبي قوياً كلما تذكرت صورة وجهها، وشممت رائحة تشبه رائحة عطرها". أما مرام حسن 30 عاماً، فترى أن الحب الأول هو تجربة عاطفية صادقة، لا بد أن نحمل ذكراها، ولكنها ليست حباً حقيقياً، إنما وهم عاطفي يتخلص الشباب منه بعد خروجهم من مرحلة المراهقة، فالحب الحقيقي الذي يقاوم صعوبات الحياة هو الحب الذي يولد نتيجة التوافق والتناغم بين العقل والقلب. وتضيف: "أحببت ابن جيراننا عندما كنت في الصف العاشر الثانوي، وبقيت على حبي له أربع سنوات وقد كان حباً متبادلاً بيننا إلا أن الظروف باعدت بيننا. أشعر اليوم بأن حبي له كان حباً طفولياً تسيطر عليه المشاعر فقط، أما حبي لزوجي فهو حب حقيقي قادر على تجاوز عقبات الحياة المشتركة".

ما رأي علم النفس؟

من وجهة نظر علم النفس، ليس الحب الأول وهماً، بل تجربة حقيقية يعيشها الإنسان، وتعد أول اكتشاف عاطفي يؤثر بقوة على مشاعره وخيالاته، ويترك أثراً عميقاً في الدماغ، ما يفسر انبثاق ذكريات الحب الأول في نفس المحب حتى بعد مرور عشرات السنين، ومروره بتجارب حب أخرى.

عن ذلك تقول الباحثة في علم النفس في جامعة دمشق سلوى السيد: "تثبت الدراسات الحديثة أن للحب الأول تأثيراً كبيراً على النفس البشرية، فالمشاعر والخيالات القوية التي يعيشها الشخص في أول تجربة عاطفية له تترك أثراً كبيراً في دماغه، يتحول إلى ذكريات حال خروج الشخص من تجربة الحب الأولى بسلام، وتشكل خطراً على الأشخاص غير القادرين على تجاوز تجربة الحب الأول، ويعيشون في هوسه. فهم لا يستطيعون تجاوز الماضي والمضي قدماً في حياتهم، ولا التخلي عن الحبيب القديم والبحث عن حب آخر، والبعض منهم وإن نجحوا في النسيان وإيجاد حب جديد، يقعون في فخ المقارنة مع الحبيب الجديد".

وتلفت السيد إلى أن دراسات نفسية عديدة أشارت إلى أن الحب الأول يؤثر على حياة المرأة أكثر من الرجل. فالرجل ينجح غالباً في إيجاد حب جديد ينسيه حبه الأول، ويثبت من خلاله جاذبيته وعدم تأثره بالانفصال. في حين تحتاج المرأة إلى وقت أطول في التخلص من آثار الحب الأول وتقبل خسارته، وتصاب بهوس الحب الأول الذي يترك آثاراً مدمرة على حياتها إن لم تنجح في تخطيه". وتنوه السيد بأن علاج هوس الحب الأول يتم بخطوات بسيطة، فأول ما على الشخص القيام به، هو تقبل الواقع وإخراج الحب الأول من دائرة المثالية، وإدخاله في دائرة الواقع. وتقبل التخلي عن الحبيب، ودفن ذكرياته في الماضي من خلال قطع أي اتصال به، والعودة للتفاعل مع العالم الخارجي، والبحث عن حب جديد وحلول واقعية تساعد في التكيف مع الواقع، لا الهرب إلى الخيال.  


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image